جو نيكل، إن الاعتقاد بالمس الشيطاني قد حصل على دفعة دعائية جديدة. ليس فقط إعادة إصدار فيلم الرعب لعام 1973 “طارد الأرواح الشريرة” (The Exorcist)، ولكن “القصة الحقيقية” التي أخُذ الفيلم منها تم تأريخها في كتاب مُعَاد إصداره وفيلم مخصص  للتلفاز، وكلاهما بعنوان “ممسوس” (Possessed).على أية حال، فإن التحقيق الذي أجراه أحد كتاب ميريلاند على مدار عام، إلى جانب تحليلي للأحداث التي تم تأريخها في مذكرات الكاهن الذي نفذ عملية طرد الأرواح، يكذب الادعاء بأن هناك مراهقًا قد اُستحوذ عليه من قبل الشيطان في عام 1949.

علم النفس مقابل الاستحواذ الشيطاني (التلبس أو المس)

يزدهر الاعتقاد باستحواذ الأرواح للبشر في الأوقات والأماكن التي يوجد فيها جهل بالمَلكات العقلية. واستنادًا إلى أمثلة كتابية، علّمت الكنيسة في القرون الوسطى أن الشياطين كانوا قادرين على السيطرة على الأفراد، وبحلول القرن السادس عشر، أصبح للسلوك الشيطاني صورة نمطية نسبيًا. تظاهر ذلك عن طريق التشنجات (convulsions)، والقوة المذهلة، وعدم الشعور بالألم، والعمى أو الصمم المؤقت، والقدرة على الاستبصار، وصفات أخرى غير طبيعية. قد تكون بعض الآراء المبكرة للمس قد تأججت من خلال ثلاثة اضطرابات دماغية: الصرع، والصداع النصفي، ومتلازمة توريت (Tourette’s syndrome) (تتظاهر بحركات لاإرادية متكررة و متلازمات صوتية). وقد عزا مؤرخو الطب النفسي منذ فترة طويلة التظاهرات “الشيطانية” إلى بعض الحالات العقلية الشاذة مثل الفصام والهيستريا، مشيرا إلى أنه منذ أن بدأ الاعتراف بالمرض العقلي على أنه مرض بعد القرن السابع عشر كان هناك تراجع في تصديق الخرافات الشيطانية. في عام 1999 قام الفاتيكان بتحديث مبادئه الخاصة بعام 1614 لطرد الشياطين، وحث طاردي الأرواح على التفريق بين المرض النفسي والمس الشيطاني.

رغم ذلك، ففي العديد من الحالات، يمكن للمس الشيطاني المزعوم أن يكون وسيلة لتلبية بعض الوظائف الهامة لأولئك الذين يدعون ذلك. في كتابه ” الذكريات المخفية: الأصوات والرؤى من الداخل” (Hidden Memories: Voices and Visions from Within)، يشير عالم النفس (Robert A. Baker) إلى أن المس كان مُختَلقًا أحيانًا من الراهبات للتخلص من الإحباطات الجنسية، والاحتجاج على القيود المفروضة عليهن، والهروب من الواجبات غير السارة، واجتذاب الانتباه والتعاطف، وغيرها.

كما أن العديد من المدعين المؤمنين بالوصم (Stigmata)، وإمكانية الحياة بدون طعام (Inedia)، والقوى الأخرى، قد عرضوا أيضاً حيازات شيطانية مزعومة. على سبيل المثال، في مدينة لاودن (Loudon)، في فرنسا، كانت رئيسة الدير، الأخت (Jeanne des Anges) (1665-1602)، جزءًا من تفشٍّ معدٍ لمجموعة من الراهبات التي أصيبوا بتشنجات والتواءات غير الطبيعية. عرضت جين رسومات موصومة وجروح على جلدها. “ظهر” صليب دموي على جبينها، ووجدت أسماء يسوع ومريم وآخرين على يدها دائمًا متجمعة على يدها اليسرى، تمامًا كالمتوقع عندما يقوم بهذا شخص يميني اليد. ذَهبت في جولة باعتبارها “أعجوبة مقدسة” وعرضت في باريس لآلاف السادة. كان هناك عدد قليل من المتشككين، ولكن الكاردينال ريتشيليو رفض التأكد من مصداقية جين من خلال وضع يدها في قفاز مختوم، حيث رأى أن اختبارها يماثل اختبار الله. من المثير للاهتمام، بينما كنت أبحث وأكتب في هذا المقال، تم استدعائي إلى جنوب أونتاريو في حالة تلبس مريب، والتي كانت تشتمل أيضًا على ندبات مميزة.

