“في أوائل الثمانينات من القرن العشرين أذهل علماء الوراثة الذين يدرسون الذباب عند اكتشاف مجموعة صغيرة من الجينات تسمى جينات هوكس، وهي مسئولة عن تنفيذ خطة جسم الذبابة أثناء مرحلة النمو المبكر – أي أنها تحدد مكان الرأس، والأرجل، والأجنحة وهكذا. ولم يكن العلماء على استعداد كامل لما جاء بعد ذلك، حيث حصل زملاؤهم الذين يقومون بدراسة الفئران على جينات هوكس نفسها وبالترتيب نفسه وبالوظائف نفسها، والجين نفسه يملي على جنين الفأر مكان نمو الضلوع يملي على جنين الذبابة مكان نمو الأجنحة (لكنه لا يملي الكيفية)، ويمكنك تبديل هذا الجين بين النوعين. أما علماء الأحياء فلم يكن هوالك تمهيد لهم لتلقي هذه الصدمة، وفي الواقع يعني هذا أنه كانت هنالك خطة أساسية لبناء جسم جميع الحيوانات، قد تمت في جينوم الأسلاف المنقرضة منذ أمد طويل يصل إلى أكثر من 600 مليون سنة، وهذه الخطة حفظت نفسها في نسل الأجيال المتعاقبة (ومن بينهم أنت أيها الإنسان).

العلوم الحقيقة
تعد جينات هوكس وصفة للبروتينات التي تسمى “بعوامل النسخ”، وتعني أن وظيفتها هي “تنشيط” الجينات الأخرى، ويعمل عامل النسخ من خلال الالتصاق بمنطقة تسمى “المحرك” في الحمض النووي DNA، وفي بعض الكائنات مثل الذباب والإنسان (على عكس البكتريا على سبيل المثال)، تتكون المحركات من حوالي خمس متواليات منفصلة من شفرة الحمض النووي DNA، وعادة تكون في موقع عكس الجين نفسه، وأحيانا تكون في الاتجاه نفسه، ويجذب كل من هذه السلاسل عامل نسخ مختلفا، يقوم بدوره تنشيط أو تثبيط نسخ الجين، ولن تنشط معظم الجينات حتى تحصل محركاتها على عوامل النسخ، ويعد كل عامل من عوامل النسخ في حد ذاته منتجا لجين أخر في مكان ما في الجينوم، ولذلك فان وظيفة العديد من الجينات هي مساعدة تنشيط أو تثبيط الجينات الأخرى، وتعتمد قدرة الجين بالنسبة لتنشيطه أو تثبيطه على حساسية المحرك الخاص لهذا الجين، فإذا قام المحرك بتغيير أو تبديل في السلسلة، فلسوف تجد عوامل النسخ للجينات بسهولة، وقد يصبح الجين أكثر نشاطا، وقد يكون الجين اقل نشاطا في حالة تسبب التغيير في حث المحركات على التثبيط عوامل النسخ أكثر من تنشيطها.
لذلك يمكن لهذه التغيرات الصغيرة في المحرك أن يكون لها تأثيرات فعالة على التعبير الجيني، وقد تكون المحركات مثل الترموستات أكثر منها مفاتيح، ففي هذه المحركات يتوقع العلماء وجود أكثر التغيرات تطورا في الحيوانات والنباتات – وذلك على عكس البكتريا تماما، وعلى سبيل المثال فالفئران لها رقبة قصيرة وجسم طويل، والدجاج له رقبة طويلة وجسم قصير، وإذا قمت بعد الفقرات في الرقبة والصدر بالنسبة للدجاج والفأر، فلسوف تجد أن للفأر 7 فقرات في الرقبة و13 فقرة في الصدر، أما الدجاج فلها 14 فقرة في الرقبة و7 فقرات في الصدر، ويكمن مصدر هذا الاختلاف في أحد المحركات الملحقة بأحد جينات هوكس والمسمى بهوكس س8 (Hoxc8)، وهو جين يوجد في كل من الفئران والدجاج، ووظيفته هي تنشيط الجينات الأخرى التي تصدر تعليمات النمو. يتكون المحرك من فقرة من الحمض النووي DNA بها 200 حرف، وبها عدد صغير فقط من الأحرف المختلفة في كلا النوعين، وفي الواقع، قد تكون التغيرات في حرفين من هذه الأحرف كافية لتظهر هذا الاختلاف، وتكون النتيجة هي تأخير تعبير جين هوكس س8 بشكل طفيف في عملية نمو جنين الدجاجة، وبما أن نمو العمود الفقري يبدأ بالرأس، فهذا يعني أن الدجاجة سوف يكون لها رقبة أطول من الفأر. وفي أفعى البايثون يكون التعبير الجيني لهوكس س8 مباشرة من الرأس ثم يستمر حتى يصبح من الجسد كله، ولذلك تتكون أفعى الباثيون من صدر واحد طويل، أي أن لها ضلوعا أسفل الجسم كله.”

المصدر: كتاب (الطبع عبر التطبع – مات ريدلي)