ستقرر زيارة الطبيب النفسي عندما تلاحظ أن مزاجك بدأ يتخذ شكلين يتناوبان بطريقة مزعجة، عندما تمر بك أيام تكون فيها كئيبا قليل الكلام كثير النوم مثل دبٍّ يقضي إجازة مملة في بياتٍ شتوي، ثم تصير طبيعيا ومعتدلا قبل أن تكتشف أنك صرت كثير الحركة وقال لك من حولك أنك كثير الكلام وقليل الأدب وأنهم أحيانا لا يفهمون ما تقصد، عندما تتحول إلى فأرٍ دؤوب كثير المشروعات وتشعر بالتهور والشبق الجنسي، وتقول لنفسك أكثر من مرة: إنني أفضل شخص في العالم، إنني عظيم.. عظيم جدا.. عظيم جدا.

سيرتبك الكثير من الأطباء أمامك، وقد يشخصونك خطأً بالفصام أو الاكتئاب. لكن طبيبا جيدا سوف يخبرك بأن لديك اضطراب غير شائع جدا يُدعى الاضطراب ثنائي القطب bipolar disorder.

سنتفق من الآن على تسميته بـ “ثنائية القطب” لئلا نردد كل لحظة هذا الاسم غير الرنَّان “الاضطراب ثنائي القطب”. ثنائية القطب هو مرض مزاجي نفسي يتميز بالتناوب بين حالات الهَوَس (النشاط والمرح) mania وحالات الكآبة depression؛ لذا يسمى أيضا manic-depressive illness (MDI) [1].

يتميز اضطراب ثنائية القطب بتقلبات شديدة في المزاج، بين الكآبة والهوس*.

أعراض الهوس [1]:

(1) المزاج العالي بلا سبب، (2) الطاقة العالية جدا، (3) الاهتياج، الغضب، (4) اليقظة، (5) الاستثارة، (6) الثقة بالنفس، (7) الطموح، (8) الاندفاع، (9) المخاطرة، (10)التمرد (مثل الإفراط في الممارسات الجنسية، إدمان المخدرات والكحول)، (11) القيام بأفعال غريبة، (12) ازدياد الأفعال الهادفة (التسوق، مثلا)، (13) الإسراف، (14) التهيج الجسدي (حركات لا إرادية، مثلا)، (15) التفكير في أشياء كثيرة في وقت واحد، (16) التشتت، (17) التحدث بسرعة، (18) التفكير في أمور غير واقعية، (19) الاستغناء عن النوم. وقد تنتهي هذه النوبة بالهذيان  delirium وجنون الشك paranoia.

أعراض الكآبة [1]:

(1) الحزن الدائم، (2) القلق، (3) اليأس، (4) انقطاع الأمل، (5) الشعور بالذنب، (6) الشعور باللاأهمية، (7) الشعور بالعجز، (8) الغضب والاهتياج، (9) فقد الشهية أو الأكل كثيرا، (10) نقص أو زيادة الوزن، (11) صعوبة النوم أو النوم بكثرة، (12) الكسل،(13) البلادة، (14) صعوبة التفكير والتركيز، (15) أفكار عن الموت ومحاولة الانتحار، (16) آلام مزمنة.

الأنواع [1]:

النوع الأول BP-1حالات متكررة من الكآبة والهوس الشديد (depression + mania).

النوع الثاني BP-2حالات متكررة من الكآبة والهوس الخفيف (depression + hypomania).

النوع الثالث (الاضطرابُ سريعُ التقلُّب rapid cycling): حدوث 4 نوبات أو أكثر في السنة.

الأسباب وعوامل الخطر [1]: وجود قريب مباشر من الدرجة الأولى (أب، أخ…) مصابٍ بالاضطراب ثنائي القطب، العوامل الجينية، التأثير البيئي (المجتمع، العائلة…)، أحداث مؤلمة في الطفولة (عنف أسري، فقد أحد الأبوين…)، أحداث الحياة (نهاية علاقة عاطفية، فراق شخص عزيز).

مصير (مستقبل) المرض [1]: كأي حالة طبية، مستقبل المرض قد يكون جيدا مع العلاج المناسب، وقبل هذا، التشخيص الصحيح مهم جدا لأن بعض الأطباء يخلط بين ثنائية القطب واضطرابات نفسية أخرى مشابهة. ثنائية القطب مرض مزمن يتطلب عناية طبية طول الحياة، ولأنه لا يوجد علاج نهائي له يجب على المريض الالتزام بتناول علاجاته الدوائية باستمرار حتى في غياب الأعراض. بعض المرضى يستجيبون بشكل جيد للأدوية ويتحسنون، وبعضهم بشكل متوسط، وبعضهم لا يستجيبون أبدا. العلاج المناسب يقلل من تكرار وشدة النوبات.

