تناقلت وسائل الإعلام على مدى واسع، تحول الفيلسوف الإنجليزي أنتوني فلو (1923-2010) في أواخر حياته (عام 2004)، من الإلحاد إلى الإيمان بالله. وفي مقابلة له مع جاري هابرماس، تحت عنوان مضلل: “حجّي من الإلحاد إلى الإيمان”، شرح فلو موقفه الجديد، والذي يعتبره “ربوبية” وليس “إيماناً”.

حتى وفاته، لم يغير فلو رأيه بشأن عدم كفاية الحجج الفلسفية المختلفة لله، والتي غطاها باقتدار في كتابه الرائع: الله والفلسفة. فعلى سبيل المثال، كان غير مقتنعاً بالحجة الأخلاقية على وجود الله، وحجة كلام الكونية (سميت الحجة الكلامية لأنها مشتقة من علم الكلام). برغم ذلك، فقد أبدى فلو إعجابه بالادعاءات الحديثة بأنّ العلم قد اكتشف برهاناً على وجود الله.

لم يرفض فلو بشكل كامل الوحي الديني للحقائق العلمية. وكما أخبر هابرماس في المقابلة:

“أنا منفتح له [يقصد الوحي الديني للحقائق]، ولكني لستُ متحمساً بشأن وحي محتمل من الله. ولكن على الجانب الإيجابي، فأنا معجب للغاية بتعليقات الفيزيائي جيرالد شرودر على الإصحاح الأول بسفر التكوين”.

بالإضافة لذلك، فقد رحب فلو بالحجج المعاصرة للتصميم الذكي للكائنات الحية: “أعتقد أن أكثر الحجج المثيرة للإعجاب على وجود الله، هى تلك المدعومة بالاكتشافات العلمية الأخيرة. ومع ذلك، فإنني أعتقد أن الحجة على التصميم الذكي قوية بشدة عما كانت عليه عندما قابلتها لأول مرة.”

هل سفر التكوين “دقيق علمياً”؟

في كتابه المنشور عام 1998 بعنوان: علم الله وأعمال أخرى، حاول جيرالد شرودر التوفيق بين الإنجيل والعلم الحديث. سوف أناقش فقط في هذا المقال، الادعاء الذي وجده فلو مثيراً للإعجاب بأنّ مفهومنا الكوني الحالي لتاريخ الكون قد ذُكر في سفر التكوين.

يؤكد شرودر في كتابه أن ستة أيام من الخلق في الإنجيل تمتد حقاً لحوالي 15.75 مليار سنة من “الزمن الكوني”. وهذا ما يعتبره نبوءة إنجيلية ناجحة، حيث يفصلها فقط 2 مليار سنة عن التقديرات الحالية لعمر الكون (والذي يبلغ 13.8 مليار سنة).

دعونا نرى كيف استخرج شرودر هذه النبوءة من سفر التكوين. فقد حصل على الزمن الكوني للخلق بضرب 6 أيام (المذكورة في الإنجيل) في الانزياح الأحمر للضوء عند لحظة معينة في بداية الكون تُسمى “انحصار الكواركات”. يخبرنا الانزياح الأحمر بمقدار التردد الذري لخط طيفي معين، الذي يقل بسبب توسع الكون. ويجادل شرودر بأن هذا التردد، هو الساعة الصحيحة لقياس الزمن الكوني. عند انحصار الكواركات، حيث تكونت الأشكال الأولى للأنوية الذرية، فإن الانزياح الأحمر يبلغ حوالي معامل للتريليون.

في الواقع، يفترض شرودر أن معامل الانزياح الأحمر يبلغ (9.5 × 1012)، بينما القيمة الدقيقة، طبقاً للتقديرات الحالية، تبلغ (4.4 × 1012) والتي ستجعل 6 أيام الخلق الإنجيلية تستمر لـ 72 مليار سنة. وبالتالي، فإن النبوءة الإنجيلية، طبقاً لطريقة حساب شرودر نفسه، أكبر بـ 4 أضعاف.

على أي حال، فإنه طبقاً لاختيار شرودر للأرقام، فإن اليوم الأول من الخلق الإنجيلي يبلغ 8 مليار سنة كونية، والأيام التالية له تبلغ نصف الأيام السابقة لها. وباستخدام سحر الدالة الأسية، نصل إلى وقت آدم وحواء، وهى اللحظة التي يسود عندها الزمن الإنساني التقليدي. إنّ 6000 سنة أو أكثر من وقت آدم وحواء إلى وقتنا الحاضر، بالمفهوم البشري، ما هو إلا وقت ضئيل على هذا المقياس، القائل بأن آخر يوم في الخلق يبلغ 250 مليون سنة كونية.[توضيح من المترجم: يسخر الكاتب من شرودر الذي طبقاً لحساباته، فإن آخر يوم في الخلق (اليوم السادس) الذي خلق الله فيه آدم وحواء يبلغ 250 مليون سنة، بينما يعترف الإنجيل نفسه بأن عمر الأرض وعمر آدم وحواء هو 6000 سنة، أو أقل من 10,000 سنة.]

