هل هناك بالفعل تأثيرات كمية تحدث داخل أدمغتنا؟ وهل لها أي تأثير في رؤيتنا للواقع الموضوعي مِن حولنا؟ وهل باستطاعتنا بالفعل انجاز عمليات اكثر من الحواسيب الخارقة؟ كل هذا وأكثر في ستعرفونه في هذا المقال.

في عام 1989، نشر عالم الرياضيات وعالم الكونيات البارز في جامعة أوكسفورد روجر بينروز (Roger Penrose) كتابا رائعاً أسماه “العقل الجديد للإمبراطور- The Emperor’s New Mind ” وكان الكتاب مليئاً بمواد رائعة في الفيزياء والرياضيات والحوسبة. كانت أطروحة بنروز الرئيسية في الكتاب تتلخص في أن الدماغ البشري ليس بجهاز كمبيوتر وهو يعمل بطريقة ما لا يمكن تكرارها على أي جهاز كمبيوتر مهما كان قوياً. بمعنى آخر، أي أن الدماغ لا يتبع “خوارزميات” في حل كل مشكلة يتعامل معها. كل هذا مقبول نسبياً، حتى الآن على الأقل. ولكن بعد ذلك خرج الكتاب عن نطاق المعقول مع اقتراح غريب من نوعه بأن آلية الدماغ الفعلية لها علاقة مع الجاذبية الكمية!

لاقى بنروز شكوكاً كثيرة، لا سيما في مجتمع الذكاء الاصطناعي الذي كان يحاول أساساً دحضَ نظريته، وأيضا بين الفيزيائيين الذين لم يتمكنوا من رؤية ما هي الرابطة بين مفهوم الجاذبية الكمومية وآلية عمل الدماغ!

تعاون بنروز مع طبيب التخدير ستيوارت هاميروف (Stuart Hameroff) في اقتراح نموذج لكيفية عمل ميكانيكا الكم في الدماغ والذي سمي لاحقاً باسم “نموذج بنروز-هاميروف”. وإليكم كيفية تفسير هذا النموذج:

“وفقاً لمبادئ أور-OR [او ما يعرف باسم الاختزال الموضوعي المنظم، وهي فرضية تنص على أن الوعي في الدماغ ينبع من العمليات داخل الخلايا العصبية، وليس من العلاقات بين الخلايا العصبية (وجهة النظر التقليدية). وتعتبر هذه العملية عملية كمية، ويتم تنظيمها من قبل هياكل جزيئية تسمى الأنيبيبات الدقيقة وتوجد هذه الأنيبيبات في معظم خلايانا بما في ذلك الخلايا العصبية في أدمغتنا. ومن المفترض أن يتأثر الاختزال الموضوعي بالعوامل غير القابلة للحساب المتضمنة في هندسة الزمكان، مما قد يفسر مشكلة الوعي الصعبة والانهيار السريع للحالات المتراكبة. وقد اقترح بنروز هذه المبادئ في كتابه عام 1994 “ظلال العقل- “Shadows of the Mind]، ووفقاً لهذه المبادئ، فإن لكل من الحالات المتراكبة  هندستها الخاصة في زمكان الدماغ. فعندما تؤدي درجة الفارق المترابط بين الكتلة والطاقة إلى فصل كافٍ بين هندسة الزمكان، فحينئذٍ يجب أن يختزل (ينهار) النظام إلى حالة واحدة ولكن يستمر تراكب آخر سريع الزوال باختلاف طفيف في هندسة الزمكان حتى يحدث الانهيار الكمي المفاجئ ويتم اختيار حالة كمية واحدة فقط، وبالتالي يحول دون تفسير “الأكوان المتعددة”. وهذا مما يثبت بشكلٍ أو بآخر أن الوعي قد يشتمل على اضطرابات لهندسة الزمكان في الدماغ.”

كانت هذه الفرضية أحد الموضوعات الشائكة التي تمت مقابلتها ومناقشتها في فيلم وثائقي مستقل عام 2004 بعنوان “ما الذي نعلمه؟-What the Bleep Do We Know?” هذا الفيلم، جنباً إلى جنب مع الكتاب الأفضل مبيعاً في وقته “السر-The secret”، استغلوا فكرة أن ميكانيكا الكم تخبرنا بأننا نحن من نصنع واقعنا. للمزيد عن هذه المواضيع يرجى قراءة مقال (الدجل الكمي).

