تخيل أنك في غرفتك المعتمة بعدما أمضيت نهاراً متعباً. يراودك القلق والأرق والخوف، تحاول الهروب من أفكارك بالنوم، لكنها تباغتك وتجعلك بمنأى عن الراحة. تتصفح اليوتيوب بحثاً عن موسيقى هادئة، تكتب في محرك البحث (relaxing) فتطل عليك امرأة بوجهها الجميل تهمس لك بهدوء، تتمتم بلطف، تركز النظر في عينيك، تعيدك لطفولتك وكأن والدتك تهدهد لك. تتسمر في مكانك دون حراك. تراقب وتسمع كل ما تفعله. وإذ بك تشعر بالراحة والهدوء والسعادة بعد رعشة أحسست بها في مؤخرة رأسك امتدت إلى عمودك الفقري ومن ثم إلى أطرافك. هذا هو الإيسمار (ASMR) أو ما يسمى بنشوة الدماغ.

رابط الاستماع على جوجل بودكاست

الإيسمار(ASMR) هو استجابة القنوات الحسية الذاتية (Autonomous Sensory Meridian Response). يُوصف عادة بأنه مجموعة من المشاعر والأحاسيس التي تؤدي إلى ما يسمونها بالنشوة الدماغية التي يشعر بها المرء في مؤخرة فروة رأسه وتمتد لتصل إلى الأطراف. يتبعها شعور بالاسترخاء والنعاس والهدوء والرضا. (1).

ظهرت الأوصاف الأولى للإيسمار عام 2007 في منتديات مثل (Steady Health) و (Is  It Normal)، عندما وصف أحدهم شعور الوخز الذي يشعر به في رأسه وفي كامل جسده إذا شاهد عرضاً للدمى أو عندما يقوم صديقه بالرسم على يده. هناك الكثير من الأشخاص الذين شاركوه الحالة واعترفوا بأن ذلك يحصل معهم أيضاً. أسسوا مجموعة على الياهو (Yahoo) تحمل اسم الايثاريين وقاموا بتحميل مقاطع على اليوتيوب تحمل عناوين مثل الهمس أو النشوة الجنسية الناتجة عن الانتباه وأسماء أخرى. حتى جاءت امرأة تدعى جين ألين (Jenn Allen) وصاغت مصطلح إيسمار(ASMR) في عام 2010 وأسست موقعاً (asmrresearch.org.) (3)

تجد الآن على اليوتيوب الكثير جداً من فيديووهات إيسمار. يظهر من خلالها صانعو الإيسمار (اغلبهم نساء جميلات في سن الانجاب) يهمسن لك بلطف شديد أو ينقرون بأظافرهم برقة على الأسطح أو يقومون بطي المناشف أو مداعبة الوسائد بطريقة مثيرة. يتم التركيز على أجزاء معينة في الجسم، مثل الشفاه والأسنان أو اليدين أو الجذع فقط لتوجيه نظر المشاهد. قد تكون في بعض الأحيان مقاطع الفيديو سوداء، تعتمد كلياً على المؤثرات الصوتية (همس، نقر على الأسطح الصلبة، النفخ، صوت الكتابة بالطباشير على اللوح…الخ) (5)

أولى الأوراق العلمية التي نُشرت حول هذا الموضوع، كانت تلك التي نشرها ديفيس (Davis) وزميلته الدكتورة إيما باريت(Emma Barrett) في عام 2015. وصفا فيها تأثير الإيسمار الإيجابي على الناس المكتئبين، الأمر الذي أثار فضولهم حول امكانية استخدامه كعلاج (3)

بدأ التحقيق حين طلب كل من باريت وديفيس من الأشخاص عبر الإنترنت ملء استبيان حول وصف شعورهم بعد مشاهدة مقاطع فيديو، أحدها إيسمار والأخرى لا صلة لها به. خلال 475 إجابة، وصف المشاركون الإحساس بعد مشاهدة الإيسمار وكأنه وخز ينشأ في الجزء الخلفي من فروة الرأس ويتقدم إلى أسفل خط العمود الفقري، وفي بعض الحالات، نحو الكتفين. بينما لم يشعر بذلك أولئك الذين لم يشاهدوا الإيسمار. (4)

