في مقال مشترك على موقع هافينغتون بوست، يروج كل من روبرت لانزا (Robert Lanza) و ديباك شوبرا (Deepak Chopra) لتصور جديد يبتغي صياغة تفسير للكون يختلف عن التفسيرات السائدة، تحت اسم (biocentrism)، أو مركزية الحياة/ البيولوجيا. يصرح الكاتبان أن الفهم الدقيق للعالم والحياة يتطلب وضع المراقبين في قلب المعادلة – في إحالة إلى تأثير المراقب (the observer effect) – ويريان أن الحياة ربما لا تكون تلك الحادثة الناتجة عن تصادف قوانين الفيزياء والكيمياء حسب ما تقترحه نظرية التطور.
هذه الفكرة ليست جديدة كما قد يبدو للوهلة الأولى – ما هي في الواقع إلا نتيجة لسوء استخدام النتائج التي توصلت إليها الفيزياء الحديثة وميكانيكا الكم، وذلك قصد إضفاء سمحة روحانية على العلوم. في البداية يحتكمان إلى المبدأ الأنثروبي (anthropic principle) قائلين: ” لماذا نجد مثلا أن قوانين الطبيعة مضبوطة بدقة حتى يمكن للحياة أن توجد على الأرض؟ في النظام الشمسي، هناك أكثر من 200 بارامتر فيزيائي دقيق لدرجة أنه من السذاجة اعتبارها عشوائية ووليدة الصدفة، وإن كان هذا هو ما تقترحه الفيزياء المعاصرة صراحة. هذه الثوابت الأساسية، مثلا قوة الجاذبية، لا تتنبأ بها أية نظرية – كلها تبدو كما لو أنها اختيرت بعناية فائقة لكي تتيح للحياة أن توجد، لدرجة أنه بمجرد إدخال تغيير طفيف على أحد هذه الثوابت تصير الحياة غير ممكنة.”
حاليا، ليس لدى العلماء تفسير واضح عن السبب الذي يجعل قوانين الكون على ما هي عليه، كما أن معرفة ما إذا كان يجب أن تكون هذه القوانين على النحو الذي هي عليه، أو إذا وجدت إمكانيات أخرى لها، وربما لانهائية، قد تسمح بنشأة الحياة، أمر لا يمكن تأكيده في الوقت الراهن. مثل هذه الصعوبات تدفع الفيزيائيين إلى سبر آفاق جديدة وطرح أسئلة من قبيل: هل الكون الذي نعرفه هو فقط واحد من عدد لانهائي من الأكوان؟ هل كتلة الإلكترون هي نفسها دائما في جميع الأكوان؟ هل ثابت الجاذبية يختلف وفق كل كون على حدة؟ وغيرها من الأسئلة التي مايزال التحقق منها أمرا بعيد المنال.
ما لا يمكن إنكاره هو أن قوانين الطبيعة، كما هي عليه، تتيح تكون وتشكل بنيات معقدة ومستقرة ذات أمد طويل، لكن الادعاء أن هذه القوانين هي بهذه الدقة حتى تسمح بنشأة الحياة في مرحلة لاحقة، يوقعنا في العديد من المغالطات المنطقية دفعة واحدة. المغالطة الأولى هي حجة التوسل بالنتيجة، بمعنى افتراض أن النتيجة النهائية هي السبب وهي التي تحكم الشروط الأولية. بدلا من هذه الحجة المغلوطة، ينبغي أن نقول إننا هنا، أحياء على هذه الأرض، لأن قوانين الطبيعة سمحت بذلك، وليس لأن هذه القوانين صممت وتشكلت كي نتمكن من الحياة.