نشر مايكل شيرمر (Michael Shermer) مراجعة سريعة لنظرية بنروز-هاميروف في مجلة العلمي الأمريكي في يناير 2005، أشار شيرمر إلى كتاب فيكتور ستنغر (Victor Stenger)الكم اللاوعي (The Unconscious Quantum) الذي ناقش اقتراحه ببعض التفصيل، وكذلك أشار عن السؤال العام عما إذا كان الدماغ جهازاً كمياً أم لا. على وجه الخصوص، أشار إلى معيار لتحديد ما إذا كان يجب وصف النظام بواسطة ميكانيكا الكم أم لا: إذا كان ناتج الكتلة (m) والسرعة (v) والمسافة (d) لجسيمات النظام يساوي قيمة ثابت بلانك (h) أو أقل، لا يمكنك حينها استخدام الميكانيكا الكلاسيكية لوصف ذلك النظام. وبدلا من ذلك، نستخدم ميكانيكا الكم.

و لتطبيق هذه المعايير على الدماغ، استخدم شيرمر كتلة جزيء الارسال العصبي (m)، وسرعة الحركة الحرارية (v)، ومسافة نقطة التشابك العصبي (d) ليجد أن ناتجهم أكبر من ثابت بلانك بمرتين تقريباً. مما لا يعني بالضرورة وجود تأثيرات كمية.

كتب هاميروف في رسالة رداً على مقال شيرمر:

” لغرض تفكيك نظريتنا (نظرية بنروز-هاميروف)، أشار شيرمر إلى تأكيد في كتاب “الكم اللاوعي” أن نتاج الكتلة والسرعة والمسافة من نظام يُطبق فيه ميكانيكا الكم لا يمكن أن يتجاوز ثابت بلانك (h). أنا لم أر مثل هذه الفرضية في أي مجلة خاضعة لمراجعة الأقران، ولا رأيتها مدرجة في أي مكان كتفسير جدّي لميكانيكا الكم. ولكن على أي حال هذا التأكيد قد دُحض من قبل برهنة تجريبية قام بها أنطون زيلينجر (Anton Zeilinger) لسلوك موجة كمية في الفوليرين وفي بروتينات البورفيرين البيولوجية ومع ذلك، أنا أتفق مع ستنجر أن أي انتقال كيميائي متشابك يتم بين الخلايا العصبية، يتم وصفه باستخدام الفيزياء الكلاسيكية كما أثبته باستخدام المعيار. يتم حساب العمليات الحسابية الكمومية التي اقترحناها (هاميروف وبنروز) في أنابيب ميكروية داخل الخلايا العصبية. ويوفر النقل العصبي الكلاسيكي المدخلات (إلى)، والمخرجات (من)، في حسابات الكم في الأنيبيبات الدقيقة التي تتوسط الوعي في التشعبات العصبية”.

وكان رد شيرمير:

” أولاً وقبل كل شيء، فإن المعيار الأول، اقترحته بناءاً على كتاب من أسس ميكانيكا الكم كيف لا وقد كُتب من قِبل نيلز بور في عام 1913 – ومن الجلي أنه ليس بحاجة إلى مجلة مراجعة الأقران لكي يثبت! ثانياً، قدمت الاقتراح هذا كمعيار للاستخدام الضروري لميكانيكا الكم التي لا يمكنك الاستغناء عنها باستخدام الميكانيكا الكلاسيكية. لقد لاحظت أن أنظمة الكم العيانية (الظاهرة للعيان) مثل الليزرات والموصلات الفائقة موجودة بالفعل. وهي تعتمد على ظاهرة الترابط الكمي التي تعمل على مسافات كبيرة”.

وعلى أية حال، أعترف هاميروف بأنه يوافق معي على استنتاجي بأن ” أي انتقال كيميائي متشابك يتم بين الخلايا العصبية، يتم وصفه باستخدام الفيزياء الكلاسيكية “. وقد أقترح هو وبنروز أن الآثار الكمومية تحدث في الأنيبيبات الدقيقة داخل الخلايا العصبية. هذه الأنيبيبات الدقيقة هي عبارة عن بوليمرات اسطوانية جوفاء، وهي تشكل جزء من الهيكل الخلوي لجميع الخلايا. كما أشرت في كتابي. في الواقع، أنا في حيرة من امري كيف وُصفت الآثار الكمية في هذا النموذج بأنها تحدث فقط في خلايا الدماغ، وليس، على سبيل المثال، في خلايا اصبع القدم الكبير!.

وفي دراسة أجريت في عام 1999، نظر الفيزيائي ماكس تيغمارك (Max Tegmark) في مشكلة الترابط الكمي في الدماغ، ووجد أن التراكب الكمي للجزيئات المشاركة في الإشارات العصبية لا يمكن أن يستمر حتى لجزء صغير من الوقت اللازم لمثل هذه الإشارات للوصول لمكان ما.

التأثيرات الكمية مثل التراكب الكمي يتم تدميرها بسهولة بسبب ظاهرة تدعى فك الترابط الكمي (Quantum Decoherence) ويرجع ذلك إلى تفاعل الجسيم الكمي مع البيئة المحيطة به والتي من خلالها يتم محو خصائص الكمّ من النظام. هذا الاستنتاج لا يتفق مع اقتراحات بينروز وهاميروف بأن الدماغ يعمل ككمبيوتر كمي، و أن الترابط الكمي يرتبط بالوعي بشكل أساسي.

 

بأمكاننا القول أن نموذج بنروز – هاميروف لم يتم دعمه بأدلة كافية ترضي الغالبية العظمى من علماء الأعصاب. ومع ذلك، دعونا نفترض أن ادعاء بنروز بأن الدماغ لا يمكن اعتباره بأنه حاسوب خوارزمي هو الصحيح.

يمكن أن تؤدي مصادر خارجية في البيئة مثل الأشعة الكونية أو مصادر داخلية مثل البوتاسيوم المشع (K40) في الدم إلى تقلبات في تيارات الدماغ. وهذه التقلبات هي كمومية في الأصل، مما يعني أنها عشوائية (أي غير قابلة للحساب) – وفقاً لتفسير كوبنهاجن. ومن الجدير بالذكر أن هناك آلية بسيطة، معروفة جيداً لمنظري نظرية التعقيد، وهي إمكانية الدماغ أو الدائرة الإلكترونية من التصرف بطريقة غير قابلة للحساب. قد تؤدي هذه التقلبات إلى تحفيز ما يطلق عليه بـ التشعب، وهو التغير النوعي في سلوك نظام ديناميكي ما نتيجة تغيير أحد معاملاته أي عندما ينتقل النظام من حالة شبه مستقرة إلى أخرى.

خاتمة

في الختام، هناك خياران لعمل الدماغ كَمجمل. أولهما هو التفسير المنطقي البسيط، الذي ينص على أن الدماغ حتميٌ محض. بشكل عام، لا تحدث الظواهر الكمية إلا في اجسام صغيرة جداً مقارنةً بالخلايا العصبية في الدماغ أو حتى نقاط التشابك العصبي، إذاً لماذا يجب أن يكون لميكانيكا الكم أي تأثير كبير في طريقة تفكيرنا؟ بينما من الممكن أن تكون هذه الحجة بالفعل صحيحة ولكن من المؤكد بأنها ليست حاسمة. التأثيرات الكمية هي بالفعل حصرية للعالم المتناهي الصغر، ولكن هذا بالتأكيد لا يمنع وجود تأثيرات كمية في عالمنا العيني. وعلى سبيل المثال، في تجربة شرودنجر الفكرية، فإن الاختزال الذي يحدث للنواة- التي تسيطر عليها الاحتمالات يؤثر مباشرةً على حياة القطة مما يعني أن هناك تأثيرات كمية بالفعل في عالمنا!

في الحقيقة، الخيار الثاني مثير للإهتمام أكثر من سابقه! لنعتبر ان ميكانيكا الكم تلعب دوراً كبيراً في صناعة الآراء في ادمغتنا. ما الذي يمكن ان يحدث لمفهوم حرية الإرادة لدى الانسان؟ ويمكن تعريف حرية الإرادة بأنه اعتقاد فلسفي ينص بأن سلوك الإنسان وتصرفاته وقراراته تنبع من إرادته الحرة بالكامل. ربما بإمكاننا ان نعين احتمالية معينة لكل القرارات المستقبلية التي ستتخذها. ولِنقل أنك قررت الذهاب في نزهة مع اصدقائك، وهناك احتمالية ما يقارب 60 بالمئة للذهاب واحتمال 40 بالمئة لبقائك في البيت. بهذه الاحتمالات المحدودة يمكننا القول أن قراراتك ليست حتمية وبالتالي غير قابلة للتنبؤ. ولكن هل هذه فعلاً إرادة حرة؟ هل هذه القرارات فعلاً “لك”؟. ومما يجب علينا دوماً تذكره أن ميكانيكا الكم عشوائية بشكل كامل. مما يجعلنا نسأل سؤالاً آخر، هل العشوائية هي رديفة الحرية؟

حتى هذه اللحظة، لا توجد إجابات محددة لهذه الأسئلة. مما يجعلنا في موضع شك في كيفية عمل أدمغتنا.