الحقيقة إن المس يمكن تزييفه ببساطة جداً. على سبيل المثال، عرض برنامج لطرد الشياطيين على قناة (ABC) في عام 1991 فتاة عمرها ستة عشر عامًا، ادعت عائلتها، أنه كان يتملكها عشرة كيانات شيطانية منفصلة. ومع ذلك، بالنسبة للمشككين بدا أن استحواذها المزعوم لا يمكن تمييزه عن التمثيل الرّكيك. حتى أنها خطفت عدة نظارات إلى الكاميرا قبل أن تظهر عليها التشنجات وغيرها من التظاهرات “الشيطانية”.

وبالطبع، فإن الشخص الذي لديه دافع قوي لتزييف المس الشيطاني من المحتمل كثيرًا أن يكون مضطربًا عقليًا. على الرغم من تحسن حالة المراهق في الحلقة الأخيرة بعد طرد الأرواح الشريرة، فقد أُشير أيضًا إلى أنها واصلت “تناول الدواء. ولجعل الأمر أكثر تعقيدًا، تحث المبادئ التوجيهية المنقحة للفاتيكان إلى عدم تصديق الأشخاص الذين يدعون أنهم ممسوسين لمجرد اعتقادهم بذلك.

وبتفكير غير تنويري كفايةً، تعكس المبادئ التوجيهية أيضا جهود البابا يوحنا بولس الثاني لإقناع المتشككين بأن الشيطان موجود بالفعل. في عديد من الوعظات شجب يوحنا بولس الشيطان باعتباره “كاذبًا وقاتلًا “. وذكر أحد المسؤولين في الفاتيكان الذي قدّم الطقوس المنقحة، “إن وجود الشيطان ليس رأيًا، أو شيئًا لنقبله أو نرفضه كما نريد. أي شخص يقول أن الشيطان غير موجود لا يملك ملء الإيمان الكاثوليكي”.

ومن المبادئ التوجيهية الجديدة غير المقنعة هو قبول هذه العلامات المزعومة كدليل على المس  كالقوة البدنية غير العادية والتحدث بألسنة غير معروفة. في حالة الحلقة الأخيرة من البرنامج، إن الفتاة المراهقة  تحدثت بألسنة غير معروفة “اللثلثة” (Glossolalia)، ولكنه كان بمستوى سيئ، فكل الذي قالته كان: “سانكا دالي بوغا، بوغا.” لقد قاومت رجال الدين الذين حاولوا تثبيتها، وقد زعم أحدهم أنهم لو لم يقوموا بذلك لكانت ارتفعت في الهواء! في تلك اللحظة، شجع مجموعة من لاعبي الخفة، وعلماء النفس، وغيرهم من المشككين الذين كنت أشاهد الفيديو معهم بمرح أن يتركوها لتطوف في الهواء!

“قصة حقيقية”

امتلاك قوة استثنائية، والتحدث بلغة غير معروفة، وعرض غيرها من المظاهر الشيطانية المزعومة من المفترض أن يميز “القصة الحقيقية” وراء فيلم (The Exorcist). كان فيلم الرعب الذي شاركت فيه ليندا بلير عام 1973 كضحية أصابها مس شيطاني، مرتكزًا على الرواية الأكثر مبيعاً في عام 1971 التي حمل نفس اسم الفيلم من تأليف ويليام بيتر بلاتي. الفيلم، يقتبس من أحد الكتاب رأيه:” الفيلم استطاع الوصول إلى أعماق العقل الباطن وأثار مخاوف مجهولة “. بعض رواد السينما تقيؤوا أو أغمي عليهم، في حين تَرك آخرون يرتجفون، وكان هناك “الكثير من حالات الهستيريا التي اضطرت إلى إبقاء ممرضين وسيارات اسعاف جاهزة عند بعض المسارح.” في الحقيقة، ” سعى الكثيرون إلى العلاج لتخليص أنفسهم من المخاوف التي لا يستطيعون تفسيرها. كان الأطباء النفسيين يكتبون عن حالات مما سمّوه “العصاب السينمائي”(cinematic neurosis).

