الأخلاق في عالم الحيوان : لا بد من ان سؤال “هل تمتلك الحيوانات اخلاق؟” قد خطر في بال احدنا يوما ما، وغالبا ما يوصف الشخص الشيء الذي يخالف تعاليم المجتمع ب”الحيوان” على اعتبار ان الحيوانات لا تتقيد بقواعد اخلاقية. لكن الحقيقة ان للحيوانات قواعد اخلاقية يعيشون بموجبها ويتقيدون بها عادة افضل من تقيد البشر.
والشواهد على هذا الرأي كثيرة، فقد شوهدت أنثى فيل كبيرة تنقذ انثى صغيرة وجريحة بسبب اصابتها بأعتداء من قبل احد الذكور، فقد قامت الأنثى الكبيرة بمطارد الذكر لمسافة بعيدة، ثم عادت وربتت على القدم المصابة للأنثى الصغيرة.
ولا يقتصر تقديم المساعجة في مجتمع الأفيال على أبناء جنسها فقط، بل تقوم بمساعدة بعض الحيوانات التي تقع في ازمة. على سبيل المثال، في مقاطعة كوازولو-ناتال في جنوب افريقيا، قامت مجموعة من الافيال مكونة من احد عشر فيل، بمساعدة الظبيان الواقعة في الأسر، وقد شوهدت زعيمة الافيال تقوم بفتح الباب للظبيان بنفسها.
السلوكيات الأخلاقية
والحيوانات تتمتع بمجموعة من المشاعر التي كنا نعتقد في ما سبق انها موجودة عند الانسان فقط، فهي تتمتع بإحساس العدالة، التعاطف، الغفران، الثقة، المعملة بالمثل، وأكثر من ذلك. وهذه المشاعر بشكل كامل يمكن تسميتها “الأخلاق”، فالحيوانات لديها حس اخلاقي قد يختلف عن ما موجود عند البشر في الدرجة لا في النوع، حسب رأي داروين، وهو مصيب في ذلك. فالطفل الذي يتصرف بشكل مخالف لسلوكيات الأنسان الأخلاقية قد نطلق عليه “حيوان”، فالحيوان رغم أنه يُعتبر وصفاً لكل تصرفٍ سيء. لكن في عالم الحيوان لا تعتبر تصرفاته تلك سيئة. فمن غير العدل ان نطلب من مجموعة من الذئاب ان تتناول طعامها بالشوكة والسكين، لكي نقول انها تمتلك “اخلاق”.
ومن الاحداث التي قد تثير الفضول التي حدثت اما أعيننا، الجرذ الحبيس في قفص يرفض رفع أداة تجلب له الطعام، اذا شاهد ان هنالك جرذ اخر يتعرض للأذى عند رفع الأداة. كما ان هنالك قطة تدعى لبي تقوم بمساعدة كلب عجوز كفيف في تخطي عقبات الطريق نحو طعامه. وفي ما يخص العدالة شوهد مجموعة من القردة تقوم بضرب القردة التي تتأخر على الطعام كعقوبة لها، لانه ممنوع اي قرد ان يبدأ بتناول الطعام إلا بحضور الجميع.
فالحيوانات تعيش بناءاً على أنظمة متطورة تحظر فيها بعض السلوكيات وتحرم سلوكيات أخرى، وتحكم هذه المعايير سلوك الافراد داخل المجموعات، وقد ترتبط هذه المعايير بالاذى والرفاهية والأنصاف.
التعاون والمعاملة بالمثل … سلوك اخلاقي بحت
هنالك الكثير من الابحاث والاختبارات التي اجريت في الفترة الأخيرة قد كشفت عن وجود تعاون داخل مجتمع الحيوانات، وكلما تعمقنا أكثر في البحث عن هذه الصفة في تصرفات وسلوكيات الحيوانات، كثرت الشواهد على وجود هذه الصفة، فالتعاون يعتبر المادة الرابطة للتكوين الأجتماعي عند الحيوانات، وهو أبرز من كل الصفات العدوانية التي تمتلكها الحيوانات. فقد أكتشفت اماندا سيد (Amanda Seed) ونيكولا كلايتون (Nicola Clayton) وناثان إميري (Nathan Emery) أن طائر الغُداف (غراب القيظ) يتضامن مع أقرانه ويتعاون معهم من اجل الوصول الى إناء الطعام حيث لا يستطيع طائر بمفرده الوصول اليها.
