علم النفس السلوكي وبعد أكثر من ربع عقد على وفاة بوروس فريدريك سكينر (Burrhus Frederic Skinner) أحد الرواد في علم النفس السلوكي يُلاحظ أنه اختفى من المشهد نوعًا ما وسط ثورة علم النفس المعرفي (Cognitive psychology)؟ أين اختفى بعد فرضيات تعلم الحيوانات في الخمسينات؟

نعود بالموضوع مئة عام للوراء عندما كان علم النفس يكافح لكي يكون علمًا لاسيما في الوقت الذي ولد فيه سكينر عام 1904. وقتها كانت طرائق دراسة علم النفس مختلفة ومقتصرة بأوراقها على الملاحظات والتخمين. مع نسبة لا يستهان بها من الاوراق البحثية التي كانت عبارة عن هراء!

بعد 10 سنوات تقريبًا من ولادة سكينر نشر جون واتسون (John B. Watson) ورقته البحثية (علم النفس من وجهة نظر سلوكية) ، وقد كانت مختصرة لكنها قوية جدًا. وكان لواتسون رأي صلب يتلخص بأن علم النفس يجب أن تتم تنقيته من قضايا الاستبطان والأحداث الذهنية التي لا يُمكن ملاحظتها بشكل مباشرمثل أمور الوعي، الذاكرة، الخيال…إلخ، وبالمقابل يجب أن يكون التوجه نحو دراسة السلوك.

أيَّد واتسون تصريح والتر بيلسبوري (Walter Pillsbury) بأن علم النفس هو علم السلوك. حيث قال واتسون: “أعتقد أننا يُمكن أن نكتب علمَ نفسٍ معرفين إياه كما عرفه بيلسبوري وأن لا نعود لتعريفنا السابق وأن لا نستخدم مصطلحات مثل الوعي، الحالات الذهنية، العقل، المحتوى، المتحققات الاستبطانية، الخيال وما شاكل ذلك”. عاب النفسانيون على واتسون ما قاله بالتأكيد، غير أنه حظي بتأييد النفسانيين الشباب. وبما أن علم النفس هو دراسة السلوك بالنسبة لهؤلاء فإن أهداف علم النفس ستكون -بحسب سكينر كما صرح بعد بضعة سنوات- هي توقع السلوك والتحكم به.

كان علم علم النفس السلوكي يهدف لأن يجعل من علم النفس علمًا طبيعيًا. نشط علم النفس السلوكي في ذلك الوقت الذي كان فيه علم النفس متناغمًا مع المواقف الفلسفية للوضعية المنطقية التي كان يُدافَع عنها في الفيزياء وأي تخصص آخر. كان على علم النفس السلوكي أن يضع المبادئ والعمليات المستخدمة للقياس لإبقاء العلم راسخًا ببياناته المرصودة والقضاء على ذلك التحليق في خيالات الأفكار.

مضت السنوات ونشاط علم النفس السلوكي في تصاعد، وكانت مختبرات سلوك الحيوانات مرتعًا لدراسة علم النفس السلوكي. الفئران البيضاء والحمام كانا موضع الاختيار لإجراء التجارب (كانوا يفترضون أن جميع الكائنات الحية وجميع السلوكيات تتبع قوانينًا متشابهة).

توالت الأعمال المختلفة في العشرينات والثلاثينات ومنها الورقة البحثية لسكينر سلوك الكائنات الحية (The Behavior of Organisms) التي تُعد أبرز عمل تم تقديمه في علم النفس السلوكي حتى الآن. بالإضافة إلى ما قُدِّمَ من أعمال في علم نفس التعلم (Psychology of Learning).

تُعد أعمال واتسون وسكينر بالنسبة لعلم النفس بشكل عام أشبه بالانتقال إلى عصر النهضة من العصور المظلمة في العالم الغربي. وكان علم النفس السلوكي هو الممهد لدراسة الظاهرة المعرفية التي وجدت طريقها في الخمسينات بالأعمال التجريبية لجورج ميلير (George Miller)، دونالد برودبينت (Donald Broadbent) وآخرون وكان ذلك بمثابة بداية عصر النهضة لعلم النفس. المرحلة المهمة الأخرى في الطريق كانت كتاب علم النفس المعرفي (Cognitive Psychology) لأولريك نيسير (Ulric Neisser).

استمر علم النفس السلوكي بنشاطه في الستينات والسبعينات حتى ظهرت الهيمنة الكاملة لعلم النفس المعرفي في التسعينات في جميع نواحي علم النفس حتى في مجال تعلم الحيوانات الذي كان يومًا ما المجال الرائد لعلم النفس السلوكي.

أين اختفى علم النفس السلوكي إذًا؟

كما في مطلع ظهور علم النفس السلوكي فإن الرؤى المتطلعة للشباب في التخصصات تبحث دائمًا عن تساؤلات أحدث ومعضلات أعقد. وهكذا كان الحال مع الثورة الجديدة للمعرفية. صحيح أن علم النفس السلوكي كان صارمًا ومستفزًا في الآن ذاته وقد فتح آفاقًا جديدة، غير أن كثيرًا من المعضلات تقع خارج نطاق التحليل السلوكي كالتفكير والتذكر والتخيل والتلقي..إلخ.

