إعداد: رمزي محمد. لا شك أننا نتحدث عن موضوع شائك منذ آلاف السنين، تناوله الفلاسفة والباحثين من مختلف الثقافات حتى عصرنا هذا. ومع التقدم العلمي والتكنولوجي المستمر على كل الأصعدة العلمية الآن، إلا أن طبيعة المرض النفسي وأسبابه وأنواعه وطرق علاجه لم تزل محل الكثير من التخمينات والقليل من العلم القوي الرصين مقارنة بغيره من الأمراض. ولا عجب أننا نتكلم عن المرض النفسي بالمقارنة مع المرض العضوي. فهذا هو التفكير السائد منذ 200 عام. 

في بدايات القرن التاسع عشر، بدأ النموذج الطبي يشق طريقه بسرعة غير مسبوقة، خصوصا بعد اكتشاف البكتيريا وعلاقتها بالعدوى، واتجه تفكير الأطباء والأكادميين يتجه إلى العوامل البيولوجية وعلاقتها السببية بالمرض العضوي. طبعا هذه الطريقة في التفكير تعود إلى بدايات التاريخ المكتوب، وقد ظهرت بشكل واضح بين الفلاسفة اليونانيين الذين كانوا في الوقت نفسه أطباء وباحثين جادين. في القرن التاسع عشر، قام إميل كريبلين وأويس ألزهايمر بفصل ما كان يعتقد أنه مرض نفسي عما كان يفترض أنه مرض عصبي على أساس مؤشرات بيولوجية. لاحقا في العام 1899 أصدر كريبلين أول محاولة تنظيرية لتقسيم الأمراض النفسية إلى الخرَف المبكر (dementia praecox) والمرض الاكتئابي الهوسي (manic-depressive illness) شاع هذا التصنيف في المجتمع الطبي حينها واستمر تأثيره في طريقة تفكيرنا تجاه المرض النفسي والمرضى النفسيين حتى الآن. 

لا ننسى أن الطب النفسي لم يصنف كتخصص طبي قبل منتصف القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين يتبنى المختصون في هذا المجال أنموذج تفكير يحاكي النموذج الطبي التقليدي الشائع الذي أثبت نجاحه في تخصصات طبية أخرى. وقبل أن يصبح اسمها الجمعية الأميركية للطب النفسي في 1921، كانت تعمل قديما تحت اسم يعكس تخبطها النظري من أول وهلة. أعني ماذا عساك تنتظر من جمعية الإدارات الطبية للمنشآت الأميركية للمجانين؟ ولكن الطب النفسي إلى ذلك الوقت لم يكن يتبع منهاجا دقيقا لتصنيف أمراضه بناء على مؤشرات موضوعية كالتحاليل المختبرية والتصوير الطبي كما هو الحال في مجالات مثل طب الأعصاب وطب الجهاز التنفسي وبقية التخصصات التي يريد الطب النفسي بشغف أن يندرج تحت مظلتها العامة؛ أي البارادايم الطبي. كان التصنيف في الطب النفسي يستند إلى دراسات حالات نموذجية يتم تشخيصها بالإجماع بين الأطباء المعالجين. 

في العام 1920، بادر مكتب الإجماع الأميركي بإطلاق أول كتيب إحصائي أميركي في الطب النفسي وكان الهدف منه إحصاء شيوع الأمراض النفسية في أميركا. (the Statistical Manual for the Use of Institutions for the Insane (SMUII) أو الكتيب الإحصائي للاستخدام في منشآت المجانين. وكان يحتوي على 21 تشخيصا منها 19 تشخيصا ذهانيا. وبرغم تطوره وإصدار تحديثات عليه حتى العام 1942 إلا أنه لم يقابل باهتمام الأطباء النفسيين آنذاك. 

في أربعينيات القرن العشرين، تبنى الطب النفسي توجها فرويديا تجاه الظواهر النفسية ما أدى إلى تهميش الجانب التشخيصي والتركيز على الفروق الفردية بين المرضى وخلفياتهم النمائية والاجتماعية والدينية والجنسية وبأخذ اعتبارات كثيرة سوى الاهتمام بإعطاء المريض تشخيصا محددا يميزه عن غيره من المرضى. ومع أن التفكير الفرويدي التحليلي أثر تأثيرا قويا في الساحة العلمية لحوالي عقدين من الزمان إلا أنه سبغ الطب النفسي بصبغة الدونية مقارنة بالتخصصات الطبية الأخرى. نعم، كان ينظر إلى الأطباء النفسيين كمفكرين متخبطين لا يملكون دليلا تشخيصيا يوحد كلمتهم. ومن هنا جاءت الحاجة إلى تأسيس أول دليل تشخيصي في الطب النفسي. 

تغير العالم كثيرا منذ القرن التاسع عشر. ولكن الطب النفسي لم يتغير كثيرا من حيث تأثره بالإديولوجيات السياسية السائدة من جهة والثقافة الأميركية من جهة أخرى. فقبل تحرير العبيد وانتهاء زمن العبودية في ستينات القرن التاسع عشر، كان هنالك أطباء نفسيون يعتقدون بوجود مرض شائع بين ذوي البشرة السوداء دون غيرهم من ذوي البشرة البيضاء. أطلقوا اسما على المرض وهو drapetomania ووضعوا له تعريفا وأعراضا تتضمن هروب العبيد من قبضة أسيادهم بسبب ميلهم الغريزي لهوس التسكع. هذا حقا ما حدث، وما لم يزل يحدث حتى الآن. 

إن المحاولات اليائسة لتفسير الظواهر من جانب نفسي بدون أسس نظرية رصينة يؤدي إلى نتائج فوضوية ومتناقضة وأقرب إلى الهراء الخيالي منها إلى العلم الموضوعي. بدأ أول استعمال رسمي للكتيب التشخيصي والاحصائي DSM عام 1952، كما قلنا، كرد فعل للضغوط الإيديولوجية ومحاولة لإعطاء الطب النفسي مظهرا علميا وبرستيجا بين التخصصات الأخرى. ولكن الأسماء وحدها التي تغيرت. فالمجتمع العلمي لم يجد بدا الالتزام بمبادئ المدرسة التحليلية الفرويدية التي فرضت سيادتها على أولى إصدارات الكتيب التشخيصي. أزيلت التشخيصات المتعلقة بالمثلية الجنسية من الإصدار الثاني للكتيب التشخيصي بضغوط سياسية وبالاستناد إلى طريقة ديموقراطية جدا وليست علمية البتة؛ وهي طريقة التصويت. ولكن المصطلح الذي أزيل من الإصدار الثاني (Sexual Orientation Disturbance)  استُبدل لاحقا بمصطلح آخر في الإصدار الثالث يعكس بالضبط طبيعة الوضع السياسي في تلك الفترة: (Ego Dystonic Homosexuality) ويمكن ترجمتها إلى المثلية الجنسية المزعجة أو المجافية للأنا. قوبلت هذه التعديلات بنقد لاذع من المجتمع العلمي، فتساءل بعضهم ما إذا كان يمكن تشخيص الأشخاص ذوي البشرة السوداء الغير راضين عن أصلهم بأنهم مصابون نفسيا كما أمكن تطبيق مفهوم المرض النفسي على الأشخاص المنزعجين من ميولهم الجنسية المثلية؟ وتساءل آخر متهكما: ماذا عن الناس قصار القامة الغير راضين عن طولهم؟ وكان النقد مسيئا وقويا أدى إلى إزالة هذا التصنيف من الكتيب التشخيصي الثالث (نسخة معدلة) في العام 1987. 

تبرهن محاولات الكتيبات التشخيصية منذ القرن التاسع عشر لمرضنَة سلوكات مثل حب التحرر بين العبيد والميل جنسيا تجاه أفراد من نفس الجنس على أن نظم التشخيص في الطب النفسي كانت هزيلة نظريا وغير موضوعية وافتراضية في أحسن الأحوال. فهل تحسن الأمر كثيرا عما سبق؟ هل قدم الإصدارين الرابع والخامس من الكتيب التشخيصي الأمريكي حلولا للهشاشة النظرية المثبتة؟ وهل ثمة أي تحسينات في الإطار المنهجي العام في تصنيف الأمراض النفسية؟ ماذا عن المؤشرات البيولوجية ومليارات الدولارات التي أنفقت على الأبحاث في مجال الصيدلة النفسية؟