الحقائق والخيال لما هو ممكن وما جُرّبَ بالفعل في تبديل رؤوس البشر.

بقلم: بريان دانينغ

ترجمة: رغد الرفاعي 

سنستكشف اليوم واحدةً من آخر حدود الطب العظيمة: فكرة زرع رأس شخصٍ في جسم شخص آخر. هذا المفهوم قديمٌ في عالم الخيال العلمي وفي عالم الرعب المُرَوع؛ أو أن له قدماً واحدةً في الواقع الطبي وأخرى في خدعٍ على غرار بارانيوم (Barnum).  لقد سمعنا جميعاُ شيئاً ما عن عمليات زرع الرأس، والتي ربما جُرّبَتْ على الحيوانات، أو في تجارب معسكرات الاعتقال النازية، أو حتى في الطب الحديث. ربما سمعت أن الأطباء في الصين أو في مكانٍ ما قد أجروا هذه الاختبارات بالفعل. سنكتشف الآن ما هو صحيحٌ وما هو غير صحيحٍ في عمليات زراعة الرأس.

سأضع قاعدةً أساسيةً أخرى، وهي أنني سأخرج عن العرف واسمي هذا باسمه الفعلي: زراعة الجسم، لا زراعة الرأس. لن يحصل المريض على رأسٍ جديد، لأنه لن يكون المريض نفسه؛ بل سيحصل على جسمٍ جديدٍ. المصطلح الشائع هو زراعة الرأس، لذلك هذا ما استخدمته في عنوان الحلقة حتى يفهم الآخرون ما يدور حوله. ولكن من أجل الاتساق والمنطق في مناقشتنا، سنستخدمُ زراعة الجسم.

سأبدأ بالقول فوراً إن هذا المقال لن يعالج الآثار الأخلاقية لمثل هذه الإجراءات. منذ الأيام الأولى لعمليات زرع الأعضاء الأولى المنقذة للحياة، اتُهم الأطباء والعلماء بـ “لعب دور الرب” وأساءوا إلى مبادئ جميع أنواع الأشخاص. هذه أسئلةٌ لعلماء الأخلاق والفلاسفة. مهمتي اليوم هي مناقشة حالة العلم وراء إجراء عمليات زرع الرأس، والحقائق الواقعيّة لما تم وما لم يتم فعله حتى الآن. لذا من فضلك، احفظ أسئلتك وتعليقاتك حول الأخلاقيات المتضمنة، وقدمها بدلاً من ذلك إلى بودكاست الأخلاقيات والفلسفة.

أولاً، يجب أن ننتبه إلى أنّ هناك فعلاً مكاناً لهذا في الواقع الطبي. يمكن أن يمنح الجِسْمُ المُتَبَرَعُ به شخصاً ما ذا جسمٍ لا يعملُ فرصةً لتجديد الحياة، مع أنّه سيعاني قيوداً شديدةً. من شبه المؤكد أن المتلقي سيُصاب بالشلل الدائم، وليس من الواضح مقدار الوظيفة اللاإرادية (ضربات القلب، والتنفس، والهضم، وما إلى ذلك) التي قد تحتاج إلى دعمٍ ميكانيكي دائم؛ ولكن بالنسبة إلى بعض الأشخاص، حتى هذا سيكون بمثابة تحسنٍ كبير. عدا عن أنّه لا يوجد نقصٌ في المرضى الذين يسعدهم التطوع. المُرشّح النموذجي لزراعة الجسم هو شخصٌ مشلولٌ بالفعل ومن ثمّ ليس لديه الكثير ليخسره، ولكنّ جسمه يفشلُ ولم يتبق له متسعٌ من الوقت للعيش، أو أنّه يعيش في ضائقةٍ حادة. كما أن جثث المتبرعين (للأسف) ليست نادرةً جداً، إذ يبدو أن هناك إمداداً مستمراً بضحايا الصدمات الذين ينتهي بهم الأمر إلى موت الدماغ بأجسامٍ صحية. حالياً، ينتهي بهم الأمر بالتبرع بأعضاءٍ وعينين وجلدٍ وأيدي وحتى وجوه. سيكون هذا مجرد نوعٍ آخر من التبرع الذي ينتج عن الوفاة، ومع أنّها مأساويّة، فإنها على الأقل تمنح حياة إضافية لمتلقٍ ممتنٍ. وهكذا، أُثبِتَتْ الحاجة الطبية، كان الأطباء وعلماء الأعصاب يفكرون في زراعة الجسم لفترةٍ طويلة.

بدأ العمل الفعلي في بداية القرن العشرين، عندما طور الطبيب الفرنسي ألكسيس كاريل (Alexis Carrel) أولى التقنيات الجراحية الناجحة لإعادة توصيل الأوعية المقطوعة. في السابق، سببتْ هذه المحاولات حدوث نزيفٍ وانسدادٍ. عمل كاريل مع عالم الفيزيولوجيا الأمريكي الدكتور تشارلز جوثري (Charles Guthrie) لبحث زراعة الأطراف والأعضاء. كانت تجربتهم الأكثر بروزاً هي أخذ الرأس من كلبٍ وربطه برقبة كلب مُضيفٍ حي آخر، ونقل الدم من قلب الكلب المضيف إلى رأس الكلب المقطوع ثم إلى رأس الكلب المضيف. لكن لم يحدث اتصالٌ كامل، فقُتِلَتْ الكلاب قتلاً رحيماً بعد بضع ساعات، كما هو مخطط. حصل كاريل وجوثري على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء والطب عام 1912 عن هذا العمل.

بعد نحو أربعين عاماً، نقل الجراح السوفيتي الدكتور فلاديمير ديميخوف (Vladimir Demikhov) هذا إلى مستوى أعلى. إذ أخذ النصف الأمامي من كلبٍ صغير -كلَ شيء من الكتفين إلى أعلى -وطعّمَهُ في مؤخرة عنق الكلب المضيف، مما خلق “الكلاب ذات الرأسين” سيئة السمعة التي يمكن العثور عليها بسهولةٍ على الإنترنت. يبدو تقريباً أن الكلب الأصغر يُرّكب ظهره على الكلب المضيف، إذ تتشبث أطرافه الأمامية (التي لا تزال متصلةً) برقبة الكلب المضيف. في هذه الحالة، كان الاتصال أكثر اكتمالاً، وعاش زوجان من هذه الكلاب 29 يوماً؛ وعاشتْ معظم الأزواج الأخرى التي صنعاها بضعة أيامٍ فقط. يبدو أن الكلاب تحتفظ بملكات الكلاب؛ حتى أن الكلب الصغير كان يشرب من وعاءٍ ـ مع أنّ مريئه لا يتصلُ بأي شيءٍ، ولا يستطيع النباح لأنه ليس لديه رئتان. كان السبب النهائي للوفاة هو رفض الأنسجة. كان ذلك في الخمسينات من القرن الماضي، ولم تكن أدوية كبت المناعة موجودةً حينها، مما جعلَ كل هذه التجارب محكوماً عليها بالفشل. لقد كانوا حرفياً متقدمين على وقتهم، وكان كل من ديميكوف وكاريل وغوثري يعلمون أن ما كانوا يفعلونه لن يكون من الممكن تجربته على البشر.

لكن لم يكن هذا هو الحال بالنسبة إلى لطبيب التالي الذي بذل جهوداً بارزةً في مجال زراعة الجسم. أخذ جراح الأعصاب الأمريكي الدكتور روبرت وايت (Robert White) استراتيجيةً تجريبيةً مختلفةً قليلاً في عام 1965. أخذ دماغ كلبٍ -فقط الدماغ -وزرعه داخل تجويف صدر كلبٍ مضيف. كان يحتوي على إمداد دمٍ كامل، ومخطط كهربائية الدماغ المتصل باللون الأبيض (EEG) يؤدي إلى الدماغ المزروع. كرر وايت هذا ست مرات، وفي كل مرة من المرات الستة، كان نشاط مخطط كهربية الدماغ للدماغ المزروع مشابهاً لنشاط دماغ الكلب المضيف. بالطبع لا يمكن لأحدٍ أن يقول ما إذا كانت هذه الأدمغة المزروعة قد ظلّت واعيةً، لكنها بالتأكيد ظلت حيةً وفعالةً. ومع ذلك، فإن أطول مدةٍ نجا فيها أي كلبٍ مضيف كانت يومين.

ثم في عام 1970، حاول وايت إجراء أول عملية زرعٍ حقيقيةٍ لكامل الجسم. استخدم أربعة أزواجٍ من قرود الريس –وهو نوعٌ من أنواع القرود الهندية -وكانت الرؤوس متصلةً بكل جسمٍ مانح عن طريق الشريان السباتي والوريد الوداجي. نظراّ لأن القرود ستصاب بالشلل التام على أي حال، فقد أبقى وايت الأمر بسيطاً ولم يربط عضلات الرقبة أو يحاول إنجاز المهمة اليائسة المتمثلة في إصلاح النخاع الشوكي. ومع ذلك، حافظت القرود على أنماط تخطيط كهربائية الدماغ العادية، وتمكنت من العض والمضغ، وتتبع الأشخاص بأعينها. لكن إمدادات الدم إلى الرؤوس لم تكن جيدةُ على الإطلاق، وكانت أطول مدة بقاءٍ 36 ساعة فقط. كما يمكنك أن تتخيل، كان وايت هدفاً للاحتجاج الهائل والشكوى الأخلاقية، ولكن كما ذكرنا، نحن لا نتدخل في هذا الجانب حالياً.

في أواخر التسعينات، كان وايت لا يزال يواصل تجاربه، مستكملاً تقنياته باستخدام البشر المتوفين حديثًا. توفي عام 2010.

بعد ذلك، وبدءاً من عام 2013، أُجريَتْ أكثر الإجراءات نجاحاً حتى الآن في الصين، بواسطة الدكتور شياو بينج رن (Xiaoping Ren)، باستخدام الفئران. كان رن جزءاً من الفريق الذي أجرى أول عملية زرع يدٍ ناجحةٍ في عام 1999. على غرار تجارب الكلاب التي أجراها ديميكوف، طعّم رن رؤوس الفئران على أعناق الفئران المضيفة، ولكن هذه المرة باستخدام أحدث تقنيات الجراحة المجهرية، وهذه المرة ترك نظام القلب والأوعية الدموية للفأر المضيف متصلاً. لم تنجُ العديد من الأزواج، ولكن من بين أولئك الذين نجوا، كانت أطول فترة بقاءٍ هي ستة أشهر كاملة. حُوفِظَ على ضغط الدم بنجاحٍ، وبدا سلوك أزواج الفئران الناجين طبيعياً. كما أجرى رن وفريقه في الصين العديد من عمليات زرع الجسم الكاملة على الفئران، لكنّ أيّاً منها لم يعش لأكثر من يومٍ واحد.

حالياً، أكثر العلماء المعروفين الذين يواصلون عمل زراعة الجسم هو جراح الأعصاب الإيطالي الدكتور سيرجيو كانافيرو (Sergio Canavero)، الذي تحدث عن تعاونه الطويل مع رن، كان التعاون من جانبٍ واحدٍ إلى حد ما: دفع كانافيرو رن لاستخدام مختبره للإشراف المريح على التجارب البشرية، بينما ظلّ رن يذكّره بأن النتائج الجيدة في الفئران لا تُترجم على البشر. كانافيرو -وهو أيضاً مؤلف كتابٍ يتحدث عن إغواء النساء -وهو شيءٌ ذو طابعٍ مثيرٍ للجدل. بسماعه يتحدث – لقد ألقى محاضرتين في TEDx ألهمتا جحافل من المعجبين الساذجين وغير الخبراء – يجعلك تعتقد أنه اكتشف ينبوع الشباب الذي يمكن تقديمه على الفور وبطريقةٍ ساحرة لأي شخصٍ لديه عدد قليلٌ من النقرات بواسطة المبضع. صَنَفَتْ TED كلا حديثيه على منصتها -أحدهما اُفتتح حرفيّاً بالسطر المشؤوم “كل الخبراء يعرفون أنه خطأ” – على أنهما “تخمينيان ومشكوكٌ فيهما” ، ولكن تُزالا من مكتبة TED كما تفعل TED مع أسوأ المخالفين. مما لا يثير الدهشة، أن كانافيرو قد استقطب قدراً هائلاً من الغضب والذم من قبل علماء الأخلاق وعلماء الأعصاب الآخرين. لكن في الوقت نفسه، فإن عمله في هذا المجال مشروعٌ، وقائمٌ على العلم، وضخمٌ. لقد بنى على عمل العديد من أسلافه، إذ أخذ كل شيءٍ بصورةٍ منهجيةٍ ومنطقيةٍ إلى المرحلة التالية. إذا حكمنا عليه اعتماداً على عمله، فهو بالتأكيد ليس مجرماً؛ ولكن بالحكم عليه بالاعتماد على كلماته، فإنه يخطو بضع خطواتٍ بعيداً جداً في تلك المنطقة. إذا قال شيئاً، فكن متشككاً؛ ولكن حين يفعلُ شيئاً ما، فمن المحتمل أن يكون رهاناً آمناً أنه في نطاق العلم الراسخ. لذا، كما قلت، هو شخصيةٌ مثيرةٌ للجدل (ومعقدة).

كرر كانافيرو عملية زرع جسم قرد وايت في عام 2016، وفي عام 2017 أعلن أنه أجرى عملية زرع جسمٍ بشري بنجاح. ومع ذلك، فقد أهمل ذكر أنها أُجريتْ باستخدام الجثث -تماماً كما فعل وايت بالفعل. حتى كتابة هذه السطور، يؤكد كانافيرو أن العلم المطلوب موجودٌ الآن في مكانه الصحيح، ويدعو إلى بدء عمليات زرع جسم الإنسان الفعلية. بعد كل شيء، هناك مرضى يحتاجون إليها، ونوعية حياتهم منخفضةٌ بما يكفي لدرجة أنهم على استعدادٍ للمخاطرة بأن يكونوا خنازير غينيا.

معظم العاملين في هذا المجال لا يوافقون. يضع كل من رن وكانافيرو ثقتهما في البولي إيثيلين جلايكول Polyethylene glycol (اختصاراً: PEG)، الذي يعتبره البعض نوعاً من غراء الأعصاب. تقول النظريةُ أنّه إن غُمِرَ طرفا الحبل الشوكي المقطوع بـ بالبولي إيثيلين جلايكول فسيُحافَظُ على الأغشية العصبية لفترةٍ كافيةٍ للشفاء معاً. إنه يعمل عملاً جيداً على الفئران، لكن الفئران لديها بالفعل قدرةٌ على إعادة تنمية الأنسجة العصبية لا يمتلكها البشر ـ ولهذا استخدمها رن في تجاربه. لا يرى جراحو الأعصاب عدا كانافيرو سوى القليل من هذه الإمكانات حين يتعلق الأمر بالحبال الشوكية البشرية. دون الحبل الشوكي، يجب أن تعيش الأجسام المزروعة حياتها كلها على دعم الحياة الميكانيكي الكامل. هناك حلولٌ محتملةٌ، أو على الأقل حلول جزئية، في الأفق البعيد: علاجات الخلايا الجذعية لتحسين تجديد النخاع الشوكي، وكذلك الغرسات العصبية لاستعادة وظيفة محدودة وذلك بتجاوز الجرح.

للتلخيص، الإجابة المختصرة الآن هي لا، زراعة الجسم بالكامل لن تأتي في أي وقت قريب، على الأقل ليس دون قيودٍ شديدةٍ، وبالتأكيد ليس بدعمٍ من علماء الأخلاق. هذا الاعتراض بالذات هو اعتراضٌ متطرف. من الممكن بالتأكيد أنه قد جُرّب. لن أكون متفاجئاً على الإطلاق لو علمت أن بعض الأطباء، بل ربما هناك طبيبٌ ممن تحدثنا عنهم هنا، قد جرّبه بالفعل في مكانٍ ما بصورةٍ سريةٍ، مع إعطاء المريض الموافقة الكاملة؛ لكن أي محاولاتٍ من هذا القبيل ربما تكون قد باءت بالفشل، نظراً لأنه لم يُكْشَفْ عن شيءٍ من هذا القبيل على الإطلاق. قد يحدث هذا غداً أو العام المقبل، لكن التحدي الأكبر لإعادة توصيل الحبال الشوكية هو التحدي الذي لا يزال بعيداً عن علمنا. لذلك، في المرة القادمة التي تسمع فيها أن عملية زرع الجسم قد أُجريت بنجاح على البشر، أو أنها بالتأكيد قريبةٌ، أشجعك، كما هو الحال دائماً، على أن تكون متشككاً.

المقال الأصلي:

Brian Dunning, “Head Transplants”, Skeptoid Podcast #784, June 15, 2021