هناك دراسة في جامعة شيفيلد في قسم علم النفس بحثت في احتمالية أن يكون الإيسمار مفيد على الصعيد الجسدي والنفسي. في أحد تجاربهم، درسوا التغيرات النفسية للمشاركين في التجربة والذين شاهدوا اثنين من فيديوهات الإيسمار. وجدوا أن المشاركين الذين شاهدوا الإيسمار قد انخفض معدل ضربات القلب عندهم وزادت مشاعر الاسترخاء والراحة والترابط الاجتماعي مقارنة بالذين لم يشاهدوه (2)

في تجربة أخرى، شارك فيها أكثر من 1000 شخص في استبيان عبر الانترنيت، حيث طُلب من المشاركين الإجابة عن أسئلة بعد مشاهدة البعض منهم لمقاطع فيديو إيسمار والبعض الآخر لمقاطع لا تحتوي على إيسمار. فوجودا اختلافاً بينهم؛ حيث أجاب مشاهدو الإيسمار بأنهم شعروا برعشات متكررة وبزيادة معدل الهدوء والراحة والسعادة والابتعاد عن التوتر والحزن، على خلاف الذين لم يشاهدوا الإيسمار. (2)

قالت الدكتورة جوليا بوريو (Jiulia Borio) رئيسة قسم علم النفس في جامعة شيفيلد” أثبتت دراستنا أن للإيسمار حقاً تأثير مهدئ حسب ما أدلى به المشاركون في الدراسة. كما لُوحظ انخفاض في معدل دقات القلب مقارنة مع المشاركين الذين لم يشاهدوا الإيسمار. الشيء الأكثر إثارة هو أن معدل ضربات القلب المنخفضة لمشاهدي الإيسمار كانت شبيهة لمعدل ضربات القلب للمشاركين في دراسات أخرى مثل التأثيرات النفسية لتقنيات تخفيف التوتر مثل: الموسيقا، تقليل الضغط القائم على العقلانية (Mindfulness)” (2)

هناك دراسة أيضاً قام بها ستيفين سميث (Stephen smith) من جامعة وينيبيغ، كندا (Winnipeg) وزملاؤه عام 2016. استخدموا الرنين المغناطيسي لإجراء مسح لأدمغة 11 من المشتركين الذين جربوا الإيسمار و11 منهم ممن لم يجربوه. وجدوا أن الارتباطات في مناطق الدماغ التي تدعى شبكة الوضع الافتراضي (default mood network)، التي تشارك بأحلام اليقظة، أقوى عند المشاركين الذين شاهدوا الإيسمار. (4)

أربعة محفزات كانت الأكثر شيوعاً والتي كان يفضلها أكثر من نصف المشاركين: الهمس، والاهتمام الشخصي، والحركات البطيئة، و “الأصوات الواضحة” مثل النقر. (4)

أثار الإيسمار جدلا حول ما إذا كان يتضمن ايحاءات جنسية لكن الباحثين فيه رفضوا ذلك حيث قال ديفيس بأنهم لم يجدوا أي دليل على أنه مثير جنسياً. (3) كما يرفض المتحمسون للإيسمار أي روابط مع الحميمية الجنسية، بدلا من ذلك، يقترحون أن تجربتهم الجسدية تستحضر المتعة من خلال التفاعل المحض بين الموجات الصوتية والدماغ. (5)

ما الذي يحدث أثناء تجربة الإيسمار؟

يلجأ صناع الإيسمار على اليوتيوب كما ذكرنا سابقاً لخلق عدة محفزات لتحقيق استجابات قوية كاللمس الخفيف والمساج ولمس الشعر. كما يلجؤون إلى استخدام محفزات بصرية تتضمن التحديق المركّز ومراقبة حركات اليد البطيئة. يستخدمون أيضاً المحفزات الصوتية مثل الهمس الهادئ والتمتمة الناعمة اللطيفة وإصدار أصوات مثل العلك والنفخ، وأصوات حف الأشياء أو تقطيعها أو مداعبتها بلطف وحنان. أو يقومون بتمثيل أدوار مصفف الشعر أو الطبيب أو المعالج الفيزيائي (هم مثيرون لمشاعر مشابهة للإسمار لكن دون قصد) لمحاولة لإعطاء المشاهد المتلقي اهتماما شخصياً مركّزاً. (1)

