خلال مرحلة الطفولة، يكون الدماغ في أقصى درجات طاقته ومرونته، حيث يستمر هذا العضو في النمو بينما نكتشف العالم من حولنا، مقيما وهادما العلاقات التي تربط بين الأشياء التي نعاينها بسرعة فائقة. هذا ما يجعل البعض يصرّح بأن مهارات التعلم، والتذكّر، وفهم اللغة، ربما تكون مهارات تبدأ قبل حتى أن نولد.

 

خلال فترة ما قبل الولادة، يتشكل ما يقارب 250 ألف خلية جديدة كل دقيقة، وروابط عصبية يصل عددها إلى 1.8 مليون رابطة في الثانية. ما يقارب نصف عدد هذه الخلايا يذْوي ويموت لاحقا، مخلّفة فقط تلك الخلايا التي تم تعزيز الروابط بينها والتي تم استخدامها بشكل متكرر. منذ لحظة الولادة، يخضع الطفل لما يماثل عقدا من النمو السريع والتدريجي، حيث تساهم كل تجربة وكل خبرة جديدة في تحديد الشخص الذي سيصبح عليه مستقبلا. يدفعنا هذا للتساؤل، ما الذي يمكن للآباء القيام به حتى يمكّنا طفلهم من زيادة إمكانيات دماغه واستغلال قدراته في هذه المرحلة الحساسة من حياته؟

تُعتبر الخبرات التي تحصل في نهاية مرحلة ما قبل الولادة مهمة جدا وحاسمة في مسار التطور الطبيعي للدماغ. تجريبيا، يمكن تحديد الفترة التي تبدأ فيها عملية التعلم بين الأسبوع 22 والأسبوع 24 من الحمل، عندما يستجيب الجنين إلى ضجة أو لمسة أول مرّةٍ، لكنه يتجاهل نفس التحفيز إذا ما حدث مرارا؛ عملية تذكّر بسيطة تعرف باسم التعوّد (habituation). عند حوالي الأسبوع 34، يظهر لدى الأجنة نمط جديد من التذكّر يُعرف بالتكييف (conditioning). هذه العملية الجديدة أعقد من سابقتها، إذ يتم اعتبار تحفيزٍ عشوائي ما على أنه إشارة إلى أمر ما سيحدث بعده، مثل حدوث صوتٍ (تحفيز) يُفهم على أنه سيُتبع بوكزة (حدث). فيما يتعلق بذكريات الجنين عن قطع موسيقية معينة، أوعن صوت الأم ورائحتها، فقد ثبت أنها تتشكل في وقت ما بعد الأسبوع 30 من الحمل وتستمر إلى ما بعد الولادة.

 

اكتساب اللغة يبدأ في مرحلة ما قبل الولادة أيضا، حيث لوحظ أن المولود الجديد يَرضع بنشاط أكبر إذا سمع لغته الأم، بدلا من لغة أجنبية، بالرغم من أن المواليد الجدد يستجيبون للأصوات من مختلف اللغات حتى حوالي 3 سنوات من العمر. مع ذلك، فبينما يُؤدي التحدّث إلى جنين في الربع الثالث من الحمل إلى مساعدته على التعرف على صوت الأم لاحقا، إلا أنه لا وجود لأي أدلة مباشرة تشير إلى أن تواجده وسط بيئة تعرف تعددا لغويا في هذه المرحلة يؤثر على قدراته اللغوية المستقبلية. أهم العوامل في اكتساب اللغة تتمثل في كمّ الحديث الذي يجري بين الطفل وأبويه بعد الولادة، نوعية وتعقيد المفردات التي يستخدمونها، وكذا مدى نجاحهم في جذب اهتمام الطفل وتركيز انتباهه.

 

في حين أن بعض الشركات التي تبيع منتجات “التعليم ما قبل الولادة” تودّ أن يعتقد الآباء أنه من الممكن تعليم الأطفال وهم في الرحم، إلا أنه لا يوجد أي دليل يثبت أن مثل تلك التدابير تساهم في تزويدهم بأسبقيّة في عملية التعلم. في الواقع، هناك أسباب وجيهة تدفعنا للقول بأن بيئة الجنين تُوفّر تجربة حسية محدودة، حيث إن التحفيز المفرط، كما يحدث في حالة أخذ الأم لبعض الأدوية والعقاقير، يمكن أن يقتل الخلايا الدماغية الجديدة.