سمع بلاتى عن طرد الأرواح الشريرة الذي حصل في عام 1949، وبعد حوالي عقدين من الزمن، حاول مراسلة طارد الأرواح للاستفسار عن ذلك. لكن الأب (William S. Bowdern) رفض مساعدته بسبب أوامر من رئيس الأساقفة لإبقائها سرية.  لكنه أخبر “بلاتي”، الذي كان طالبًا في جامعة جورجتاون بواشنطن آنذاك، وهي مؤسسة يسوعية، عن المذكرات التي احتفظ بها كاهن مساعد عن تلك الأحداث المزعجة.

تتألف المذكرات التي كتبها الأب (Raymond J. Bishop) من مخطوطة مطبوعة أصلية مكونة من 26 صفحة وثلاث نسخ كربونية، تم تقديم أحدها في النهاية إلى توماس ألين، مؤلف كتاب (Possessed) وتم إضافته كملحق لـ طبعة عام2000 من الكتاب. جاءت النسخة من الأب (Walter Halloran)، الذي ساعد أيضًا في طرد الأرواح الشريرة. تحقق هالوران من صحة اليوميات وذكر أنه تمت قراءتها والموافقة عليها من قبل باودرن.

وتبدأ اليوميات “بخلفية عن القضية”. ولد الصبي، وهو الطفل الوحيد الذي تم تحديده باسم (R) في عام 1935 وتربى حسب الطائفة الإنجيلية اللوثرية مثل والدته. كان والده قد تعمد كاثوليكيًا ولكن لم يكن يمارس الطقوس والشعائر الدينية. كان منزل العائلة في كوتيدج سيتي، بولاية ميريلاند، يضم جدة الأم التي كانت أيضاً كاثوليكية تمارس الشعائر الدينية حتى بلغت الرابعة عشرة.

في 15 كانون الثاني 1949، سمع (R) وجدّته صوت “تقطير” و خربشة غريبة في غرفة نومها، حيث اهتزت صورة يسوع “كما لو كان أن الجدار خلفها قد صُدم”. استمرت التأثيرات لمدة عشرة أيام ولكنها نسبت إلى القوارض. ثم بدأ (R) يقول أنه يستطيع سماع الخربشة في الوقت الذي لم يسمعها أحد غيره. سرعان ما بدأ يصدر صوت ضوضاء كصرير الأحذية، ويتساءل المرء، هل كان يمكن أن يكون عبارة عن صرير السرير؟ “فقد كان يسمع فقط في الليل عندما يذهب الصبي إلى الفراش”. في مساء اليوم السادس استمرت أصوات الخربشة الغريبة، وكانت أمه وجدته تجلسان معه على سريره، وعندئذ “سمعا شيئًا يتقدم تجاههما كصوت مشي القدمين وقرع الطبل” وبدا الصوت و كأنه يتحرك على طول المرتبة ذهابًا و إيابًا بشكل متكرر. والسؤال هنا هل كان “R” يطرق بقدميه على طرف السرير؟

الأرواح الشريرة وأرواح الويجا

في هذه المرحلة كانت الحالة تعكس مظاهر تُعزى إلى روح شريرة (أو “روح صاخبة”). عادةً ما تتضمن ظاهرة روح الشريرة اضطرابات ضوضاء، حركة كائنات، أو، نادرًا، تأثيرات خطيرة مثل اندلاع حريق بشكل يحيط حول شخص مضطرب، عادةً طفل. غالبًا ما ينسب المؤمنون هذه الأحداث إلى “الطاقة النفسية الحركية” (psychokinetic energy) أو غيرها من القوى الغامضة التي يُخيّل أنها تنتج عن الأعمال العدائية المكبوتة للطفل اليافع. يمكن للمتشككين أن يتفقوا مع كل شيء باستثناء ادخال الغموض إلى الموضوع، مع ملاحظة أن المرء لا يفسر المجهول بمجهول آخر. المتشككون لديهم تفسير أبسط، ينسبون التأثيرات إلى الحيل الماكرة لشاب مشاكس أو أحيانًا شخص بالغ مضطرب. عندما يتم التحقيق في مثل هذه الحالات بشكل صحيح – من قبل لاعبي الخفة والمحققين باستخدام الكاميرات الخفية، وكواشف الكذب، ومساحيق التتبع (نشر الغبار على الأشياء التي من المحتمل أن تكون متورطة)، وغيرها من التقنيات فإنها عادة ما تكون حيل شاب صغير أو شخص صبياني محب للأذى.

خذ بعين الاعتبار بعض “التظاهرات الأخرى” المرتبطة بـ (R) في بداية الحالة، كما هو مسجل في اليوميات:

طارت برتقالة وكمثرى عبر الغرفة بأكملها حيث كان (R) واقفًا. كان طاولة المطبخ ترتج دون تحريكها من قبل (R). وقع الحليب والطعام من على الطاولة والموقد. ألقي لوح قص الخبز على الأرض. خارج المطبخ، طار معطف مع تعليقته عبر الغرفة؛ طار مشط بعنف عبر الهواء وأطفأ الشموع المصلّى عليها. ألقي الكتاب المقدس مباشرةً على قدمي (R)، ولكن لم يسبب له أي أذى. بينما كانت العائلة تزور أحد أصدقائها في بونسبورو بولاية ماريلاند، اهتز الكرسي الهزاز الذي كان يجلس R عليه دون أي حركة من جانب الصبي. انتقل مكتب R في المدرسة على الأرض وأخذ شكل لوحة الويجا. لم يذهب (R) بعدها إلى المدرسة بسبب الإحراج الذي حصل له.

من الجيد أن نأخذ هنا بعين الاعتبار النصيحة الحكيمة للمحقق ولاعب الخفة الراحل (Milbourne Christopher) بعدم قبول التصريحات عما حدث بالفعل من “الروح الشريرة” المشتبه بها. وفيما يتعلق بأحد هذه الحالات، أشار كريستوفر إلى أن كل ماهو ضروري لرؤية الأحداث كخداع متعمد وليس كظواهر غير طبيعية هو “افتراض أن ما قاله الصبي لم يكن صحيحاً، عندما قال أنه كان في غرفة وليس في غرفة أخرى في بعض الأحيان. دعنا نفترض أيضًا أن ما اعتقد الناس أنهم رأوه وما حدث بالفعل لم يكونا الشيء نفسه”. تظهر التجربة أنه حتى” الشهود الموثوقين ” يمكن خداعهم. كما اعترفت إحدى الفتيات الممسوسة، وهي فتاة تبلغ من العمر أحد عشر عامًا: “لم أرمي كل هذه الأشياء. تخيل الناس أني رميت بعضها”. في حالة (R)، يجب أن ندرك أن الأحداث الموصوفة سابقاً (الفاكهة الطائرة، إلخ) والتي ذكرت أنها خلفية الحالة، لم يشهدها الأب بيشوب بنفسه، وبالتالي كانت بالضرورة قيل عن قال مع إمكانية كبيرة للتحريف.

كان في الواقع خداعًا ما كان وراء الاضطرابات الشبيهة بالأرواح الشريرة عام 1848 التي أطلقت الروحانية الحديثة. وكما اعترفت (Fox Sisters) بعد عدة عقود، بدأ اتصالهم المزعوم مع الأرواح كخدع “أطفال مؤذيين للغاية”، وكما أوضحت (Margaret Fox):”بدأنا بتخويف أمنا التي كانت إنسان جيد سهل التخويف، فلم تشتبه في كوننا قادرين على القيام بهكذا خدعة لأننا كنا صغارًا للغاية”. لقد ألقوا بالنعال على أخيهن غير الشقيق لكرههم له، وهزوا مائدة العشاء، وأصدروا أصواتًا من خلال ضرب الأرضية بتفاحة مربوطة بخيط والطرق على هيكل السرير.

تُبعت الأخوات فوكس في عام 1854 من قبل الاخوة دافنبورت (Davenport Brothers)، ايرا وويليام وهم طلاب مدرسة، الذين كانوا محور لأدوات المائدة التي رقصت حول طاولة مطبخ العائلة، وغيرها من الأحداث الغريبة. وقد ادعى إيرا أحيانًا أنه عندما يكون بمفرده كانت الروح تنقله إلى أماكن بعيدة. سرعان ما أصبح الأولاد يتكلمون بالرسائل الروحية، والكلام و الكتابة بدون وعي(trans writing and speaking)، و “مظاهر روحية” أخرى. في شيخوخته، اعترف إيرا للساحر هاري هوديني بأن الاتصال الروحي- الذي أطلق وحافظ على مهنتهم كإثنين من أفضل الروحانيين في العالم- نتج عن طريق الخدع. في الواقع، تم القبض عليهم في العديد من المرات.