كالمعتاد، فإنه من السهل تأويل النبوءة حسب الحقيقة. فمن الواضح، أن شرودر لعب بالأرقام حتى وجد أنّ انحصار الكواركات أعطاه على مضض (تقريباً) الإجابة التي أرادها، وبرغم ذلك، فقد استخدم الرقم الخاطئ. وعلى أي حالٍ، لم يبدأ كوننا عند لحظة انحصار الكواركات، فقد بدأ مبكراً بمليون جزء من الثانية (وهو ما يُسمى بزمن بلانك). عند هذا الوقت، كان الانزياح الأحمر يبلغ 1.6 x 1030. إذا استخدم شرودر هذه القيمة لحساباته، لاستمر أيام الخلق الستة أكثر من 1028 سنة كونية.

ويدعي شرودر أنه اختار لحظة انحصار الكواركات، لأنه في اليوم الأول من الخلق: “تم فصل الضوء عن الظلمة”. ولكن لم يكن هناك أي ضوءٍ عند لحظة انحصار الكواركات. لقد استلزم الأمر حوالي 40,000 ألف سنة لظهور الضوء، عندما انفصل الإشعاع أخيراً عن المادة. ولو استخدم شرودر الانزياح الأحمر لانفصال الإشعاع في حساباته، لاستمر ت أيام الخلق الست فقط 6000 سنة (لا تخلط بينهم وبين 6000 سنة منذ آدم وحواء بحسب الكتاب المقدس).

عندما قرأت كتاب علم الله لأول مرة، فقد اعتقدت أنه خدعة ذكية للدفاع عن الدين. في الواقع، إن قصة الخلق في سفر التكوين لا تشبه أبداً الانفجار العظيم وتاريخ الكون، مهما دارت وأُعيد تأويلها. ففي الإنجيل، الكون عبارة عن قبة زرقاء، والأرض ثابتة وغير متحركة (بالإضافة إلى كونها مسطحة). أما في الحقيقة، فالكون يتوسع والأرض تدور حول الشمس. في الإنجيل، يتم خلق الأرض في اليوم “الأول”، قبل الشمس والقمر والنجوم. في الواقع، لم تتشكل الأرض إلا منذ 9 مليارات سنة بعد الانفجار العظيم، وبعد الشمس والعديد من النجوم الأخرى.

الضبط الدقيق والتصميم الذكي

لنناقش الادعاءين العلمييـْن الآخرين اللذين يجدهما فلو مثيرين للإعجاب وهما: التناغم الدقيق للثوابت الكونية والتصميم الذكي. لا يوجد أكثر من التنويعات الحديثة لحجة التصميم القديمة، والتي يُمكن تلخيصها فيما يلي: أنا لا أستطيع فهم كيف أتى الكون والتعقيد المذهل للكائنات الحية بصورة طبيعية، ولذلك فلابد وأنهم قد خُلقوا بشكل خارق (بواسطة الله).

في عام 1802، لم يستطع ويليام بالي فهم العين البشرية، بضبطها الدقيق لتجميع الضوء وتكوين الصور، وكيف أتت بصورة طبيعية. ولذلك، فقد استنتج أنها ولابد قد تم تصميمها بواسطة الله. ولكننا الآن، نفهم أكثر عن كيفية تطور العين على مراحل عديدة بواسطة الانتخاب الطبيعي.

اليوم، لا يستطيع أنتوني فلو فهم كيف أن الكون مضبوط ضبطاً دقيقاً لإنتاج المواد التي تحتاجها الكائنات الحية، وكيف أتت بصورة طبيعية، ولذلك فقد استنتج، أنه على الأغلب قد تم تصميمه بواسطة إله من نوعٍ ما.

يبدو، أن فلو ليس على دراية بأن الفيزيائيين وعلماء الكون غير مربكين من الضبط الدقيق للكون مثله. مما لا شك فيه، أن بعض التغيرات الطفيفة في الثوابت الفيزيائية قد تجعل الحياة كما نعرفها مستحيلة، فماذا بشأن الحياة كما لا نعرفها؟ فنحن لا نمتلك أي استدلال للاعتقاد بأن حياتنا القائمة على الكربون، هي الوحيدة تحت أي اختلافٍ ممكنٍ في الثوابت والقوانين الفيزيائية. لقد أثبت أن النجوم طويلة العمر، والتي تعتبر ضرورية لبناء العناصر الكيميائية التي تشكل الهياكل الحية، يمكن توقع حدوثها على طول مدى ضخم من الثوابت الفيزيائية. وبالمثل، فقد فحص أنتوني أجوير الأكوان الناتجة عند تغيـير 6 ثوابت (معاملات) كونية، ووجد أنهم لا يستبعدون وجود حياة ذكية.

بالإضافة إلى أن علم الكونيات الحديث يشير إلى وجود أكوان متعددة بثوابت وقوانين فيزيائية مختلفة. في هذه الحالة، فإنه ليس من المذهل أننا نعيش في كون مناسب لنا أكثر مما نعيش على كوكب صالح لوجودنا: الأرض، وليس المريخ أو الزهرة. ولهذا، فإن الكون ليس مضبوطاً بدقة لنشأة الحياة، بل إن الحياة مضبوطة لتلائم الكون.

يجادل بعض المتدينين أن فرضية الأكوان المتعددة تخالف نصل أوكام (مبدأ البساطة، أو عدم التعدد بدون الضرورة). على النقيض، فإن الأكوان المتعددة تفرضها أفضل معرفة حالية لدينا. يستلزم الأمر فرضية إضافية، لا تتطلبها البيانات، لاستبعاد الفرضية، وفي هذه الحالة فإننا نزيد الفرضيات بدون داعٍ للضرورة. [أما في حالة الأكوان المتعددةً، فهي مطلوبة بواسطة البيانات] فلا يعتقد أحد أن النموذج الذري، والذي ضاعف الكيانات التي نتعامل معها في الفيزياء بمعامل 1024، قد انتهك نصل أوكام.

ومع ذلك، فلا بد من التأكيد أن فشل حجة الضبط الدقيق لا يعتمد فقط على فرضية الأكوان المتعددة، بل يفشل أيضاً على كون مفرد، حيث أن بعض أشكال الحياة قد تتطور بطريقة ما في كون وحيد. على الأقل، لا نمتلك حالياً المعرفة لنفترض أي شيئاً آخر.

في النهاية، يقول فلو: ” إنني أعتقد أن الحجة على التصميم الذكي قوية بشدة عما كانت عليه عندما قابلتها لأول مرة”. أنا مذهول من أنّ فيلسوفاً مشهوراً لا يستطيع أنْ يرى العيوب القاتلة في حجة التصميم الذكي، الممثلة في تعبير مايكل بيهي (أحد الداعمين لها): “التعقد غير القابل للاختزال” وويليام ديمبسكي: “استدلال التصميم”. حيث يؤكدون أن نظاماً معقداً لا يمكن إلا أن ينشأ من شيءٍ شديد الذكاء. وبرغم أن التعقيد صعب التعريف، فإننا يُمكن أن نتوقع أن هذا الشيء هو كيان ذكي شديد التعقيد. والذي بدوره لا بد وأن نشأ من شيءٍ ما أذكي ومعقد أكثر، في عودة لانهائية.

ولحسن الحظ، فإنه بإمكاننا تجنب تلك العودة اللانهائية للوراء، بالتوقف فقط عند هذا العالم. لا يوجد أي سبب للاعتقاد بأن العالم الطبيعي ليس سبب وجوده الأول. وكما نعلم، من الخبرة الحياتية والملاحظات العلمية المتطورة بأن الأنظمة المعقدة تنشأ طوال الوقت في الطبيعة من أنظمة أبسط، بدون حاجة لأي قدر من الذكاء. فالضباب الذي عبارة عن بخار ماء، يمكن أن يتجمد مشكلاً رقاقات ثلجية، يمكن للرياح أن تنحت كاتدرائيات عظيمة في الصخور، ويمكن للديناصورات أن تتطور من البكتيريا.

وبالمثل، فإن كوننا المعقد نسبياً يمكن أن يكون قد نشأ من أبسط الكيانات وأكثرهم لاوعياً، ألا وهو: الفراغ.

يمكنكم أن تقرأوا أكثر عن الموضوع، لمقال طويل لنفس الكاتب، مترجم على خمسة أجزاء على موقع العلوم الحقيقية، بعنوان: “التفسير الطبيعي للثوابت الكونية“.

ملاحظة: هذا المقال ليس ترويجاً للإلحاد، بل رداً على الادعاءات العلمية الخاطئة لأنتوني فلو [المترجم]

المصدر:

Stenger, V. (2005). Flew’s Flawed Science. Secularhumanism.org. Retreived from: https://secularhumanism.org/wp-content/uploads/sites/26/2005/02/p17.pdf