ينحصر البحث في القرارت الأخلاقية للإنسان على مبدأين مركزيـيْن هما: مبدأ الواجب المرتبط بفلسفة إيمانويل كانط، ومذهب المنفعة المرتبط بفلسفة جون ستيوارت ميل. يؤكد مبدأ الواجب على عالمية الحقوق والواجبات وعدم قابليتها للتغيْر، ولذلك فإن الحالة الأخلاقية لفعل معين يعتمد على توافقه مع الأعراف الأخلاقية. بمعنى أن الفعل يُعتبر مقبول، إذا توافق مع مجموعة من الأعراف الأخلاقية، وغير مقبول إذا خالفها. بينما يؤكد مذهب المنفعة على الأفعال التي تؤدي إلى الصالح العام وأقل الأضرار الممكنة. ولهذا، فإنه طبقاً لمذهب المنفعة، فإن الحالة الأخلاقية لفعل معين تعتمد على تبعياته التي تؤدي إلى المصلحة الشاملة. ولذلك، فإن الفعل يعتبر أخلاقياً، إذا ترتب عليه زيادة في الخير والمصلحة العامة، وغير أخلاقياً إذا ترتب عليه نقصان في الخير العام.

ولنأخذ مثالاً للتوضيح، في يوم 11 سبتمبر من عام 2001، قام أفراد من منظمة القاعدة الإرهابية باختطاف طائرتيـْن وتحطيمهما في برجي مركز التجارة العالمي، مسببيـن وفاة حوالي 3000 شخص، وإصابة ما يزيد عن 6000 شخص. أدى هذا الحادث المروع إلى مناقشات ساخنة بشأن إذا كان من المقبول أخلاقياً إسقاط الطائرات المختطفة لمنع الإرهابيين من تحطيمها في الأماكن المكتظة بالسكان. وقد جادل بعض الأشخاص أنه من المقبول أخلاقياً قتل الركاب الأبرياء على الطائرات المختطفة، وذلك من أجل المصلحة الأكبر (أي منع قتل العديد من الأشخاص الأبرياء طبقاً لمذهب المنفعة). بينما جادل آخرون، بأن إسقاط الطائرات بالأشخاص الأبرياء يعتبر فعلاً لا أخلاقياً بغض النظر عن عدد الأرواح التي سيتم إنقاذها (طبقاً لمذهب الواجب).

محاولات لفهم التفضيلات الأخلاقية للأشخاص

في محاولة لفهم الجذور النفسية للرؤى الأخلاقية المتضاربة، قام الباحثون باستقصاء العوامل الشخصية والظرفية المؤثرة على تفضيلات الأشخاص سواء للمذهب النفعي أو مبدأ الواجب من خلال معضلات أخلاقية حيث يترتب على كلا المبدأيْن نتائج متعارضة. وفي محاولة لتقديم نظرة أشمل على محددات التفضيلات الأخلاقية، قامت العديد من الدراسات بتحديد الأسس العصبية إما باستخدام التصوير العصبي أو باستخدام دراسة المرضى الذين يعانون من أضرار في مراكز معينة بالمخ. نتيجة لذلك، ازداد اهتمام العلماء بإسهام الهرمونات في التأثير على التفضيلات الأخلاقية. يعتقد العلماء بأن الهرمونات العصبية يمكنها التأثير على الأحكام الأخلاقية بشكل أساسي، وذلك عن طريق تنظيم النشاط الدماغي في الأماكن المرتبطة بالقرارات الأخلاقية.

تأثيرات التستوستيرون النفسية

يلعب هرمون التستوستيرون دوراً أساسياً في تطوير الملامح الرئيسية والثانوية في الرجال. بالإضافة إلى دوره البيولوجي الهام، فقد تم اقتراح أنْ التستوستيرون مُحدِد هام للأحكام الأخلاقية، حيث ربطت العديد من الدراسات بين الزيادة الداخلية (إنتاج الجسم له) والخارجية (إعطائه في صورة دواء) لهذا الهرمون بالعديد من القرارات الأخلاقية المختلفة. على سبيل المثال، ارتبط التستوسيرون بانخفاض التعاطف والتقمص العاطفي، تحسين الميول السيكوباتية، وخفض نشاط المخ بالقشرة البَطْنِيٌّة الإِنْسِيّة قبل الجبهية (ventromedial prefrontal cortex). علاوة على ذلك، فقد ارتبطت هذه التأثيرات أيضاً بزيادة التفضيلات للمذهب النفعي في الأشخاص الذين يمتلكون معدلات تقمص عاطفي منخفضة، والمصابين بأضرار بالقشرة البَطْنِيٌّة الإِنْسِيّة قبل الجبهية، والذين يمتلكون معدلات مرضية منخفضة من الميول السيكوباتية. وعلى هذا الأساس، فقد تم اقتراح أن التستوستيرون قد يزيد من تفضيلات الأشخاص للمبدأ النفعي عن مبدأ الواجب، وذلك من خلال تقليل التقمص العاطفي عن طريق خفض نشاط المخ بالمنطقة المذكورة أعلاه. وقد وجدت بالفعل بعض الدراسات، أن الرجال والنساء ذوي المعدلات المرتفعة من التستوستيرون أظهروا ميلاً للقرارات الأخلاقية المؤذية، مقارنة بنظرائهم ذوي المعدلات المنخفضة. يؤخذ على هذه الدراسات التي ربطت بين الزيادة الداخلية للتستوستيرون وبين الأحكام الأخلاقية المؤذية، هو الاحتمال بأن هذا الارتباط الظاهري قد يكون لمتغيرات نفسية (سيكولوجية) أخرى، على سبيل المثال السيكوباتية، وأن التستوستيرون نفسه لا يؤثر على القرارات الأخلاقية.