العلاج [1]: الغاية من العلاج هي تخفيف تقلبات المزاج والأعراض الأخرى ليستطيع المريض عيش حياة منتِجة وفعالة. ليس هناك شفاء تام، لذا يحتاج المرضى إلى تلقي العلاج طول العمر. العلاج الأكثر فعالية هو الذي يجمع بين الأدوية والعلاج النفسي psychotherapy (العلاج بالكلام مع الطبيب النفسي).

الأدوية [1,2]:

مثبتات المزاج: الليثيوم (Lithobid®)، حمض الفالبرويك (Depakene®)، ديازيبينس (Tegretol®, Equetro®)، لاموتريجين (Lamictal®).

مضادات الاكتئاب: كلوزابين (Clozaril)، أولانزابين (Zyprexa)…

مضادات الصرع: حمض الفالبرويك (Depakote®)، توبيراميت (Topamax®)…

العلاج بالصعق الكهربائي: لحالات الذُّهان الشديد psychosis (الانفصال عن الواقع) ومحاولات الانتحار في الأشخاص الذين لم ينتفعوا من الأدوية أو العلاج النفسي.

نبتة سانت جونز St. John’s wortوصفة عشبية لها تأثير مضادات الاكتئاب.

الحمض الدهني أوميغا-3: كعلاج إضافي إلى مضادات الاكتئاب.

الإحصائيات [3]:

في دراسة حديثة (2011) أجريت على 61,392 شخصا من أحد عشر بلدا من الأمريكتين وأوروبا وآسيا قُدِّر انتشار ثنائية القطب بـ 1%، وكان النوع الأول BP-1 أكثر انتشارا (0.6%) من النوع الثاني BP-2 (0.4%).

نسبة الانتشار الأعلى كانت في أميركا (4.4%) والنسبة الأقل في الهند (0.1%). الذكور أكثر عرضة للإصابة بالنوع الأول والإناث أكثر عرضة للإصابة بالنوع الثاني.

ثلاثة أرباع المصابين كانت لديهم أمراض نفسية أخرى comorbidity قد تصل إلى ثلاثة أمراض أو أكثر في أكثر من نصفهم. أمراض القلق هي الأكثر شيوعا (خصوصا نوبات الخوف panic attacks) تليها الأمراض السلوكية وأمراض استعمال الأدوية drug abuse.

واحد بين كل أربعة مصابين بالثنائية القطبية النوع الألو وبين كل خمسة من النوع الثاني حاولوا الانتحار في الاثني عشر شهرا السابقة للدراسة.

فيفيان لي
الممثلة البريطانية الكلاسيكية (فيفيان لي) بطلة فيلم “ذهب مع الريح”
شُخِّصت بثنائية القطب في أواخر حياتها (ويكيبيديا)

الأصول التطورية للاضطراب ثنائي القطب EOBD: 

مرضى الفُصام (A)
مرضى ثنائية القطب (C)

دراسة حديثة (2012) [4,5] تستفيد من أبحاث طبيب النفس الألماني إرنست كريشنر (1970) التي نشرها في كتابه “البنية الجسدية والشخصية Physique & Character”. راجَعَ كريشنر الأبحاث حول علاقة الجسد بالمزاج الصحي منذ القدم واستنتج أن الإنسان يندرج تحت نوعين وصفيين. لاحظ كريشنر أن المصابين بثنائية القطب يميلون إلى أن يكونوا غِلاظ البنية pyknic (سِمان ولهم أطراف قصيرة ورؤوس ضخمة ولا يتميزون بأعناق طويلة)، أما المصابون بالفصام فيميلون إلى أن يكونوا ضِعاف البنية leptosomic (طوال ضعاف البنية).

وصفُ كريشنر للبنية الغليظة يقابل وصف البنية الجسدية التي تكيَّفت مع البرد cold adapted، وبالرغم من أن “تكيُّف البرد” لم يكن جزءا من فرضيته، يشير الترابط بين ثنائية القطب والبنية الغليظة إلى أن الأسلاف الذين عاشوا في المناطق الشمالية المعتدلة -المنطقة الافتراضية التي يكون فيها الشتاء طويلا وقاسيا والصيف قصيرا جدا في تلك الفترة- طوَّروا سلوكاتٍ ثنائية القطب (اكتئاب + هوَس) كاستجابة للحالات المناخية شديدة البرودة في عصر البليستوسين (قبل أكثر من مليوني سنة). فإذا كنا في نوبة الهوَس (نشطين جدا ومرِحين ونتمتع بطاقة عالية) طول الربيع والصيف سنكون قد أنجزنا الكثير من الأشياء بحيث يمكننا أن نهدأ ونميل إلى الكسل والنوم (نوبة الاكتئاب) طول الشتاء (ساعدتني هذه المقالة [6] على فهم هذا الجزء).