كما أكتشف العالما الحيوان كريستين (Christine Drea) ولورانس فرانك (Laurence Frank) ان الضباع المرقطة تتعاون مع بعضها البعض في الأسر للحصول على الطعام حتى بدون تدريب. وقد لاحظ زوجين من الضباع الراشدة تتعاون معا على اداء مهمة جذب حبلين في وقت واحد لفتح باب الشرك. وعندما يفتح الباب، يسقط الطعام على الأرض، وتمكن الضبعان من تناوله. فالضباع تبدي مرونة سلوكية خلال تعاونها.
والتعاون لا يقتصر على ابناء النوع الواحد، فقد شوهد ان الغربان السوداء تقود الذئاب الى مكان جثث الأيائل، فتقوم الذئاب بتقطيع الجثة (وهي المهمة التي يعجز عنها الغربان) وتتناول طعامها، وبعد ذلك تتمكن الغربان السوداء من الأكل. وقد لوحظ السلوك نفسه بين الغربان والذئاب في البراري.
والامر لا يقتصر على التعاون فقط، فسلوك المعاملة بالمثل ايضا حاضر في مجتمع الحيوانات. فالجرذان تظهر هذه السمة في تعاملاتها، هذا ما لاحظه عالما الحيوان كلوديا روت (Claudia Rutte) ومايكل تابورسكي (Michael Taborsky) في دراسة اجريت من قبلهما واذيعت في أواخر عام 2007. فقد لاحظا ان الجرذان تمد يد العون لأفراد غير مألوفين وغير ذوي صلة بناء على مساعدة سابقة قام جرذ غريب بمساعدته. فقد قام روت وتابورسكي بتدريب الجرذان على سحب عصا للحصول على طعام من أجل شريكها. ووجد ان الجرذان التي مُدت لها يد العون في الماضي من الغرباء كانت أكثر استعداداً لمساعدة الآخرين.
فالتعاون بالمثل ليس حكراً على البشر فقط، فقد جاء في مقال كتبه فرانس دو فال في مجلة (سينتفيك أمريكان – Scientific American) في عام 2005، انه “لعلها تطورت لدى حيوانات أخرى للأسباب نفسها التي تطورت لدينا مساعدة الافراد على الاستفادة المثلى بعضهم من بعض دون إضعاف المصالح المشتركة التي تدعم الحياة حياة الجماعة“.
والمعاملة بالمثل تتطلب عدة امور، منها تذكر الاحداث الماضية وفي المقابل اظهار الامتنان، وهذه الامور تضيف طابعاً خاصاً للذاكرة.
لكن ما سبب تعاون الحيوانات في ما بينها؟ الحيوانات تتعاون فيما بينها لاسباب مختلفة، فقد تتعاون لحماية نفسها، كما تقوم اناث الشمبانزي بتشكيل مجموعات لحماية انفسها من الذكور العدوانيين، او ان تقوم بعض الحيوانات بتبادل أدوار الأكل ومراقبة الحيوانات المفترسة. فالتعاون هو احد المبادئ الأساسية للتطور بجانب الطفرة والانتخاب، حسب زعم مارتن نوفاك (Martin Nowak) مدير برنامج الديناميات التطورية بجامعة هارفارد.
التقمص الوجداني … التعاطف مع الآخرين
في البدء علينا تعريف مصطلح التقمص الوجداني، فالتقمص الوجداني هو القدرة على إدراك مشاعر الآخر والأحساس بها فهو من ضمن مجموعة من المشاعر أهمها التعاطف، الأهتمام، المساعدة، الآسى، المواساة. وأصل التقمص الوجداني هو “Einfühluung” كلمة المانية ترجمت في اوائل القرن العشرين والتي تعني حرفيا “الشعور بما في الداخل“.
الكثير من الأشخاص يعتقدون ان التقمص الوجداني حكرٌ على البشر، ولكن هذا غير صحيح بتاتا. فقد وجد في عام 2006 ان القوارض لديها درجة عالية من التقمص الوجداني، هذا ما ثبت في دراسة اجريت في من قبل باحثين من جامعة ماكجيل، بقيادة ديل لانجفورد (Dale Langford) وزملاءها.