(The Fox Sisters) و (Davenports) ليست أمثلة معزولة. لذلك لا ينبغي أن يكون من المفاجئ أن نعلم أن حالة (R)، التي بدأت كظهور لروح شريرة، سرعان ما تحولت إلى واحدة من الاتصالات الروحية المزعومة، قبل أن تتصاعد في النهاية إلى واحدة من مزاعم الاستحواذ الشيطاني.

كان (R) قريبًا من إحدى عماته، والتي غالباً ما كانت تزوره من سانت لويس. كانت امرأة روحانية مخلصة، وقد عرف (R) لوح الويجا من خلالها. بأصابعهم على اللوح، رأوا السهم يتحرك حول مجموعة من الحروف، والأرقام، والكلمات نعم ولا للتعبير عن رسائل- كما قالت- من أرواح الموتى. (في الواقع، كما يعرف المشككون، لا يتم تحريك السهم بالأرواح ولكن من خلال الحركات غير الطوعية أو الطوعية للجالسين!). وقد أخبَرت (R) وأمه كيف أن عدم امتلاك لوحة الويجا يمكن يجعل الأرواح تحاول أن تصل إلى عالمنا من خلال قرعها على الجدران.

وقد لعب (R) بلوح الويجا بنفسه. ثم بدأ اندلاع الضوضاء، وبعد 11 يومًا دمره موت خالته في سانت لويس. عاد إلى لوح الويجا، وقضى ساعات في هذه الممارسة ومن شبه المؤكد أنه استخدمها في محاولة للوصول إلى عمته الحبيبة. بينما كانت أم وجدة (R) تجلسان معه في سريره يستمعان إلى صوت الطرق سألته والدته بصوت عالٍ عما إذا كانت هذه هي روح العمة وأضافت: “إن كنت هي دقي ثلاث مرات”. وعندئذٍ، تسجل اليوميات أن ثلاثتهم شعروا بأمواج من الهواء تضربهم، تليها “خدش مخالب على الفراش”.

استحواذ؟

لحوالي أربع ليال متتالية، ظهرت علامات على جسم (R)، بعدما أخذت الخدوش التي تشبه المخالب شكل كلمات مطبوعة. كلما تم تجاهل ضجيج الخدوش، تبدأ الفرشة بالاهتزاز، وأحيانًا بعنف، وفي إحدى المرات تم سحب غطاء السرير.

أصيب أهل (R) بالذعر. لقد شاهدوا ابنهم يتحول إلى شخص مضطرب، حتى أنه هددهم بالفرا، وبدا أنه “على شفير العنف”. لقد طلبوا المساعدة من طبيب، والذي وجد فقط أن الصبي “متوتر إلى حدٍ ما”، ثم طلبوا من طبيب نفسي، والذي لم يتم تسجيل رأيه، ووجد محلل نفسي آخر أن (R) “طبيعي”، لكنه “أعلن أنه لا يصدق هذه الظاهرة التي تحصل مع الصبي”، وتم استشارة روحاني واثنين من الآباء اللوثريين. وفي نهاية المطاف نصح أحد اللوثريين الوالدين بأن “يريا كاهناً كاثوليكياً فالكاثوليكيون يعرفون أشياء كهذه”.

تم استدعاء قسيس شاب، ولكن حالة الصبي كانت تزداد سوءًا، فتم إدخال (R) إلى مستشفى للآباء اليسوعيين، في الفترة ما بين 27 شباط و6 آذار. وقد استعد الكاهن، الأب (E. Albert Hughes)، لعملية طرد الأرواح (رقية) بسبب اشتداد المظاهر الشيطانية. وبحسب ما ورد، فإن الراهبات “لم يستطيعوا تثبيت سريره من الارتجاج”، وظهرت خدوش على صدر (R)، وبدأ بالتحدث “بلغة غريبة”. وقال مصدر لاحق أنها اللغة الآرامية، لكنه في تسجيل أحدث فشل في ذكر “أي من هذه الكفاءة اللغوية”. وبحسب ما ورد، انتهى الشروع في محاولة طرد الأرواح الشريرة فجأة عندما قام بتخليص يده وأخذ قطعة من السرير، وضرب بها ذراع هيوز من الكتف إلى الرسغ، مسببًا جرحًا يحتاج أكثر من مائة غرزة.