محفزات الإيسمار تلك تنشّط المسار البيولوجي عند الأفراد المتعلق بسلوكيات الانتماء وتكون بمنزلة العودة إلى الطفولة. حيث أن سلوك الطبطبة واللمس الخفيف والاحتضان، هو سلوك يتبعه الآباء لإظهار حبهم واهتمامهم بمواليدهم. وهو سلوك هام لتمكين الآباء من تهدئة أطفالهم وجعلهم مسترخين. (1)

تتشابه محفزات وسلوكيات الإيسمار مع محفزّات وسلوكيات الارتباط بين الأفراد الذين يثقون ببعضهم البعض كالأصوات الناعمة واللمس اللطيف، والتي ينتج عنها تحرير هرمونات: الدوبامين والإندروفين والأوكسايتوسين والسيروتونين.

-الإندروفين: مسؤول بقوة عن الشعور بالسعادة وعن الإحساس بالارتعاش، ومسؤول جزئياً عن الشعور بالراحة والاسترخاء والنعاس.

-الدوبامين: مسؤول بقوة عن الرغبة في تجربة الإيسمار وتكرارها، كما أنه مسؤول عن الانتباه المركّز أثناء التجربة.

-الأوكسيتوسين: يطلق عليه هرمون الارتباط أو دواء الحب، بسبب أهميته في الروابط التي تتشكل بين الرضّع والآباء وبين الشركاء الرومانسيين. الأوكسيتوسين أثناء الإيسمار هو المسبب الرئيسي للشعور بالراحة والاسترخاء وتخفيف التوتر، كما يساهم في حدوث الرعشة من خلال زيادة حساسية مستقبلات الإندروفين.

-السيروتونين: المسؤول الرئيسي عن مشاعر الرضا والهدوء والمزاج الجيد بعد تجربة الإيسمار (حيث ان معظم الأدوية المضادة للاكتئاب تحتوي على معدلات عالية من السيروتونين). (1)

من المرجح أن الدوبامين هو المسيطر أثناء الإيسمار بينما يسيطر السيروتونين بعده مما يؤدي إلى الشعور بالراحة الاطمئنان والمزاج الجيد. (1)

 ردود فعل مختلفة حول الإيسمار

يقول البعض ممن جربوا الإيسمار بأنه خفف معاناتهم مع الأرق والاكتئاب والحزن الشديد. بينما خلق عند آخرين ردود فعل سلبية حيث وجدوها مملة ومثيرة للاشمئزاز. إذا لماذا يخلق الإيسمار ردود فعل متناقضة تماما؟

كل الأفراد تنتج الإندروفين والدوبامين والسيروتونين والأوكسايتوسين، لكنهم لا يشعرون بتأثيرها بنفس الدرجة، فالاستجابة لمحفز غريب (الإيسمار) يختلف بين الأفراد. فقد يحتاج الأمر تحريرها بنسب أكبر للشعور بها. يمكن تشبيه الحالة بحالة كأس الماء وفنجان السكر؛ إذا أضفت ملعقة فقط من السكر إلى الكأس فقد لا تشعر بحلاوة الماء وعندها يجب عليك أن تضيف المزيد لتصل إلى ذلك الشعور. وهكذا فإن معدل السكر في الماء الذي يجعله حلو المذاق قد يختلف بين شخص وآخر. الإيسمار يعمل بنفس الطريقة؛ قد يشعر الأفراد بالسعادة والراحة عند معانقة الحبيب (محفز قوي) ولا يشعرون بذلك عند مشاهدة فيديوهات الإيسمار (محفز ضعيف)، لديهم عتبة للمحفزات لإثارة تلك المشاعر. بينما يوجد البعض الآخر الذي يحرر الإندروفين بسهولة أو لديه مستقبلات الإندروفين التي تتمتع بحساسية عالية حتى لأقل المحفزات. بالإضافة إلى ذلك توجد أسباب جينية وأسباب تتعلق أيضاً بالبيئة وطبيعة الطعام والأمراض والأدوية وحتى تجارب الطفولة. (1)