فقد وجد ان الفئران تعاني نفسيا عند رؤيتها لفأر اخر يعاني. فقد قام فريق الباحثين بحقن فأر أو فأرين من الفئران الراشدة بحمض الخل الذي يسبب إحساسا حارقا ومؤلماً، وعند مشاهدة الفئران اقرانها المتألمين في القفص كانوا اكثر حساسية تجاه الألم. وكأن الفأر الذي حقن بالحمض يتلوى من الالم اذا ما شاهد قرين له يحقن بنفس الحمض ويتلوى من الآلم ايضاً.
وفي عام 2007 شوهد ان مجموعة من الشمبانزي تعامل احد افرادها يدعى “ناكلز” والذي يعاني من شلل دماغي مسببا له اعاقة جسدية عجز معها عن التصرف كفرد طبيعي. والمذهل ان مجموعة الشمبانزي التي عاش “ناكلز” قامت بمساعدته ومعاملته معاملة خاصة، حتى ان الأعتداءات التي كان يتعرض لها صغار المجموعة من قبل البالغين لم يتعرض لها “ناكلز” الا بصورة نادرة. فيبدو ان مجتمع القردة الشمبانزي يفهم اختلاف حالة “ناكلز”، ومن ثم قاموا بتعديل سلوكهم بناء على ذلك.
وليس هذا فقط، فقد لقيت أنثى شمبانزي مصرعها بعد ان عضها نمر في رقبتها. وقد عاشت في مجتمع الشمبانزي لفترة طويلة، فقام زعيم المجموعة بحماية جثمانها من عبث الصغار لمدة خمس ساعات، ولم يسمح لاحد بأن يقترب منها سوى أخيها البالغ من العمر خمسة سنوات، فجلس بجانب أخته وأخذ يتحسس يدها. فقد أدرك زعيم المجموعة العلاقة بين الشقيقين فتصرف بشكل عاطفي.
وتدل هذه البيانات ان التقمص الوجداني هو شعور قديم تطورياً، فربما كان موجود في جميع الثدييات. كما ان التقمص الوجداني ليس سلوكاً واحد، ولكنه فئة كاملة من الانماط السلوكية والتي تكون بعدة انواع تتفاوت في درجة التعقيد وبمستويات متداخلة.
والتقمص الوجداني له أساس عصبي متمثل في العصبونات الانعكاسية “الخلايا المرآتية” والخلايا المغزلية. فقد كشف عن وجود العصبونات الانعكاسية لدى القردة منذ أكثر من عقد، وعندها استطاع العلماء تفسير العلاقة بين المخ والسلوك، وخصوصا السلوك التعاطفي. فالعصبونات الانعكاسية تنشط عندما يقوم حيوان ما بفعل فيراه حيوان آخر فيقوم بنفس الفعل.
وعلى الرغم من قلة الأبحاث الخاصة بالعصبونات الانعكاسية لدى الحيوانات، الا ان هذه النظرية لها قبول واسع. ولدى البشر كشفت الابحاث ان العصبونات الانعكاسية ونظيراتها الوظيفية تنشط عند أثناء ملاحظة ومحاكاة مشاعر الآخرين، فالتثآؤب استجابة لتثاؤب الآخرين، وتحريك الرأس عند مشاهدة لاعب كرة القدم يضرب الكرة برأسه، والضحك المعدي، مجرد ردود افعال تنشطها العصبونات الانعكاسية. فمن المرجح ان تكون الخلايا الانعكاسية هي ركيزة عصبية للتقمص الوجداني.
والأساس الآخر للتقمص الوجداني هو الخلايا المغزلية، وتقع الخلايا المغزلية لدى البشر في قشرة مقدمة الجبهة، ويعتقد انها تعالج المشاعر الاجتماعية ولها دور كبير في الترابط الاجتماعي. وقد وجدت الخلايا المغزلية لدى الشمبانزي والبابون والغوريلا، بينما لم يعثر عليها عند السعادين. ووجدت ايضا لدى بعض انواع الحيتان بعدد ضعف ما موجود لدى البشر، منها الحوت الأحدب، الحوت الزعنفي، الحوت القاتل، وحوت العنبر.