إلا أن أحد المحققين يشك في ما إذا كان هذا الهجوم – أو حتى أول محاولة لإخراج الأرواح – قد حدث حقًا، بعد أن بحث دون جدوى عن أدلة مؤيدة. على أية حال، نظر الوالدان في إجراء انتقال مؤقت إلى سانت لويس، حيث يعيش أقرباؤهم. عندما تمت مناقشة هذه الفكرة، ظهرت كلمة “لويس” على ضلوع (R)؛ وعندما تكلموا عن موعد الذهاب، ظهرت كلمة “السبت” بوضوح على وركه. وعندما تم النظر في المدة، ظهرت “ثلاثة أسابيع” على صدره، وتم رفض احتمال أن (R) يصنع العلامات بنفسه على أساس أن والدته “تضعه تحت إشراف دقيق”، ولكن ربما كان قد تم إجراء هذه العلامات  مسبقًا وكُشف عنها عند الحاجة، أو ربما يكون قد أنتجها عندما يتظاهر بأنه “ينطوي على نفسه” ويصرخ من الألم.

ووفقاً للمفكرة، “لم يكن من الممكن أن يقوم الصبي بالعلامات لسبب إضافي وهو أنه في إحدى المرات كان هناك كتابة على ظهره”. مثل هذا التفكير الساذج هو السبب بأن فكرة “الأرواح الشريرة” تمكنت من البقاء بين الناس. كان بإمكان شاب مصمم، ربما حتى بدون مرآة حائط، أن يدير بسهولة مثل هذا الإنجاز – إذا حدث بالفعل. على الرغم من كثرة الكتابات، إلا أنها لم تظهر أبدًا على جزء يصعب الوصول إليه من جسد الصبي.

في سانت لويس، كان هناك المزيد من “التأثيرات الشريرة”، حيث تم أدخال الأب بيشوب “كاتب المفكرة” إلى القضية. ترك الأسقف زجاجة من الماء المقدس في غرفة نوم (R) ولكن في وقت لاحق، بينما ادعى الصبي أنه كان نائمًا، طفت الزجاجة في أرجاء الغرفة، وفي مناسبة أخرى، وجد والدا (R) أن  الطريق إلى غرفته قد سُدّ بحقيبة كتب يبلغ وزنها خمسين رطلاً. ووقع كرسي من عليها. في البداية، اعتقد الأسقف وكاهن آخر، الأب وليام باودرن، أن (R) كان قد تعمدّ إنتاج الظواهر التي حدثت حتى الآن في سانت لويس، مدركًا أن ما حصل من حوادث مزعومة في ماريلاند كانت إشاعات بالرغم من أنها مثيرة للاهتمام.

في النهاية غيّر باودر وجهة نظره وتم توجيهه من قبل رئيس الأساقفة (Joseph Ritter) لأداء رقية للصبي. رافق باودرن الأب بيشوب ووالتر هالوران، الذي كان آنذاك طالبًا يسوعيًا. بدأ باودرن طقوس طرد الأرواح الشريرة في غرفة (R). بدأت الخدوش تظهر على جسد الصبي، بما في ذلك كلمة “الجحيم” على صدره “بطريقة يمكن ل(R)أن ينظرإلى صدره ويقرأ الحروف بوضوح”. ظهرت “صورة الشيطان” أيضا على ساق الصبي”. من المؤكد أن صلاة طرد الأرواح الشريرة قد أثارت الشيطان”، كما تقول اليوميات، لأنه، بعد فترة من النوم، بدأ (R) يقوم “بتلويح يده” و “يقوم بلكم الوسادة بقوة غير طبيعية”.

سرعان ما صدّق باودرن أنه ” كان في نزاع مع الشيطان”. قاوم (R) بعنف شديد؛ بصق في وجوه الكهنة وحتى في وجه أمه. كان يتلوى وينفجر ويتبول في نوبات من الجنون. تحكي اليوميات:

من الساعة 12:00 منتصف الليل، كان من الضروري تثبيت (R) أثناء معاركه مع الروح الشريرة. كان من الضروري وجود رجلين لتثبيته على السرير. أطلق (R) تهديدات عليهم، ولكنه لم يستخدم تعابير بذيئة. لقد بصق عليهم عدة مرات، كانت ذراعه قويةً جدًا كلما كان بإمكانه تحرير نفسه، وكانت ضرباته أبعد ماتكون عن قوة فتى طبيعية.

