كان التحليل النفسي مثال العلم الزائف لدى فيلسوف العلم كارل بوبر. لكن كثيراً ما دار النقاش حول هذا السؤال مع أشخاص علميين ومن تخصصات علمية تماماً، آخرها كان لكاتب هذا المقال مع طبيب نفسي كان يدافع باستماتة عن التحليل النفسي بصفته علم. لكن ألا يجدر أن نسأل المحللين النفسيين أولاً؟ سنستعرض قراءة سريعة في آراء مجموعة من الكتاب من تيار جاك لاكان في التحليل النفسي والذين كتبوا عن علاقة التحليل النفسي بالعلم وقد وجدنا أراءهم تتراوح بين اللهجة المتوترة الناقدة للعلم، والإقرار الصريح بعدم وجود صلة بين المجالين.
إقرار منطقي
جاك آلان ميلر (Jacques-Alain Miller) يقول: “تزعم مدرسة التحليل النفسي أنها ولدت في أرضية علمية، ومن قبل عالم وهو سيغموند فرويد والذي درس على يدي هيلمهولتز (Helmholtz) ودوبيوس-رايموند (Dubios-Raymond) والذي كان وضعياً بحق وشارك معاصريه من العلماء ذات المعتقدات علمية. لكن رغم كل ذلك، رغم تلك الأوراق الثبوتية التي تمتلكها مدرسة التحليل النفسي فإن المجالات المجاورة لا توافق على انتماءها، يقول العلماء والابستمولوجيون أن سيغموند فرويد ربما كان يوماً ما واحداً منا، لكن ذلك لم يدم طويلاً حتى أصبح عرافاً يستخدم كرة كرستال للتنبؤ. واليوم فإن مدرسة التحليل النفسي تتشبث بمقام لها بين العلوم هو واقعاً لا تنتمي له”
يقول ميلر أيضاً: “كان فرويد يأمل أن تكون نهاية التحليل النفسي بتحولها لجزء من العلوم الطبيعية، وقد ذكر ذلك كثيراً، لكن دعنا نقول أنه بعد قرن من تأسيس التحليل النفسي فإن التحليل النفسي ليس قريباً بأي شكل من الأشكال من البيولوجيا، وهو لا يمكن بأي شكل أن يكون جزءاً من العلوم الطبيعية”.
من أفكار ميلر هي أن التحليل النفسي شيء شخصي صرف وغير قابل للتعميم، إنه لا يركز بنظرته للأشخاص على أنهم أفراد من بني البشر ينتمون لصنف واحد لابد أن تكون له الصفات ذاتها. يرى أن التحليل النفسي لا يقف عند عتبة النقاش حول المنهج العلمي لكارل بوبر بل يتعدى ذلك بكثير ليخرج من إطار الفلسفة الوضعية حتى ويتعدى ذلك للنقاش حول مفهوم الحقيقة بذاته. الحقيقة قد تظهر في زلات اللسان، في حلم، وقد لا تدرك أبداً. الكلام عن الحقيقة أساساً بذاته غامض بطريقة أدبية وليس بطريقة فلسفية. وبطبيعة الحال فإن ذلك يرمي بجميع الوسائل العلمية للتحقق عرض الحائط، يقول ميلر: “إن كان هناك أي وسيلة للتحقق في التحليل النفسي فهي ضمن تصريحات المريض، وهذا يبقى خاصاً بالمريض، لا يمكن أبداً للمحلل النفسي أن يتحقق من شيء مع العائلة مثلاً، لا يوجد تحليل نفسي للعائلة”. ويقول أيضاً: “التجربة التحليلية ليس لها أي مبادئ سوى أن شخصاً يمكن قول ما يحلو له”.
حول الاكتئاب مثلاً، يرى ميلر أن التحليل النفسي ينظر له كتجربة شخصية فريدة، أنت مكتئب يعني أنك لست مكتئباً بذات الطريقة التي يكتئب بها جارك. هل هذا صحيح؟ ربما، لا يمكن مطابقة ما ينتاب مليارات العصبونات، لكننا في النهاية نشعر بطيف متشابه من المشاعر، كذلك ألم البطن في حال الإصابة بالتهاب الزائدة الدودية أو آلام الكسر، لكننا في النهاية نعاني من ذات الطيف من المشاعر أمام ما نواجهه في الحياة. على أي حال نحن هنا للاستماع لما تقوله مدرسة التحليل النفسي عن علاقتها بالعلم، لكننا نوضح أن مبدأ ميلر هنا أيضاً غير علمي وهو أيضاً يقر بذلك.
ينهي ميلر محاضرته بالقول، أن التحليل النفسي قد لا يكون علماً لكنه خاضع لشرط علمي معين وهو أنه التحليل النفسي مجال يأخذ اللغة بشكل مادي وينظر لها كحقائق. مع ذلك فإن هذا التحليل ليس سوى أمر شخصي بحت قليل الضوابط وخاضع لرؤية من يقوم بذلك التحليل.