وختاماً، يمكننا القول ان آلية عمل الدماغ ربما قد تكون هي الآلية الأولى او الثانية وهذا ما قد تثبته البحوث المستقبلية في هذا المجال.  ويبقى السؤال المحير، هل تعمل ادمغتنا فعلاً بشكل كمي ام بشكل حتمي؟ وهل بالفعل نملك إرادة حرة؟

ترجمة وإعداد: سلمان عبود

 

المصطلح التعريف
الجاذبية الكمية –  quantum gravity هي مجموعة من النظريات الفيزيائية والاساليب الرياضية التي تحاول ان تخضع النسبية العامة لمفاهيم ميكانيكا الكم، بمعنى محاولة فهم سلوك الجاذبية في مستويات صغيرة من الزمكان (طول بلانك).
الأنيبيبات الدقيقة –  Microtubules أكبر مكونات الهيكل الخلوي وتوجد في سيتوبلازم الخلايا حقيقية النوى و في بعض أنواع البكتيريا.
ثابت بلانك- Planck’s constant هو ثابت فيزيائي يرمز له h وهو يستخدم لوصف الكوانتا “أصغر مقدار للطاقة” فهو بذلك يلعب الدور الرئيسي في ميكانيك الكم. يعود اكتشافه إلى العالم الألماني ماكس بلانك عام 1900.

الفوليرين –  Fullerenes

الفوليرين عبارة عن جزيئات تتكون بالكامل من ذرات الكربون وتكون على شكل كرة مجوفة. يعد الفوليرين أحد متآصلات الكربون وذلك بالإضافة إلى الألماس والغرافيت والكربون اللابلوري مثل السناج والفحم النباتي.
بروتينات البورفيرين البيولوجية –  biological porphyrin proteins البورفيرينات هي مجموعة من المركبات العضوية، المحدثة طبيعيا وبكثرة. واحدة من البروفيرينات المعروفة بشكل جيد هو الهيم ، وهو الصباغ المتواجد في خلايا الدم الحمراء؛ الهيم هو عامل مساعد لبروتين الهيموجلوبين.

الترابط الكمي- Quantum coherence

يتعامل مع فكرة أن كل الكائنات لها خصائص موجية. تُوصف هذه الموجات عن طريق دالة موجية- wave function وبإمكان هذه الموجات أن تنقسم، ثم تتداخل هذه الموجتين بشكل متماسك مع بعضها البعض لتشكيل حالة كمية واحدة. ولعل أقرب مثال على هذا المفهوم هو قطة شرودينجر عندما تكون حية وميتة في نفس الوقت داخل الصندوق نظرياً. وطالما استمرت هذه الحالة المتراكبة، يقال إن النظام مترابط.

خوارزمية – Algorithm

وهي مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما. وسميت الخوارزمية بهذا الاسم نسبة إلى العالم أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي الذي ابتكرها في القرن التاسع الميلادي.

نظرية التعقيد- Complexity theory

هي فرع من فروع نظرية الحوسبة في علم الحاسوب النظري والرياضيات، وهذه النظرية تتركز في تصنيف المسائل الحاسوبية حسب صعوبتها وكذلك تُعنى في ربط أقسام التعقيد ببعضها، والمسألة الحاسوبية هي مسألة يستطيع الحاسوب حلها.

المقال الأصلي:

Victor Stenger, “Is the Brain a Quantum Device?“, Skeptical Briefs Volume 18.1, March 2008, csicop.org

المصادر الأخرى:

Hameroff, Stuart, and Roger Penrose. “Consciousness in the universe: A review of the ‘Orch OR’theory.” Physics of life reviews 11.1 (2014): 39-78.

Bifurcation theory, Wikipedia

Max Tegmark, “The importance of quantum decoherence in brain processes“, Cornell University Library, 10 Nov 1999

Southwell, Karen. “Quantum coherence.Nature 453.7198 (2008): 1003-1003.

Porphyrin, Wikipedia

Philip Ball, “Nobody understands what consciousness is or how it works. Nobody understands quantum mechanics either. Could that be more than coincidence?”, BBC.com, 16 February 2017

O’Connor, Timothy, “Free Will“, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Summer 2016 Edition), Edward N. Zalta (ed.)