ولذلك، قامت بعض الدراسات بإعطاء تستوستيرون خارجي (على هيئة دواء) للمشاركين من أجل نتائج أفضل بشأن علاقة التستوستيرون بالأحكام الأخلاقية. ولكن هذه الدراسات قدمت نتائج مختلفة بشأن علاقة هذا الهرمون بالأخلاق. حيث وجدت بعض الدراسات عدم أهلية تأثيرات التستوستيرون الخارجي، فيما وجدت أخرى تأثيرات ملحوظة له ولكن في وجود عوامل أخرى مساعدة، بينما لم تجدْ البقية أي تأثير له على الإطلاق.

دراسة حديثة عن علاقة التستوستيرون بالقرارات الأخلاقية

للتغلب على قصور الدراسات السابقة، قام الباحثون في الدراسة التي نشرت في عام 2019 بدورية نيتشر هيومن بيهفيور، باستخدام عينة أكبر من الدراسات السابقة (200 فرد) تم تقسيمهم إلى مجموعتيـن: مجموعة تم إعطاءها تستوستيرون، بينما الأخرى تم إعطاءها دواء وهمي (بلاسيبو). تمثلت الفرضية الأولى للدراسة بأن الأشخاص الذين تم إعطاؤهم تستوستيرون سوف يظهرون ميلاً كبيراً للمذهب المنفعي لا مبدأ الواجب، حيث يميل الأشخاص للقيام بأفعال تمنعها الأعراف الأخلاقية، وذلك عندما تتجاوز المنافع المحتملة المخاطر، مقارنة بالمجموعة التي تم إعطاءها بلاسيبو. حيث أظهرت الدراسات السابقة ارتباط واضح بين التستوستيرون وبين تفضيل مذهب المنفعة والمصلحة العامة. لذا فقد طمحت الدراسة الحالية إلى إعادة تكرار هذا الارتباط.

تمثلت الفرضية الثانية للدراسة في أن الأشخاص الذين تم إعطاؤهم الهرمون، يجب أن يُظهروا حساسية أكثر للعواقب من مجموعة البلاسيبو. تقوم هذه الفرضية على نتيجة توصلت إليها الدراسات السابقة، حيث ارتبطت زيادة معدلات هرمون التستوستيرون بزيادة الحساسية للمكافأة، والاهتمام المرتفع بالعواقب، واللذيْن قد يؤثران معاً على الأحكام الأخلاقية بجعلها أكثر ميلاً للمبدأ النفعي. للتوضيح بالمثال الذي ذكرناه أعلاه، من المفترض أن يزيد التستوستيرون من دعم الأشخاص لإسقاط الطائرة المختطفة، بزيادة حساسية الأفراد للعواقب وهي عدد الأفراد الذين يُمكن إنقاذهم (إذا لم يقم المختطفون بتحطيم الطائرة في أماكن مكتظة).

افترضت الدراسة أيضاً أن الأشخاص الذين تم إعطاءهم تستوستيرون سوف يظهرون حساسية أقل تجاه الأعراف الأخلاقية مقارنة بالمجموعة الأخرى. يقوم هذا الافتراض على الاتحاد الذي تم إيجاده بين زيادة معدلات هذا الهرمون وبين انخفاض الحساسية للعقاب، وبالتالي قد يؤثر على التفضيلات الأخلاقية للأشخاص بجعلهم أقل حساسية للأعراف الأخلاقية. للتوضيح بالمثال السابق، من المفترض أن زيادة التستوستيرون سوف ترفع ميل الأشخاص لإسقاط الطائرة، عن طريق خفض قلق الشخص بشأن العواقب المحتملة بشأن انتهاكه للأعراف الأخلاقية، والتي تمنع القتل.

تمثلت الفرضية الرابعة والأخيرة للدراسة في أن ارتفاع التستوستيرون سوف يؤدي إلى ميل الأشخاص للقيام بفعل، عوضاً عن اللافعل والذي من المفترض أن تتخذه مجموعة البلاسيبو. يقوم هذا الافتراض على الارتباط الذي وُجد بين زيادة معدلات التستوستيرون وبين الميل القوي للأشخاص للتصرف في وجود تهديد، بالإضافة إلى زيادة النشاط، الطاقة والإصرار والذي قد يدفع بالأشخاص إلى التصرف بغض النظر عن العواقب والأعراف الأخلاقية. مرة أخرى للتوضيح، فإن زيادة التستوستيرون سوف تجعل الشخص أكثر ميلاً للأفعال بغض النظر عن عدد الأشخاص الذين سيتم إنقاذهم وبغض النظر عن الأعراف الأخلاقية القائلة بعدم القتل.