 

لا تغيّر الولادة سوى جزء صغير من عمل الدماغ. فرغم أن القشرة الحسّية الجسدية (somatosensory cortex)، الحساسة للّمس، تكون نشطة قبل الولادة، إلا أن حدوث أي نشاط آخر في القشرة الدماغية -تتحكم هذه القشرة في الحركات الطوعية، التفكير، والإدراك- يحتاج إلى شهرين أو ثلاثة أشهر على الأقل. فقط في الفترة ما بين 6 أشهر إلى سنة ينشط الفص الجبهي، معلنا بذلك نشوء المشاعر و الارتباطات العاطفية، انطلاق التخطيط المعرفي، وبداية عمل الذاكرة العاملة والانتباه. يتطوّر الشعور الفردي بالذات في حدود 18 شهرا، بعد ضمّ الشبكات العصبية لكل من الفص الجبهي والفص الجداري تدريجيا، في حين ينمو الشعور وإدراك تفرد الآخرين في سن الثالثة أو الرابعة.

 

التجارب التي نمر بها في هذه المرحلة المبكرة من تكويننا تساعد على صياغة وتشكيل حالتنا العاطفية، لذلك فالتعرض للإهمال أو التربية القاسية في هذه المرحلة قد يغير الدماغ إلى الأبد. فمثلا اختبار الطفل للرفض من الأم، أو حدوث صدمة من أي نوع في هذه المرحلة، قد يؤثر على الاستجابات العاطفية للفرد عند مواجهة مواقف عصيبة في وقت لاحق من حياته. وهذا ما يجعل هؤلاء الأفراد مهيئين، نوعا ما، للإصابة بالاكتئاب واضطراب القلق كنتيجة لتلك التجارب المريرة التي مروا بها.

 

ما هو السبيل، إذن، للاستفادة القصوى من إمكانيات الدماغ في هذه المرحلة؟ الخبر الجيد هو أنه لا داعي لزجر الأطفال عن اللعب وحثهم على العمل الجاد في هذه الفترة. إذ أظهرت الدراسات أن وجود الطفل في بيئة مواتية وتخصيص وقت فردي للّعب معه بألعاب مثل بيكابو، قطع البناء، وغناء الترانيم، توفّر، في الواقع، كل ما يحتاجه لزيادة معدل ذكائه وتعزيز اهتمامه بالتعلم على مدى حياته.

 

يدّعي البعض أن الاستماع إلى موزارت يحسّن التعلّم و القدرات المكانية (spatial tasks) لدى الأفراد. “تأثير موزارت” هذا، والذي ساهم في تكاثر البرامج التعليمية لمرحلة ما قبل الولادة ومرحلة الطفولة، ولّد آراء متباينة بين الباحثين، بين مؤيد لهذه الفرضية ورافض لها، دون أن يتم حسم الخلاف كليا بهذا الصدد. مع ذلك، فتعلم عزف الموسيقى خلال الطفولة يعتبر مسألة مختلفة تماما. عملية التعلم تلك لديها تأثيرات طويلة الأمد على الدماغ، وهو ما دفع البعض إلى القول بأن تعلم عزف الموسيقى يساهم في تحسين القدرات المكانية والرياضية ومهارات التفكير لاحقا.

 

بحلول السادسة من العمر، يكون وزن الدماغ مقاربا لوزن دماغ الفرد البالغ، كما أن مستوى استهلاكه للطاقة يصل إلى أقصى درجاته. في هذه الفترة، يبدأ الأطفال بإعمال التفكير المنطقي ومحاولة فهم سيرورة عملية التفكير التي يقومون بها. تستمر أدمغتهم في النمو وتشييد وهدم الروابط بين الأشياء التي يختبرونها إلى حين الدخول في مرحلة المراهقة – يصل حجم المادة الرمادية إلى أقصاه في هذه المرحلة. بعدها، يتغير الدماغ من جديد، فاتحا بذلك الباب نحو مرحلة جديدة.

المصدر:

Helen Philips, “The five ages of the brain”, New Scientist, 4 April 2009

إقرأ ايضاً:

الدماغ في مرحلة الحمل

الدماغ في مرحلة المراهقة