قد يحدث أيضاً أن الأشخاص الذين كانوا يتأثرون بالإيسمار، أن يتوقفوا فجأة عن التأثر بها. وذلك لأن المستقبلات بمرور الوقت تصبح أقل حساسية لنفس المحفّز (مثل العلاقات الرومانسية التي تكون قوية في بدايتها وتهدأ بمرور الوقت)، لذلك يلجأ صانعو الإيسمار إلى تنويع محفزاتهم. كحال الذين يتعاطون المورفين او الأوكسيكودون، يلجؤون إلى جرعات أكثر مع مرور الوقت للحصول على نفس الاستجابة. (1)

بغض النظر عن أي تفسير، وجد ديفيس وبارت بأن للإيسمار فوائد حقيقية، طالما هناك تحسن في الحالة المزاجية لمشاهدي الإيسمار وصرفهم بعيداً عن الاكتئاب والحزن لبضع ساعات بعد المشاهدة.  يقول ديفيس: “الأشخاص المحبطون والذين يعانون من الألم المزمن يستخدمون الإيسمار لتحسين مزاجهم. لا أريد أن أقول بأنه علاج محض، لكنه على الأقل يصرف الانتباه عن الألم، ويمكن اعتباره طريقة بسيطة لتخفيف الألم واستقرار الحالة المزاجية.” (4)

كتب لي (Li) عام 2011 من كلية ويليسي (Wellesley college) أن للهمس قوة فعالة جداً في عصرنا الحالي الصاخب الذي لا يمكن لنا أن نفهم الكلام بالهمس. ولذلك اقتصر الهمس بين الأم وطفلها وبين الأشخاص الذين هم على علاقة حميمية لأنه يتطلب تقارباً بين المتحدث والمستمع. لذلك يصف المتحمسون للإيسمار على أنه إعادة خلق للحميمية الأمومية لكن دون الحاجة لوجود حضور جسدي. (5)

قد تكون هذه الظاهرة قد تطورت لغرض تطوري، كما يقول ديفيس، لأسباب غالباً ما تكون مدفوعة بالاهتمام الشخصي. يقول: “إذا نظرت إلى القردة العليا كيف يتم تهيئتها، فأعتقد أنها تشعر بشيء مثل الإيسمار. إنهم يحظون باهتمام شخصي وثيق من قرد آخر. ” (4)

في النهاية، يمكننا القول بأن هذه الظاهرة إيجابية طالما لا توجد آثار جانبية. لا يسبب الإيسمار الصداع، ولا يبدو أنه إدمان. يجعل الناس سعداء دون ضرر. يستخدمه الناس لمساعدتهم على التعامل مع أشياء مثل الاكتئاب أو الألم المزمن. لا نريد أن نذهب إلى حد القول بأن الإيسمار هو علاج لتلك الحالات بل عامل مساعد ومفيد “. (3)

المصادر:

  1. Origin Theory of ASMR. (2014, July 29). Retrieved from ASMR University website: https://asmruniversity.com/origin-theory-of-asmr/
  2. Brain tingles: First study of its kind reveals physiological benefits of ASMR. (n.d.). Retrieved from ScienceDaily website: https://www.sciencedaily.com/releases/2018/06/180621101334.htm
  3. Geere, D. (2019, September 30). ASMR science: are “brain tingles” more than just a feeling?. Retrieved from BBC Science Focus Magazine website: https://www.sciencefocus.com/the-human-body/asmr-more-than-a-feeling/
  4. Marshall, M. (2018). The truth behind ASMR and the craze for videos causing “head orgasms.” Retrieved February 27, 2021, from New Scientist website: https://www.newscientist.com/article/mg24032020-300-the-truth-behind-asmr-and-the-craze-for-videos-causing-head-orgasms/
  5. Andersen, J. (2014). Now You’ve Got the Shiveries. Television & New Media, 16(8), 683–700. https://doi.org/10.1177/1527476414556184