المغالطة الثانية التي يقع فيها هذا الزعم هي مغالطة اليانصيب. فمثلا، إذا قمنا بتنظيم مسابقة يانصيب عالمية بحيث إن شخص واحد فقط من بين 7 مليارات هو من سيفوز، يكون احتمال حصول هذا الشخص على الورقة الرابحة ضئيل جدا، لكن في النهاية هناك فائز. يجادل كل من شوبرا و لانزا أن الفائز في هذه المسابقة لم يكن ليحصل على الورقة الرابحة صدفة لأن الاحتمالات، حسب قولهم، كانت ضده. بعبارة أخرى، إذا حصل ووجد كون آخر، فربما توجد كائنات واعية هناك تفكر هي أيضا في مدى ملاءمة قوانين الكون لحياتهم. من المحتمل أيضا أن هناك العديد من الأكوان، وربما نسبة ضئيلة منها فقط تسمح بتطور كائنات شديدة التعقيد، في حين لا توجد في الأكوان الأخرى كائنات حية تفكر في أن قوانين الطبيعة لا تسمح بنشأة الحياة، وبالتالي نشأتها هي في مرحلة لاحقة.
يوصلنا هذا إلى القول بأن الكون تشكل على مقاس الحياة وتوائم معها، أي أن نوع الحياة الذي أمكن أن يوجد في هذا الكون هو نفسه النوع الذي نشأ فعلا، ولا مجال لاحتمالات أخرى. يشبه هذا إحساس الدهشة الذي يغمر بعض من يتأملون في مقدار المصادفة الذي جعل مناخ الأرض ملائما لحياة الإنسان. حسب هؤلاء، تزودنا الأرض بالماء والطعام، وتسمح بعبور أشعة الشمس، وفي كثير من المناطق، خلال فترات متباينة من السنة، يمكننا التجول بأريحية تامة دون الحاجة إلى ارتداء كثير من الملابس، وهو ما يكسب هذا الزعم – أي أن الكون هو هكذا لكي يتيح نشأة الحياة – نوعا من المصداقية في نظرهم.
لكننا، في الواقع، تطورنا لنتكيف مع البيئة من حولنا، فهي لم تكن مناسبة لنا وعلى مقاسنا كما قد يبدو للبعض. فالشمس، على سبيل المثال، لا توفر الضوء الذي يتصادف وجوده في المجال الذي تتمكن أعيننا من التقاطه، بل إن أعيننا هي التي تطورت وتكيفت مع البيئة من حولها حتى تتمكن من كشف الطيف الضوئي الذي ترسله الشمس. بالتالي فإن كل من شوبرا ولانزا فهموا هذه المسألة بصورة معكوسة. الحجة الأخيرة التي يعتمدون عليها هي مغالطة الاحتكام إلى الجهل، وتتجلى في القول أنه ما دمنا لا نعرف ما الذي يحدد ويحكم قوانين الكون، ويجعلها ما هي عليه، فهي إذن قد صممت من أجلنا فقط، لكي تنشأ الحياة كما نعرفها.
بعدها يأخذ شوبرا ولانزا المبدأ الأنثروبي إلى أقصى درجاته السخيفة ويعلنان: “علاوة على هذه الثوابت والقوانين الفيزيائية، فكر مثلا في كل ما كان ينبغي أن يحدث حتى نصل في الأخير إلى الجنس البشري. هناك تريليونات من الأحداث التي كان يجب أن تحدث بطريقة صحيحة – بـ”هذه الطريقة” وليس بـ”تلك الطريقة” – لكي تنشأ الحياة على الأرض. فكر في النيزك الذي قضى على الديناصورات، فلو خرج عن مساره بعض الشيء، أو لو كان الكويكب أكبر قليلا، فربما لم تكن لتكتب لنا الحياة إطلاقا.”
يقع هذا الزعم ضحية مغالطة اليانصيب سالفة الذكر، فلو أن النيزك لم يسبب انقراض الديناصورات، فربما أتاح هذا تطور نوع ذكي من الزواحف يتربع على قمة هرم الكائنات الحية ويحكم الأرض، ويتعجب هو أيضا من مقدار عدم احتمالية وجوده، ليصل في النهاية إلى القول أن نشأة الحياة، ومن ثم وجوده على الأرض، كان أمرا محددا سلفا.
ثم يذكر شوبرا ما ينم عن إلمامه الناقص بميكانيكا الكم إذ يقول: “لا يوجد فيزيائي يتحدى حقيقة أن الجسيمات لا يمكن تحديد خصائصها الفيزيائية بصفة نهائية إلا حين تجري ملاحظتها. إذا كان الحاضر يحدد الماضي مثلما أشار ستيفن هوكينج وجون ويلر، الذي صاغ كلمة الثقب الأسود، وآخرون، فإنه لا يمكن للحاضر أن يكون بأي صورة مغايرة عما هو عليه بالفعل.”
بالنسبة لقول شوبرا إن لا أحد من الفيزيائيين يتحدى حقيقة أن الجسيمات لا يمكن تحديد خصائصها بدقة إلا عند الملاحظة، فيمكن سوق مثال عالمي الفيزياء فينود وادهاوان (Vinod K. Wadhawan) وأجيتا كمال (Ajita Kamal) الذين يتحديان هذه الحقيقة ويشرحان بالتفصيل كيف أن ميكانيكا الكم لا تقول إن تحديد الخصائص الفيزيائية للجسيمات يتطلب وجود مراقب. يفكك كل من وادهاوان وكمال هراء شوبرا ولانزا، ويصدرون حكمهم النهائي في هذه المسألة: إن الوعي لا مكان له في ميكانيكا الكم، إذ إن الطبيعة نفسها يمكن أن تلعب دور المراقب. عندما تتفاعل المادة مع نفسها، في هذه الحالة عندما يتفاعل الجسيم الكمي مع البيئة المحيطة به، يؤدي ذلك إلى فك الترابط الكمي (Quantum Decoherence)، أي الانتقال من عالم الكم بالغ الصغر إلى العالم الكلاسيكي الذي نختبره.
لا يكتفي شوبرا ولانزا بسوق أمثلة مغلوطة من ميكانيكا الكم لإضفاء المصداقية على فكرة مركزية الحياة، إذ إنهما يختمان حديثهما بذكر نظرية داروين، ويقولان في هذا الصدد: “نظرية التطور التي صاغها داروين بالغة التبسيط. هي مفيدة إذا كنت ترغب في ربط النقاط وفهم مدى ترابط الحياة على كوكب الأرض – هي جد بسيطة بحيث يمكن أن يدرسها الأطفال في المدرسة خلال الاستراحة. لكنها تخفق في إبراز القوة الدافعة وراء هذا الكون وما الذي يحدث فيه حقا.”
قبل داروين، كان المجتمع العلمي يعترف بأن الحياة تغيرت على مر حقب جيولوجية طويلة، بمعنى أنها تطورت. إسهام داروين الأساسي كان اقتراح القوة الدافعة خلف هذا التطور، والتي تمثلت، في نظره، في التباين والانتقاء الطبيعي. تجلت عبقريته في كشف الكيفية التي يمكن بها لقوى عمياء، تعمل على مدار فترات طويلة من الزمن، أن تضيف تغيرات طفيفة بصورة تراكمية إلى أن يحدث تغير كبير، ما يكفي ليتولد فيل عن كائن ذو خلية واحدة.
ما يحاول شوبرا ولانزا فعله هو استبدال منظور رائع للطبيعة، يتميز بقوة تفسيرية وأناقة وبراعة لا يمكن إغفالها، بروحانية ساذجة، وهم بفعلهم هذا يحاولون تجاهل بعض أهم الإسهامات الفكرية والنظرية في فهمنا للواقع. وبينما ينكرون العلم ويستبدلونه بتصورهم ذاك، فهم يسعون، في الوقت نفسه، إلى أن يغلفوا مفاهيمهم الروحانية تلك بلغة العلم. ما يقومون به هو جوهر العلوم الزائفة، أي استخدام صيغة سطحية من العلم لترويج أفكار روحانية غامضة، مع التخلي عن المنهج العلمي المتبع للوصول إلى النتائج.
المصدر: