علم الاجتماع واقع النشر العلمي واللاعلمية في الطرح: اليوم يعيش واقعا ضعيفاً جداً بشقيه التفسيري الفلسفي اللاعلمي من جهة وبين هامشية الطرح للوضعيين من علماء الاجتماع والباحثين الاجتماعيين. غير ان هناك نواحي ايجابية في ذلك الضعف بعد منهج أهوج لقرنين من الاراء الشخصية. فبوادر نهاية علم الاجتماع بصيغته التفسيرية القائمة على الاراء الشخصية وغير المطالبة بإثباتات اصبحت قريبة.

علم الاجتماع

إن كمية ما يُطرح كبحوث منشورة في علم الاجتماع اليوم لا يشكل سوى اقل من ثلث مما يُطرح في علم النفس ويبلغ مثلاً ما يطرح في الكيمياء الحيوية 5 اضعاف ما يُطرح في علم الاجتماع اذا ما قارننا العنوانين في ابرز دار ناشرة للعلم اليوم السيفير (Elsevier) اما مقارنة بعلم الاعصاب فهو ثلاث اضعاف. وهي نسب تبشرنا بغد افضل بالمزيد من الانكماش في تلك المجلات تفسيرية النزعة او الاحصائية هامشية الطابع مقارنةً بالعلوم التي تمضي بدقة وحزم وقوة نحو تفسير سلوك الانسان فرداً ومجتمعاً.

سنجعل رحلتنا لاستكشاف العلوم الاجتماعية اليوم منطلقة من Elsevier  موقع Science direct الذي يعد من ابرز مواقع نشر البحوث العلمية بأثمان عالية للبحث الواحد والذي تتعاقد معه حكومات ووزارات بملايين الدولارات لتوفير المحتوى البحثي للطلبة والباحثين. لو دخلت الى قسم علم النفس لوجدت 23 دورية تنشر الابحاث، مقابل 5 لعلم الاجتماع والسياسة فقط حيث جمعتا في نفس الخانة، لكن لو نظرنا الى مكونات تلك الـ 5:

  • Annals: معامل تأثيرها السنوي (685) مختصة بالبحوث السياحية فيها  ابحاث تعتمد على الربط الاحصائي او الحقائق الصلبة لعلم النفس الحالي مثلاً احد الابحاث كان حول تفاوت الدخل الاقليمي من السياحة لبلد ما الصين نموذجا، آخر كان حول نظرة النساء لاجسادهن  في العطل في استراليا بدراسة احصائية، آخر كان حول تقييم آراء المستهلك على الانترنت وما يمكن ان يجعلها موثوقة وهو تحليل لآراء 38 شخص اعطوا اراءهم بخصوص منتج ما على الانترنت وهم من خلفيات متباينة. التقدم في المحاسبة (Advances in Accounting) معامل تأثيرها (0.45) تصدر منذ عام 1973 وتنشر أبحاثاً في مجال الأعمال، الوظائف، المحاسبة، السوق وهي غير مفتوحة المصدر ويُباع كل بحث لها بالسعر الثابت تقريباً في Elsevier بـ 39$ ما تنشره هو أبحاث ذات ادلة رياضية واحصائية في مجالات اقتصادية.
  • اشهرهن بالاسبانية وهي Acta sociologica معامل تأثير (248) صدرت في عام 2013 واصدرت 9 اعداد في كل منها 708 مقالات لو اطلعنا على ابحاثها لوجدنا الطابع الفلسفي يغلب عليها فهي تتكلم في الابستمولوجيا الاجتماعية والانثروبولوجية بمواضيع عديدة كما تعيد تقييم طروحات اجتماعيين سابقين في اوراق بحثية اخرى او تتكلم من منظور فلسفي عن نظرة علم الاجتماع لمواضيع معينة مثل الحب (الحب كمعضلة سيكولوجية  يناير 2015 El amor como problema sociológico) احدها عن العنف ضد المرأة في سبتمبر 2014 كانت دراسة احصائية عن تحليل الاخبار التي تخص مواضيع العنف ضد المرأة في المكسيك وهو بحث احصائي وقد كان ضمن عدد كامل يختص ببحوث من هذا النوع حول العنف ضد المرأة في المكسيك. البحوث السياسية في المجلة كثيرة أيضاً وما يمزج بين الاجتماع والسياسة من منظور فلسفي كثير ايضاً.
  • التقدم في دورة الحياة (Advances in Life Course) معامل تأثير (0.95) تصدر منذ عام 2000 معظم ما تنشره احصائي ويناقش قضايا محددة جداً ويستند الى ادلة وليس اراء وفلسفة فقط ويدور معظم ما تطرحه حول مناقشة حالات معينة في مراحل عمرية معينة في بلدان معينة وازمان معينة مثلاً (تشكيل الاتحادات واحداث الانتقال اي التحول من مكان الى آخر اثناء للمراهقين في الولايات المتحدة وفرق هذه العلاقة لكل من الذكور والاناث) يبدو الامر دقيقاً للغاية في بحث القضية ضمن نواحي وشروط معينة ويمتاز بوجود الدليل الاحصائي وهكذا ابحاث اخرى عن الشؤون العاطفية او الفروقات الاثنية او مستويات الدخل او التعليم او معدلات الخصوبة او حالات الحمل بشكل دقيق لبلدان معينة وفئات عمرية معينة وفترات زمنية معينة.
  • المجلة الامريكية للتقييم (The American Journal of Evaluation) معامل تأثير (1.8) صادرة منذ عام 1998 ايضا تتناول هذه المجلة امورا محددة بدقة في ظروف محددة وحالات محددة وتستخدم البحوث المنشورة فيها ادلة احصائية.