السيناريو بسيط وقابل للفهم:

عندما يأتي الربيع تشرقُ الأرض بنورٍ وحيوية ويخرج الأسلاف نشطين مدفوعين برغبة الحياة وشهوة الجنس، إنهم لم يتكلموا منذ فترة طويلة فبلا شك سيثرثرون بلا توقف، وستهطل الأفكار والمشروعات على رؤوسهم كالغيث، يُهرعون إلى الصيد ويجمعون ما يستطيعون من المؤن لأجل شتاءٍ لن يتميّز بالشفقة، هم يعلمون أن هذا النور لن يدوم وأن هذا الدفء ستأتي بعده ليالٍ موحِشة، فلا حاجة إلى النوم إذن، لا حاجة إلى الأكل كثيرا، لا حاجة إلى الكسل… وعلى كل واحد منهم أن يثق في نفسه وأن يغامر ويضحِّي ليبقى.

ثم يذبل قنديلُ الصيف فتبدأ الأرض بالتيبُّس ويصير الهواء ثقيلا باردا، لو لم يكونوا نشطين في الفصلين السابقين لأهلكهم الشتاء، لكنهم الآن مطمئنون، لديهم ما يكفي من القوت، ونساؤهم حبالى، فمن الأفضل أن يناموا طويلا، ويأكلوا كثيرا، ويعتزلوا النساء، ويتلذذوا بالقعود والكسل في بياتٍ شتوي طويل.

ولأن هناك أدلة علمية على وجود جينات مشتركة بيننا وبين النياندرتال، تقترح هذه الدراسة أن ثنائية القطب لها أصل نياندرتالي. يعزز هذا الافتراض أن نسبة شيوع ثنائية القطب بين الأشخاص من أصل أفريقي (ليست لديهم جينات نياندرتالية) أقل بكثير من نسبة الشيوع بين الأشخاص من أصل غير أفريقي.

كما سبق، إذا كانت نوبات الهوَس mania تبلغ ذروتها في فصلي الربيع والصيف حيث الضوء والدفء، فمن المفترض أن تخف هذه النوبات بعد العلاج بالضوء phototherapy، وكذا نوبات الكآبة من المفترض أن تزيد في أوقات العتمة light deprivation وهذا ما أثبتته بعض التجارب (راجع القسم الخامس من الدراسة).

أيضا، هذه الاستنتاجات متوافقة مع آلية اضطراب ثنائية القطب، حيث تحدث معظم نوبات الكآبة ليلا ونوبات الهوس نهارا. سيكون هذا الافتراض مفهوما أكثر إذا علمت أن نوبات الهوس بلغت ذروتها في فصلي الربيع والصيف في 12 دراسة من 15 دراسة أجريت في فترات مختلفة من عام 1920 إلى 1995 في أكثر من عشر دول.

ذروة نوبات الهَوَس حدثت في الربيع spring والصيف summer
عبارة “no peak” تعني أن ذروة الهوس لم يمكن تحديدها أو أنها لم تكن موجودة

في نهاية الدراسة تقول الباحثة Julia A. Sherman: “لا توجد حقائق معلومة تعارض هذه الفرضية، لكنها تحتاج إلى المزيد من التجارب والاختبارات. متانة هذه الفرضية تكمن في قوتها التفسيرية وتوافقها مع الحقائق المعلومة”.

المراجع:

* تُترجم كلمة mania كثيرا إلى الجنون، لكنني لا أحب هذه الترجمة لأنها تتضمن معنى وصميًّا stigmatizing، وبعض المراجع تترجمها إلى الابتهاج وهي كلمة غير دقيقة، ومع أن كلمة كلمة “هَوَس” تبدو غامضة إلا أنها تعطي انطباعا واضحا عن السلوك الذي يميز هذه الحالة، وهو الابتهاج المفرط المصحوب بالنشاط المفرط.

[1] www.rightdiagnosis.com/b/bipolar/misdiag.htm

[2] www.mayoclinic.org/diseases-conditions/bipolar-disorder/basics/treatment/con-20027544

[3]www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3486639/pdf/nihms410850.pdf

[4] www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/22036090

[5] www.cogsci.ecs.soton.ac.uk/cgi/psyc/newpsy?12.028

[6] evolutionarypsychiatry.blogspot.com/2011/11/evolutionary-psychiatry-and-bipolar.html