نقد عقائدي غاضب
يقر ميكويل باسولس (Miquel Bassols) أيضاً أن التحليل النفسي ليس من الوضعية أو المنهج التجريبي أو العلم بشيء، لكنه يميل للحديث بشكل متوتر على العلم فيقول: “يجب أن نرى بالتأكيد كيف أن العلوم الادراكية تسبح في بحر من الافتراضات الوضعية [في إشارة إلى الفلسفة الوضعية] دون معرفة عمق التعصب لإدراكهم، يقولون “الحقائق حقائق” ويدافعون عن ذلك بالطرق التجريبية التي تثق بملاحظة الحقائق، وهذا يعارض الحقيقي [يقصد هنا مفهوم الحقيقي لجاك لاكان]”. ثم يستدرك “لكن ما عسى أن يكون أكثر حقيقية من الجين أو العصب وما يشكل العلم من عناصر؟ لكن حالما ندخل في محاولة فهم هذه الأشياء سنجد أنها ما يصفه جاك لاكان بالمظاهر (semblants)”.
يرى باسولس أن معرفة الحقيقة هي أمر مستحيل، وهذا بحد ذاته ادعاء متعصب بخلاف التعصب الذي يشير إليه. نحن نعرف حقائق كثيرة بلا شك وبشكل جازم، بفضل ما عرفناه عن الذرات صنع البشر القنبلة الذرية. ربما يصح القول أن الإلمام بجميع الحقائق هو أمر صعب لكن فرض الاستحالة بهذا الشكل الجازم لا أساس له.
يرى باسولس أن التحليل النفسي هو من يختار عزل ذاته عن العلم فيقول أن التشبيه للعلاقة بينهما أقرب إلى النفي الداخلي بدلاً من النبذ والتشرد. بمعنى أن التحليل النفسي قرر الانعزال والتقوقع داخلياً في داخل الساحة العلمية، بدلاً من كونه مشرداً خارجها. لكنه أيضاً يرى أن التحليل النفسي بشكل ما يقع خارج حدود العلم.
ما يدعو لتشبيه الموقف لدى باسولس وآخرين بالعلاقة بين العلم والدين لدى بعض رجال الدين هو لجوءه في نهاية مقاله لمبدأ عدم اليقين، قطة شرودنغر كمحاولة لفتح باب المجهول على العلم. لكن كما نعلم، فإن من بين كم هائل من الاكتشافات العلمية والمسارات البحثية التي أتت بثمار بحثية لا تحصى، فإن المجهول وغير اليقيني بالطريقة التي يتكلم عنها التحليل النفسي والتي يظن باسولس هنا أن قطة شرونجر هي المثال الجلي فيها لا يعد حالة سائدة.
يسلك ايريك لورينت (Eric Laurent) مسلكاً مشابهاً، نزعة متوترة تجاه العلم واختزال للعلم بجانب ضيق. يختزل لورينت العلم بالبروتوكولات الطبية ونقدها، وصحيح أن للعلم رأي في كثير من البروتوكولات الطبية، غير أنها في الوقت نفسه تقتسم جزءاً من طبيعتها مع المهام الإدارية، وهي بالتأكيد لا تمثل جوهر العلم. ثم يستشهد بحديث جاك لاكان عن القلق المحيط بالبيولوجيين نتيجة اختراع أسلحة الدمار الشامل. كيف يمكن لهذا أن يكون ذو صلة مع العلم أو علاقة العلم بالتحليل النفسي؟ ثم ينتقد ضياع الطابع الشخصي في الطب والمعالجة النفسية بشكل عام وتحول المعالجة النفسية إلى قوائم مراجعة. نقد صائب ربما، لكن ليس في سياق تقييم العلم بأكمله وليس بما يضيف شيئاً من الشرعية المنهجية للتحليل النفسي. هذا النوع من النقد غير المنتظم الأوجه والجبهات والأهداف يمكن تشبيهه بالخصومة الدينية مع العلم.
لم نستطع خوض غمار مقال آخر لماركو فوتشي (Marco Focchi) يقرأ فيه نظرة العلم والتحليل النفسي للأرقام، لكن لفت انتباهنا انه أيضاً يختزل العلم هنا بالايديولوجية العلموية في تقدير ما يمكن حسابه (calculable) ويقصد بذلك ما يمكن قياسه بدقة وتعريفه بالأرقام، مرة أخرى، يبدو ذلك منقبة للعلم وللعلموية وشهادة بالبعد الشديد بين المنهجين أو كما يقول فوتشي: “الحقيقي في التحليل النفسي غير قابل للاختزال بصحة القوانين العلمية”. بيير سكريابيين (Pierre Skriabine) يتكلم بذات اللهجة قائلاً: العلم لا يهتم للحقيقة سوى رسمياً.
غير أن ما يحسب للتحليل النفسي في الكتاب الذين قرأنا لهم أنهم لم يتعبوا أنفسهم مثل الغريم الديني للعلم في تقديم قراءات خاطئة ومغالطات ومحاولات للربط. ربما لأننا نقرأ لتيار معين غير مهتم من الأساس في فكرة هيكلة المعرفة والمعلومات (مدرسة جاك لاكان)، مع ذلك فقد رصدنا بعض المغالطات العلمية البسيطة في محاولات ذكر بعض المبادئ العلمية كأمثلة.
المنشور الدوري حيث نشرت المقالات:
Psychoanalytical Notebooks No.27: Science and the Real
راجعت المقال لغويا ريام عيسى وتم نشره في مجلة العلوم الحقيقية العدد 52 شهري نوفمبر-ديسمبر 2022