أعطت رؤية علم النفس المعرفي الجديدة الطلبة الجدد تقنيات جديدة في الدراسة كانت أكثر إثارة للاهتمام من مختبرات تعلم الحيوانات. حتى التحليل المعرفي في الستينات قد يبدو مبتدئًا الآن، مثل النماذج المجازية ومخططات الصناديق والمؤشرات، فهي تبدو مضحكة مقارنةً بالرؤى المعرفية المرتبطة بالعلوم العصبية اليوم والتي ترسم شبكات الخلايا العصبية ومعها النشاط المعرفي على سبيل المثال. باختصار، فتح علم النفس المعرفي المجال أمام ساحات جديدة أكثر تشويقًا للبحث العلمي.

هناك سبب ثانٍ في إنحسار التحليل السلوكي هو أن الباحثين في أي مجال ومع تقادم الزمن يبدأون بالدراسة أكثر فأكثر لأشياء أقل فأقل. بدلًا من التركيز على المعضلات المركزية والأساسية، بدأ السلوكيون بالنظر إلى قضايا أكثر تفصيلًا في السبعينات والثمانينات حتى غابت تلك الصورة الكبيرة التي يُمكن تحديد كيان بحثي لعلم النفس السلوكي من خلالها.

وأحد الأسباب الجديرة بالذكر لترك كثير من علماء النفس علم النفس السلوكي نحو المعرفي هي أن كثيرًا من هؤلاء لا يهتمون بتاريخ السلوك ذاته لدى الحيوانات، إنهم يهتمون بالحاسوب السحري الموجود في رؤوسنا أكثر من اهتمامهم بكيفية مجيئ ذلك الحاسوب.

عمليًا قد يُجادل البعض بأن علم النفس السلوكي ما زال موجودًا، فالاجتماع السنوي لرابطة التحليل السلوكي (Association for Behavior Analysis) جمع 4200 باحث عام 2003 و 3200 عام 2002 وقد أحصوا وجود 12000 باحث في العالم مع انضمام 250 باحث سنويًا للرابطة في الولايات المتحدة. وقد كانت معظم الأعمال المقدمة هي تجارب على البشر وليس على الفئران والحمام (كما هو النمط الشائع في علم النفس السلوكي ).

نعم ما زالت الكثير من التقنيات السلوكية حاضرة في العلاج النفسي بمجالات متعددة لكنها تخضع لمؤاخذات عديدة منها ضعف علم النفس السلوكي في دراسة الحالات الذهنية والدراسة المباشرة للدماغ وضعف التعامل مع اساليب المحاكاة الحاسوبية والذكاء الاصطناعي والكثير من التقنيات الحديثة.

نعوم تشومسكي والسلوكية

كان تشومسكي في الثلاثينات عندما نشر سكينر كتابه (السلوك الحرفي) (Verbal behavior) وقد رد عليه تشومسكي بكتاب بعد سنتين نقد في طرحه جوانب عدة منها مأخذه على السلوكية في نبذها دراسة جوانب التفكير والخيال والتلقي والتذكر لمجرد عدم القدرة على ذلك، وأن عدم دراسة محور الأفكار والعقل البشري يقع الخلل فيه على عاتق طريقة الدراسة وليس على المحور نفسه.

كما نقد تشومسكي آلية تعلم اللغة لدى سكينر حيث أشار لها الأخيربوصفها عملية تحفيز-استجابة من خلال ترديد الأطفال لما يقوله الكبار. ردَّ تشومسكي على ذلك بأن تعلم اللغة ناتج من عملية تنموية بدليل وجود أخطاء في التعلم لدى الأطفال. كيف يُمكن للأطفال أن يقوموا بالاخطاء أثناء التعلم اذا كانت العملية هي تحفيز-استجابة-تكرار. الأطفال يتعلمون القواعد ليتكلموا، وإلا فكيف سيكتشفون ضرورة استخدام went  بدلًا من goed التي يستخدمونها في بداية تعلمهم كماضي للفعل go. كما أن الاطفال ينتجون جملًا وعبارات لم يسمعوا بها طوال حياتهم (راجع اللسانيات التطورية للمزيد من المعلومات حول آراء تشومسكي في نشوء اللغة).

لا ننسى أن نعيد ذكر إشكاليات علم النفس السلوكي مع التقنيات الحديثة التي لم يكن قد استوعبها بمنهجيته الصارمة المستبعدة لدراسة الفكر والعقل. أيضًا لا يمكن لنماذج التحفيز ورد الفعل أن تفسر كل شئ في السلوك البشري ولا يمكن لذلك التفسير الظاهري أن يؤدي الدور كاملًا في تفسير السلوك البشري.

المصادر

  1. Abramson, Charles I. “Problems of teaching the behaviorist perspective in the cognitive revolution.” Behavioral Sciences1 (2013): 55-71.
  2. Observer Vol.17, No.3 March, 2004 What Happened to Behaviorism
  3. https://linguisticslearner.blogspot.com/2012/03/behaviourism-and-chomskys-critique-on.html

تدقيق: رمزي الحكمي