ننتقل الى JSTOR وهو الاكثر احتواءاً على البحوث غير العلمية من كافة المجالات ويتضمن الاف العناوين في العلوم الاجتماعية عموماً وما يقارب الـ 200 عنوان في علم الاجتماع سنلقي نظرة على طبيعة ما تنشره تلك الدوريات حديثاً وقديماً وسنستبعد بالاطلاع تلك المجلات التي توقفت عن الصدور فما تصدره سواء كان علمياً ام غير علمي صار من الماضي حالياً لقد اختفت مع معاييرها سواء بالاندماج مع  مجلات اخرى او بالتوقف الرسمي رغم أن نتاجها ما زال منشوراً غير أننا حين نتكلم عن المنهج الموجود في يومنا هذا يستحسن منهجياً ان نتكلم عن ما يصدر اليوم:

  • الدورية الامريكية لعلم الاجتماع (1859 – 2015) (American Journal of Sociology) معامل تأثير (3.4): تنشر في مجالات منوعة مثلاً عند فتح عدد في عام 2014 كان هناك بحث تصنيفي عن التزوير في البحرية البريطانية، بحث آخر عن تحديد النسل في الولايات المتحدة آخر عن نقاشات زواج المثليين في الولايات المتحدة ومقارنته بين المثليات والمثليين. هذه النزعة في التحديد والكتابة بدقة وبناءاً على الادلة سنجدها في منهجية المجلة حتى في الخمسينات ومهما تراجعنا في الزمن. وهي تُشير الى ان اسلوب الطرح في علم الاجتماع ليس محدداً بالفترة الاخيرة. واننا عندما نجد شخصاً يصف نفسه بأنه عالم اجتماع ويرمي الحقائق هنا وهناك دون ان ينسبها الى بحوث معينة فيجب أن ننظر بالانتقاص الى طرحه وان يزداد انتقاصنا له بازدياد ذلك الكم من الطرح غير المثبت. الزمن ليس عذراً لان تكتب بشكل غير علمي.
  • هناك الكثير من مجلات علم الجريمة المصنفة ضمن تبويب علم الاجتماع في الموقع وعند الاطلاع على بحوث الجريمة نجدها احصائية بحتة ترتكز على الارقام التي تصدرها دوائر الشرطة وحفظ الامن والتي غالباً ما تكون غنية بالبيانات عن المجرمين وكافة مرتكبي الخروقات.

لا يمكن الحكم الشامل على تلك الابحاث كذلك لكن هذا الطرح الهامشي لا يقيم علماً. إنها ادعاءات قائمة على الاحصاء لكنها من ذلك النوع من الحقائق الذي يشكل قطعاً متناثرة من الطابوق المطلوب لبناء جدار يبلغ طوله كيلومترات. انها تشكل مشاهدات او دوائر صغيرة من المشاهدة والفرضية والاثبات لحقائق شديدة الصغر بالنسبة للصورة الكلية للمجتمع.

لا نغطي علم الاجتماع بأكمله عبر هذه المجلات فمثلاً مجلة سوشيال تيكست التي تقدم طرحاً فلسفياً في علم الاجتماع ليست موجودة لدى هذين الدارين. ولابد ان نعرج هنا على فضيحة سوكال التي تعرضت لها هذه الدورية والتي يمكن ان تتعرض لها اي جهة ناشرة لعلم الاجتماع بجانبه الفلسفي التفسيري مع صعوبة اعادة فحص النتائج من قبل علماء الاجتماع في الجانب الوضعي.

علم الاجتماع وفضيحة سوكال

لعل فضيحة سكوال هي من اكثر المقالب حنكة وطرافة للايقاع بعلم الاجتماع. ناقشنا العدد القليل المتوفر من دوريات علم الاجتماع الموجودة حالياً واسلوب طرحها الاحصائي البحت والفلسفي احيانا. احدى الدوريات لعلم الاجتماع هي سوشيال تيكست (Social text) وهي تابعة لقسم علم الاجتماع في جامعة ديوك. الان سوكال (Alan Sokal) هو بروفيسور للفيزياء في كلية لندن الجامعة (UCL) وجامعة نيويورك. الان قرر ان يكتب ورقة بحثية تتضمن هراء فقط مصاغ بطريقة فلسفية وان يرسلها لمجلة سوشيال تيكست. وبالفعل فقد كتب ورقة بحثية بعنوان (انتهاك الحدود: نحو هرمنيوطيقيا تحويلية للجاذبية الكمية) وقام كادر المجلة بنشرها في عدد الربيع/الصيف لعام 1996 ضمن اصدار اسموه حروب العلم (Science Wars)  مما يدل على انعدام اي نمط من التدقيق والتحكيم في المجلة وقد افصح سوكال عن ان ما كتبه كان هراءً المقصود به فضح لا علمية المجلة[1].

 

في الختام يمكن تمييز الواقع الدراسي لعلم الاجتماع بشقيه بالنقاط الاتية:

  • قلة المجلات الناشرة لعلم الاجتماع مقارنة بأي علم آخر.
  • رغم ان الطرق الاحصائية سائدة على منشورات علم الاجتماع فهي بحد ذاتها لا تعطي القدرة على وضع نظريات. وتكتفي بمناقشة امور هامشية.
  • ما زال المنهج التفسيري الفلسفي لعلم الاجتماع قائماً وهناك مجلات تنشر فيه غير انه يعاني من ضعف كبير جعله ضحية لعملية وضحت عدم قدرته على الظهور كتخصص معرفي لائق.

[1] http://www.physics.nyu.edu/faculty/sokal/transgress_v2/transgress_v2_singlefile.html