على مدار حياتنا، تتعرّض أدمغتنا لتغيراتٍ أكثر من أي عضو آخر في الجسم. يمكن تقسيم هذه التغيرات لتشمل خمسة مراحل أساسية، تؤثّر كل واحدة منها على قدراتنا وسلوكنا بشكل كبير. مع ذلك، فنحن لسنا مجرد متفرّجين وحسب خلال هذه العملية، إذ بإمكاننا أن نستفيد من تلك التغيرات التي تحدث تباعا في كل مرحلة وجعلها لصالحنا. هذا هو بالضبط موضوع هذا البحث الذي ظهر في مجلة New Scientist في 4 أبريل سنة 2009 والذي يعرض خمس مقالات توضّح مراحل تطور الدماغ ابتداء من المرحلة الجنينية وصولا إلى مرحلة الشيخوخة.

مع أول نفَس نأخذه، يكون عمر الدماغ عندها أكثر من ثمانية أشهر. يبدأ هذا العضو بالنمو بعد أربعة أسابيع من بداية الحمل، حين تلتفّ إحدى طبقات الخلايا الثلاث للجنين مشكّلة الأنبوب العصبي. بعدها بأسبوع، تنثني قمّة هذا الأنبوب مؤلّفة بذلك البنية الأولية لمقدّمة، منتصف، ومؤخّر الدماغ.

ابتداء من هذه النقطة، يصير نمو الدماغ وتمايزه معتمدا بالدرجة الأولى على الجينات وعلى ما تحمله من معلومات. رغم ذلك، يبقى العنصر الرئيسي الذي سيضمن الحصول على أحسن أداء من الدماغ في هذه الفترة هو التوفر على أفضل بيئة ممكنة في مرحلة ما قبل الولادة. يعني هذا أن تكون الأم، في المراحل الأولى لتطور الجنين، في بيئة خالية من مسببات القلق والتوتر، تتحصّل على تغذية جيدة، وتتجنب السجائر والكحول وغيرها من المواد السامة والضارة. ومع الاقتراب من نهاية عملية تشكّل الدماغ، عندما يصبح بإمكان الجنين أن يسمع ويتذكر، تبدأ الأصوات والأحاسيس بقولبة هذا العضو وذلك حسب شدّتها ونوعيّتها.

في الثلثين الأوليْن من الحمل، تكون عملية النمو بأكملها منحصرة في وضع الأساسات واللبنات الرئيسية لعمل الدماغ، وذلك بزيادة إنتاج الخلايا العصبية وعدد الروابط بينها، والتأكّد من أن كل قسم من الدماغ ينمو بصورة ملائمة وفي المكان المخصّص له. يتطلّب هذا العمل وجود الطاقة، إضافة إلى مجموعة من العناصر الغذائية التي تُستهلك بكمّية محسوبة وفي الوقت المناسب. في الواقع، لو تأملنا في حجم عملية البناء هاته -إنتاج مئة مليار خلية دماغية وملايين من الخلايا الداعمة على مستوى أربعة فصوص دماغية رئيسية وعشرات المناطق الدماغية المستقلة- فلا يمكننا سوى أن نقف مذهولين أمام هذه الهندسة التطورية الفذة.

من بين العناصر الغذائية التي يحتاجها الدماغ في مراحل تشكّله الأولى هو حمض الفوليك، الذي يلعب دورا مهما وحسّاسا يتمثل في سدِّ الأنبوب العصبي. أيّ نقصٍ في استهلاك هذا العنصر يؤدي لحدوث عيوب على مستوى أعضاء الجسم، كالسِّنسِنَة المشقوقة (spina bifida)، حيث ينمو جزء من العمود الفقري خارج الجسم، أو انعدام الدماغ (anencephaly) الذي يعتبر حالة مرضية مميتة لأن جزءا كبيرا من الدماغ لا يكتمل نموّه. كما أن حدوث نقص في كمية الفيتامين ب12 عند الجنين قد يؤدي لنتائج مماثلة.

تصعب معرفة دور كل من العناصر الغذائية الأخرى في الأسابيع الأولى لحياة الجنين نظرا لكون القصور على مستوى امتصاصها غالبا ما يرافق حالة عامة لسوء التغذية والفقر، وأيضا لصعوبة ربط هذا القصور المبكر بالمشاكل الصحية التي لا تظهر إلا بعد شهور أو سنوات من حدوثه. غير أن ما نعلمه من الدراسات المجراة على الحيوانات يؤكد أنّ سوء التغذية، وخاصة نقص البروتينات، يعيق نمو الخلايا العصبية والروابط بينها، وأنّ عنصري الزنك والرصاص ضروريان لكي تنتقل هذه الخلايا من مكان تشكّلها إلى موقعها النهائي. كما أن سلاسل الأحماض الدّهنية غير المشبعة تعتبر ضرورية لضمان نمو نقاط الاشتباك العصبي وكذا عمل الأغشية الخلوية.

رغم أن التغذية الجيدة وأخذ فيتامينات في مرحلة الحمل، في حالة ما تم وصفها من قبل الطبيب، عادة ما يكون كافيا لتلبية احتياجات دماغ الجنين في مراحله المبكرة، إلا أن وقوع خلل على مستوى المشيمة -نتيجة لارتفاع ضغط الدم، التوتر، أو التدخين- يُمكن أن يؤدي بدوره لإعاقة نمو الجنين. كما أن استهلاك العناصر الغذائية بشكل مفرط يضر بالجنين أيضا، إذ إن سوء مراقبة حالة مرض السكري، مثلا، أثناء الحمل، يسبب ارتفاعا ساما في كمية الجلوكوز داخل دماغ الجنين الذي يوجد في طور النمو.