نتائج الدراسة

لم تظهر نتائج الدراسة أي دليل على صحة الفرضيات السابقة. طبقاً للفرضية الأولى، فإن زيادة التستوستيرون سوف تؤدي إلى تفضيل الشخص للمذهب المنفعي بدلاً من مبدأ الواجب. ولكن، على عكس المتوقع، أظهر الأفراد في المجموعة التي تم إعطاءها الهرمون تفضيلاً أقل للأحكام الفعلية (كإسقاط الطائرة) مقارنة بالبلاسيبو. أما بالنسبة للفرضية الثانية، حيث كان من المتوقع أن زيادة هرمون التستوستيرون سوف تؤدي إلى زيادة الحساسية للعواقب، لم يكن هناك أي فارق إحصائي بين المجموعتين سواء التي تم إعطاءها التستوستيرون أو البلاسيبو. وعلى النقيض من الفرضية الثالثة القائلة بخفض التستوستيرون للحساسية تجاه الأعراف الأخلاقية، فقد أظهرت المجموعة التي تم إعطاءها الهرمون ميلاً أكبر للالتزام بهذه الأعراف مقارنة بمجموعة البلاسيبو. وأخيراً، لم تظهر النتائج أي دليل على صحة الفرضية الرابعة، التي تنبأت بأن زيادة التستوستيرون سوف تؤدي إلى ميل الأفراد إلى الفعل بدلاً من عدم التصرف والمشاهدة (اللافعل).

على الرغم من ذلك، فقد أظهرت نتائج الدراسة ارتباط حاسم بين الأحكام الأخلاقية وبين مستويات هرمون التستوستيرون الداخلي (البيولوجي)، والذي يتفق مع الفرضية الثالثة للدراسة. وعلى النقيض من تأثير التستوستيرون الداخلي، فقد أظهرت نتائج الدراسة أن الهرمون الخارجي (الذي يتم إعطاءه كدواء) له تأثير معاكس لنظيره الداخلي. فبينما يقوم التستوستيرون الداخلي بخفض الحساسية تجاه الأعراف الأخلاقية، يقوم الهرمون الخارجي بزيادة الحساسية تجاهها.

تخرج الدراسة بنتيجة مفادها أن تأثير التستوستيرون على الأحكام الأخلاقية قد يكون أكثر تعقيداً، على عكس ما اقترحته المكتشفات السابقة. فعلى سبيل المثال، الارتباط بين التستوستيرون الداخلي والأحكام الأخلاقية قد يكون نتيجة لارتباط ملامح شخصية أخرى مع تغيرات فردية في مستويات التستوستيرون الداخلية. فعلى سبيل المثال، قد يمتلك الأشخاص السيكوباتيـن معدلات مرتفعة من هرمون التستوستيرون؛ قد ترتبط السيكوباتيـة بانخفاض الحساسية للأعراف الأخلاقية؛ نستنتج من المثال السابق أن العلاقة بين زيادة التستوستيرون الداخلي وانخفاض الحساسية للأعراف الأخلاقية ما هي إلا نتيجة الاتحاد المشترك بينهم وهو السيكوباتية، عوضاً عن التستوستيرون كمسبب رئيسي.

تفسير آخر للتأثير المعاكس بين التستوستيرون الداخلي والخارجي هو نتيجة للتأثير المعقد والدينامي للهرمون على الجهاز العصبي المركزي. في الرحم، يقوم الهرمون بتشكيل وتنظيم تطور المخ بإظهار الخصائص الذكورية بدلاً من الأنثوية للدوائر العصبية. ومن خلال هذه التأثيرات، يقوم التستوستيرون الداخلي بتشكيل الميول السلوكية للأفراد على المدى الطويل، مما يؤدي إلى ارتباط بينه وبين الخصائص الشخصية المختلفة مثل السيكوباتية، وهذا ما تدعمه المكتشفات الحالية. حيث يؤثر الهرمون على الأحكام الأخلاقية للأفراد عن طريق تأثير غير مباشر على تطور الشخصية. بينما ترتبط الزيادة المؤقتة في مستويات التستوستيرون (عند إعطاءه كدواء مثلاً) بالبحث على والحفاظ على الحالة الاجتماعية. حيث يُمثل التعبير عن قرارات أخلاقية معينة وسيلة لتحقيق هذا الهدف، بمعنى أن زيادة التستوستيرون الخارجي تؤدي إلى زيادة الحساسية للأعراف الأخلاقية كوسيلة للحصول على الاستحسان والاحترام من الأفراد ذوي المكانة المرتفعة (في هذه الحالة الباحثيـن).

المصدر:

Brannon, S.M., Carr, S., Jin, E.S. et al. Exogenous testosterone increases sensitivity to moral norms in moral dilemma judgements. Nat Hum Behav 3, 856–866 (2019) doi:10.1038/s41562-019-0641-3