استمر طرد الأرواح الشريرة بأوقات متفرقة. في بعض الأحيان كان (R) يصرخ “بصوت شيطاني عالي النبرة”؛ كان يلوّح بقبضاته، قام مرة بعد أن كسر أنف هالوران بالجلوس والغناء (على سبيل المثال “Blue Danube”، “Old Rugged Cross”، و “Swanee”)، بكى، وبصق، ولعن أباه، وقام بحركات تشبه العادة السرية؛ قام بِعَض الذين يقومون برعايته. في 18 آذار، بدا أن هناك أزمة، وفيما كأنه يحاول أن يتقيأ، قال (R): “إنه ذاهب، إنه ذاهب …” و “ها هو قد ذهب”. بدا ضعيفًا وعاد إلى طبيعته، وقال إنه كان لديه رؤية لشخصية في ثوب أسود وقلنسوى تبتعد على سحابة سوداء.

ومع ذلك، بعد أن غادر الكهنة، ادّعى (R) وجود أحاسيس غريبة في بطنه وصرخ: “إنه عائد! إنه عائد!” سرعان ما استمرت نوبات الغضب ورتابة طرد الارواح الشريرة. بدا (R) أكثر عنفاً، بدأ بإلقاء الشتائم، وكان لديه نوبات من الكتابة والكلام الشيطاني، على سبيل المثال: “في غضون 10 أيام سأضع علامة على صدره؛ سيضطر إلى تغطيتها لإظهار قوتي.” كتب (R) أيضًا، “الأسقف ميت”. في وقت لاحق في 1 نيسان، في وقت بين حصول الاضطرابات، تم تعميد الصبي في بيت القسيس.

خلال كل هذا الوقت استمرت العلامات – الخدوش والكلمات العشوائية – في الظهور على جسم R. عندما كان هناك حديث عن ذهابه إلى المدرسة هناك، قام الصبي بالامتعاض وفتح قميصه ليكشف عن الكلمات المخدوشة، “لا مدرسة”، وهو ما يبدو أنه قلق صبياني بالنسبة لقوة شيطانية حقيقية.

وبحسب ما ورد، في إحدى المرات، لوحظ استخدام أحد أظافره (التي كانت طويلة جداً) لتخدش عبارة “الجحيم” و “المسيح” على صدره. من غير الواضح ما إذا كان قد أدرك أنه كان يتم مراقبته في ذلك الوقت أم لا. في وقت سابق، ورد أن الكهنة “رأوا خدشًا جديدًا يتطور ببطء أسفل ساقه”. هذا يبدو غامضًا لحين أن نأخذ بعين الاعتبار أن الصبي كان يمكن أن يقوم بخدشٍ سريع قبل أن ينظر الكهنة – وهو ما فعلوه لأنه فجأة – “قام بإصدار صوت نباح” – وما لاحظوه هو فقط تأثير بعد قيامه بالخدش، وهو استجابة الجلد للإصابة للسطحية (لقد أنتجت مثل هذا التأثير على نفسي تجريبيًا، لوحظ من قبل (Ben Radford)).

في 4 نيسان، قررت العائلة العودة إلى منزلها في ولاية ماريلاند بسبب حاجة الأب للعمل وأيضا لتخفيف الضغط عن أقارب ميسوري. لكن بعد خمسة أيام أُعيد (R) إلى سانت لويس وأُدخل إلى مستشفى يدار من قبل رهبان. تم وضعه في غرفة مراقبة تحتوي على قضبان على النافذة وأربطة على السرير. خلال أيام درس المراهق التعليم المسيحي وذهب في نزهات، ولكن في الليل استمرت “التظاهرات الشيطانية”. كانت هناك محاولات فاشلة لمنحه القربان الإلهي، كان “الشيطان” يتكلم أحيانًا (وفقًا لليوميات)، بأنه لن يسمح بذلك.

في 18 نيسان، أعلن (R) مرة أخرى بأن الشيطان قد ذهب، هذه المرة قال أنه كان لديه رؤية “لرجل جميل جدًّا يرتدي ثوبا أبيض ويحمل سيفا ناريًا”. وقد قاد هذا الشخص (من المفترض أنه يسوع) الشيطان إلى هوّة. لم يكن هناك مزيد من الحلقات التي تم تسجيلها، وقد سّجل الأب بيشوب أنه في 19 آب 1951، زار (R) ووالديه الإخوة (الرهبان) الذين كانوا يعتنون به. “(R) الآن في السادسة عشر من عمره، وهو شابٌ رائع”، كما كَتب. “أصبح والده وأمه كاثوليكيان أيضًا، وذلك بعد أن تناولا أول قربان إلهي في يوم عيد الميلاد عام 1950”.

وبعد

هل كان (R) مستحوذًا؟ أم أن قِناع الخرافة أخفى مشاكل شاب مضطرب ودعا إلى لعب تمثيلية محكمة؟ من المثير للاهتمام، تعيين رئيس الأساقفة ريتر لأستاذ الفلسفة اليسوعية للتحقيق في هذه المسألة. وفقا لمصدر مطلع، استنتج المحقق أن (R) “لم يكن ضحية للحيازة الشيطانية”. ولعدم رغبته في إصدار حكم قاطع، يقول هالوران أن (R) لم يظهر قوة غير طبيعية أكثر مما يمكن أن يمتكله مراهق مهتاج. بالنسبة للتحدث باللغة اللاتينية، يعتقد هالوران أنه ليس أكثر من سماع الصبي عبارات لاتينية متكررة من الكاهن المنفذ لعملية طرد الأرواح. (أو في إحدى المناسبات “تحدث الشيطان عن أطفال المدارس” خنزيرًا لاتينيًا “!)

لم يكن أي شيء تم الإبلاغ عنه بشكل موثوق في القضية يتجاوز قدرات المراهق على الإنتاج. كانت نوبات الغضب، “نوبات النشوة”، نقل الأثاث، وقذف الأشياء، والكتابة بدون وعي، والخدوش السطحية، وظواهر أخرى، مجرد أشياء يمكن أن يفعلها شخص بعمر (R)، كما فعل آخرون قبله. في الواقع، إن عناصر “الظواهر الشريرة”، و “التواصل الروحاني”، و “الحيازة الشيطانية” التي تم التقاطها بشكل منفصل، أو معًا، لا تقترح شيئًا أكثر من تمثيلية تنطوي على الخداع، وكذلك أيضًا بالنسبة للصورة النمطية “للشيطان” في جميع أنحاء القصة.

قام الكاتب (Mark Opsasnik) بالتحقيق في القضية، وتتبع منزل العائلة إلى كوتيدج سيتي، بولاية ميريلاند (وليس كما كان يُعتقد سابقاً في ماونت رينييه)، وتحدث إلى جيران (R) وأصدقاء الطفولة. كان الفتى مخادعًا ذكيًا للغاية، كان قد نفّذ مقالبًا لتخويف والدته وخداع الأطفال في الحي. “لم يكن هناك حيازة”، قال (Opsasnik) لصحيفة واشنطن بوست، “كان الطفل مجرد مخادع”.

وبالطبع، فإن حقيقة أن الصبي يريد الدخول في مثل هذه التصرفات الغريبة على مدى ثلاثة أشهر، يشير إلى أنه كان مضطربًا عاطفياً. يعاني المراهقون عادة من المشاكل، ويبدو أن (R) قد واجه صعوبة في التكيف مع المدرسة، وبوعيه الجنسي، وغيرها من المخاوف. إلى حدٍ ما، بالطبع، كان يتحدى السلطة كجزء من تطوره الذاتي، وكان بلا شك يستمتع بالاهتمام الذي يحصل عليه. ولكن ببساطة لا توجد أدلة موثوقة تشير إلى أن الصبي كان يتملكه شياطين أو أرواح شريرة.

يقول الباحث الكاثوليكي، القس (Richard McBrien)، الذي كان يرأس سابقًا قسم اللاهوت في نوتردام، أنه “متشكك للغاية” في جميع قضايا التملك المزعومة. وقال لصحيفة فيلادلفيا ديلي نيوز، “كلما رأيت تقارير عن طرد الأرواح الشريرة، لم أصدقهم أبداً”. وقد توصل إلى أنه “. . . في الأزمنة القديمة، قبل وقت طويل من وجود تخصص يعرف باسم الطب النفسي وقبل فترة طويلة من التقدم الطبي. . . ما تسبب بالمس كان شكلًا من الأمراض العقلية أو الجسدية”. في مكان آخر قال (McBrien) أن ممارسة طرد الأرواح – ومن خلال الاستدلال الإيمان بالحيازة الشيطانية – “تُحوّل الإيمان إلى مجال للتهكم”. وأخيرًا دعونا نأمل أن تسود الرؤية المستنيرة، لا الخرافات والشعوذة.

رابط المقال الأصلي:

Joe Nickell, “Exorcism! Driving Out the Nonsense“, Skeptical Inquirer Volume 25.1, January / February 2001