لحسن الحظ يضم الدماغ شبكة أمان واسعة، إذ أنه يقوم بإنتاج ضعف عدد الخلايا العصبية التي يمكن أن يحتاجها. مع ذلك، فبعض الأضرار لا يمكن إصلاحها. فمثلا، نقص الحديد لدى الجنين يؤثر على عمل الدماغ لمدة تصل لثلاث سنوات، حتى وإن تلقّى الطفل مكملات غذائية بعد ولادته. أما بخصوص المواد السامة، فإن الخبر الجيد هو أن الجنين محمي بشكل جيد عن العالم الخارجي، و حتى عن أمه، وذلك لكون المشيمة حاجزا انتقائيا للغاية. حيث تتوفر هذه الأخيرة على عدد من المضخات البروتينية التي تساعد على منع العناصر غير المرغوب فيها والموجودة على مستوى مجرى دم الأم من الوصول إلى الجنين.

رغم ذلك، فالمشيمة لا تمنع كل المواد السامة من الوصول للجنين، إذ يمكن لموادَّ كالزئبق والنيكوتين والكحول أن تخترق هذا الحاجز، مُولّدة بذلك تأثيرات متباينةَ الدرجة حسب كمية الجرعة التي مرّت للجنين وتوقيت تعرضه لها. وهو أمر أشارت إليه دراسات عديدة على الحيوانات، إذ لوحظ أن النيكوتين يؤثر على عمل الناقلات العصبية، والزئبق يسبب فقدان الخلايا على مستوى المخيخ وفي أجزاء أخرى من قشرة الدماغ، أما الكحول فمن المعروف أنه يؤدي إلى موت الخلايا العصبية وتعديل عمل بعض الناقلات العصبية. مع ذلك، فتحديد كمية الكحول المسببة للاختلالات المعرفية والبدنية المصاحبة لمتلازمة الجنين الكحولي (fetal alcohol syndrome)، أو غيرها من الأشكال الخفية للضرر، يبقى أمرا غير واضح.

بعض المواد السامة لا تحتاج أن تمر عبر المشيمة لكي يكون لها تأثير سلبي. فدخان السجائر، مثلا، يعيق تدفق الدم إلى الجنين ويحرمه من الحصول على الأوكسجين والعناصر الغذائية اللازمة لنموه. تحديد كيفية تأثير هذا على الدماغ بشكل دقيق أمر صعب جدا، رغم أن هناك بعض المؤشرات التي تشير إلى أن الجسمَ الثَّفَنِيّ (corpus callosum) الذي يربط بين نصفي المخ، و القشرة الجبهية الحجاجية (orbitofrontal cortex) التي تشارك في تحديد السلوك الاجتماعي، ربما يكون حجمها أصغر لدى المراهقين الذين تعرضوا لدخان السجائر أثناء وجودهم في الرحم. عند فتياتٍ في مرحلة المراهقة، قشرةٌ جبهية حجاجية أصغر تعني ظهور سلوك غير متعاطف مع الآخرين، ما يشير إلى أن التدخين قد يسبب مشاكل سلوكية لدى النسل في مرحلة لاحقة من الحياة. إلا أن دراسة حديثة قد كشفت أنه لا توجد فروق فعليّة في إجمالي القدرات المعرفية بين المراهقين الذين تعرضوا لدخان السجائر والذين لم يتعرضوا له، الأمر الذي يستدعي مزيدا من الأبحاث حول تأثير التدخين على الجنين في مرحلة الحمل .

يمكن للتوتر أن يكون ساما أيضا، وهو الأمر الذي أكدته عدد من التجارب على الحيوانات، حيث يؤدي تعرض الجنين لهرمونات التوتر المفرزة من طرف الأم إلى ظهور السلوك القلق وفرط النشاط في النسل. كما خلصت دراسة حديثة مطولة، أجريت من طرف جامعة إمبريال كوليج لندن (Imperial College London)، وشملت 7000 أما ورضيعا، إلى أن توتر الأمهات قد يفسر 15 في المئة من الحالات المشخّصة باضطراب قصور الانتباه وفرط الحركة (attention-deficit hyperactivity disorder). وهو ما يجعل تأثير التوتر على الجنين مماثل لتأثير باقي المواد السامة الأخرى.

إذا كنت تقرأ هذا المقال، فهذا يعني أنك مررت بسلام من مرحلة التسعة أشهر الأولى من حياتك، أو أن أيّ مشاكلَ قد تكون تعرضت لها قد تم إبطالها بواسطة مزيج من التربية الجيدة والتعليم الذي تلقّيته في وقت لاحق. في المرحلة التالية، سيبدأ الدماغ الفتيّ بالتعلم والتذكر، ما يعني أننا سنحصل على أولى الفرص لاستخدام هذا العضو البديع، وبداية رحلة جديدة.

 

المصدر

Caroline Williams, “The five ages of the brain”, New Scientist, 4 April 2009

إقرأ ايضاً:

الدماغ في مرحلة الطفولة

الدماغ في مرحلة المراهقة