ويرجع سبب تكيف التقمص الوجداني لدى الحيوانات، بما فيها الأنسان، الى انهم مضبوطون بلغة جسد من حولهم من افراد شبكتهم الأجتماعية، وكذلك بتعبيرات وجوههم ونبرات اصواتهم. فالحيوانات تلتقط هذه المؤشرات السلوكية من الآخرين وتحاكيها، غالبا لتنبيه من وجود خطر او ابلاغ عن حالة ما. ففي المنتزهات الخاصة بالكلاب ينبح اول كلب عند ملاحظته لكلب وافد جديد، فتحاكيه بيقية الكلاب دون ان ينتبه احدها على سبب هذا النباح، الا بعد انخراطها بهستيريا النباح. وفي اسراب الطيور تنتفض جميع الطيور عند مشاهدتها هروب احدها دون معرفة سبب الخطر او مصدره. فالحيوانات تستفاد من التقمص الوجداني غالبا لاسباب دفاعية.
منتقدي وجود الأخلاق … والرد عليهم
يعترض الكثيرون على فكرة وجود الأخلاق عند الحيوانات، وتختلف اعتراضاتهم بين عدة جوانب، سنبدا بمن يقول ان امكانية وجود الأخلاق عند الحيوانات مستبعدة، بسبب بعض التصرفات التي تحدث بصورة نادرة، مثل لعب الحوت القاتل مع الفقمة قبل أكلها، ولعب القط مع الفأر، وقتل الأسد لابناء اللبوة لتشجيعها على النشاط الجنسي. وفي الرد على هذا الادعاء نقول اولاً ان هذه الاحداث تحدث في مجتمعات الأنسان، فهنالك من قام بتربية الدجاج واللعب معها قبل ان يقوم بتناولها في العشاء، كما ان الحروب دليل على قتل الانسان لأبناء جنسه. ومن ناحية ثانية ان هذه الأحداث نادرة في مجتمعات الحيوانات، لكن الأعلام يركز عليها لكونها تجلب عدد كبير من المشاهدة والأهتمام.
ومن ناحية فلسفية يعترض البعض على تعريف الأخلاق العام، ويطرحون سؤال “ما فائدة الأخلاق للحيوانات؟”. فمن ناحية التعريف فهم يعترضون على التعريف ليش لعموميته، بل لأنه شمل كائنات أخرى غير الإنسان، فالأخلاق ليست حكرا على البشر فقط، بل هي مفاجئة ومثيرة للأهتمام، لكونها تطعن بالكثير من الأراء والفرضيات التي تجعل من الانسان كائن مختلف عن باقي الكائنات. وتقول الفيلسوفة كرستين كورسجارد (Christine Korsgaard) من جامعة هارفارد، ان الأنسان يختلف عن باقي الحيوانات في القدرة على تقييم وتبني النوايا وإصدار الأحكام بشأن ما اذا كانت سلسلة من الافعال مبرر اخلاقيا “التفكير الجدلي”، وهذه تعتبر نقطة انفصالنا عن ماضينا الحيواني. فقشرة مقدمة الجبهة البشرية، والتي تعتبر المنطقة المسؤولة عن أصدار الأحكام والتفكير العقلاني لدى البشر أكثر تطورا مقارنة مع باقي الحيوانات.
وعن فائدة الأخلاق للحيوانات فقد اجيب عنها في فقرات سابقة، فكل حس اخلاقي له فائدة معينة، او مجموعة فوائد ترمي للحفاظ على النوع من الأنقراض.
بينما يعترض آخرون على اعطاء الحيوانات صفة اخلاقية خوفا من فقدان الإنسان كرامته، فقد يعامل الضعفاء والأجنة معاملة الحيوانات, ونرد على هذا الأعتراض بالقول انه لا توجد ارتباط بين اخلاقيات الحيوانات وتعرض الأجنة والضعفاء والمعوقين للخطر، فعند القول ان الحيوانات تمتلك اخلاق هذا يعني اننا نرفع من شان الحيوانات، لا نهبط من شأن الإنسان. مختصر مفيد، ان كرامة الانسان لا تحمل بين طياتها انعدام الكرامة لدى الحيوانات.
وهنالك بعض الأعتراضات الأخرى لا يسع لنا ذكرها هنا، فمن يرغب بالأطلاع أكثر على هذا الموضوع مراجعة المصادر.
كتب المقال بالأعتماد على:
- كتاب (العدالة في عالم الحيوان – مارك بيكوف وجيسيكا بيرس).
- كتاب (علم النفس التطوري – دافيد باس).
- https://www.newscientist.com/article/dn4901-empathy-may-not-be-uniquely-human-quality/
- http://www.independent.co.uk/news/world/do-animals-have-morals-and-show-empathy-9940632.html
- http://greatergood.berkeley.edu/article/item/morality_animals
(( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ))