تميز بعض المنتجات ذاتها بموسوم العضويّة “Organic” دلالة على توافقها مع معايير معينة راج الاعتقاد بكونها صحيّة ومغذية وصديقة للبيئة – أكثر من نظيراتها التقليدية، خصوصاً بين الأوساط المهتمة بالصحة والبيئة، فما الذي يعنيه هذا المصطلح في الأصل، وما مدى صحة هذا الإعتقاد؟
أصل التسمية
تعد (العضوية) أحد فروع علم الكيمياء، حيث يعرّف المركب العضوي بكونه: كل مركب يدخل عنصر الكربون في تركيبه. أما المادة العضوية فهي المادة التي كانت سابقاً جزءاً من كائن حي، وهي المادة التي لها قابلية على التحلل أو هي المادة الناتجة من التحلل المكونات العضوية.
أي أن الملابس والحطب والنفط والكوكايين وسم الأفاعي -فضلاً عن جميع الكائنات الحية– تشترك جميعها في صفة (العضوية)، بناءاً على هذا التعريف.
ويستثني هذا التعريف الملح والماء من صفة (العضوية) لكن ذلك لم يمنع بعض الشركات من بيع المياه (العضوية)، إن فكرت في الأمر قليلاً، فهل تريد شرب مياه “عضوية” حقاً؟!
أما مصطلح الزراعة العضوية فدرج استخدامه في بداية القرن العشرين نتيجة التغير المتسارع في الممارسات الزراعية، وتمتلك أستراليا ما يفوق نصف الأراضي المنتجة للمحاصيل الموسومة بالعضوية عالمياً. يتم تنظيم تحديد مواصفات الإنتاج العضوي دولياً بناءاً المعايير التي يقدمها (الاتحاد الدولي لمنظمات الزراعة العضوية – IFOAM) المؤسَس سنة 1972.
الأغذية العضوية
درج إستخدام مصطلح (العضوية) ليدخل في مجالات شتى، كالأغذية والأدوية والزراعة كذلك في القانون والفلسفة والاقتصاد والحوسبة وغيرها.
ويشار غالباً لمنتج ما بكونه عضوي عند توسيمه بشعار (عضوي-Organic) بعد تطابق طرق انتاجه ومعالجته مع معايير معينة وحصوله على شهادة المنتج العضوي (Organic Certification). تُصدر هذه الشهادة منظمات مختلفة، تختلف معاييرها قليلاً من دولة لأخرى.
تشير الإحصاءات* أن المنتجات العضوية تكون في المتوسط أغلى ثمناً من نظيراتها (غير العضوية) بمعدل يقارب الـ(50%).
يفضل الكثير من الناس المنتجات العضوية بسبب الاعتقاد بكونها مغذية وصحية أكثر ومحابية للبيئة وتروج لهذا الاعتقاد العديد من الصحف والمنظمات المعنية بالصحة والتغذية.
هل الأغذية العضوية أكثر تغذية؟
في دراسة تحليلية (Systematic Review) أجريت عام 2012 توصلت لما يلي:
“تفتقر الأبحاث المنشورة إلى البراهين المحكمة للدلالة على إمتياز واضح للاغذية العضوية بالتغذية فائقة نظيراتها التقليدية. إن استهلاك الأغذية العضوية قد يساهم في تقليل التعرض لمخلفات المبيدات و البكتريا المضادة للمضادات الحيوية”.
إن المزاعم القائلة بكون الأغذية العضوية أكثر إستدامةً وقرباً للبيئة لا تخلو من التعقيد والجدل. فهي في كثير من الأحيان تقع ضحية لمغالطة المذهب الطبيعي، والاجدى الحكم على كل ممارسة زراعية لمزاياها الخاصة، بناءاً على الأدلة لا الفلسفة. لذا فإن الاعتقاد المبني على تفوق الاغذية العضوية صحياً يفتقر للأدلة القاطعة، فلا تفوق مجزوم لها إلا في الكلفة.
في بعض الدراسات التي وجدت إختلافاً بسيطاً في تراكيز العناصر الغذائية بين المنتجات العضوية والتقليدية قد يرجع سببها لمقاييس مُوهِمة. حيث تميل المنتجات العضوية لكونها أكثر جفافاً وأصغر حجماً بقليل من التقليدية، فعند إجراء المقارنة بالاعتماد على الوزن الكلي (بدل المقارنة الفردية لحبة فاكهة كاملة لكل نوع مثلاً) قد يلاحظ تفوق طفيف للاغذية العضوية. ولا يعني ذلك بالضرورة أنها مغذية أكثر للمستهلك.
أما الدراسات التي تشير لكون المستهلكين للمنتجات العضوية أصحّ من غيرهم، فإنها مضللة لإعتمادها على الإرتباط والارتباط لا يقتضي السببية. فالشخص الذي يستهلك المنتجات العضوية يرجح كون نمط حياته أكثر صحة بالعموم من ممارسته للرياضة والابتعاد عن التدخين والكحول والأطعمة غير الصحية.
ولو سلمنا القول بفضل المنتجات العضوية على نظيراتها التقليدية فلما هو حجم الأثر الحقيقي لذلك على البيئة؟ وإن قبلنا بفرض كونها أكثر تغذية، فهل يعني ذلك نبذ بقية المنتجات؟
المبيدات الزراعية
في دراسة أجريت مسبقاً، لوحظ أن نسب رواسب المبيدات في المنتجات العضوية كانت أقل من منتجات الزراعة التقليدية. إلا أن درجة الفرق كانت محدودة. أي أن وجود الفارق لم يعني إختلافاً جوهرياً في حدود تتعدى المسموح به لبقايا المبيدات.
فضلاً عن ذلك، لم تجد الدراسات التي قارنت بين الآثار الصحية لتناول المنتجات العضوية مقارنة بالتقليدية فوارق كبيرة. إضافة لكونها محدودة المدة والعدد، ولم تخلوا من انحيازات في طرق إجرائها.
إن الزراعة العضوية تستخدم المبيدات، لكنها تستخدم “الطبيعية” منها فقط، ويكاد ينعدم وجود أدلة لكون هذه المبيدات أقل خطراً من نظيراتها سواء للمستهلك أو للطبيعة. فهي تستند كما ذكرنا لمغالطة المذهب الطبيعي في الغالب.
وحتى لو أذعنّا لدعوى وجود مبيدات أقل في منتجات الزراعة العضوية، وبل في أن النسبة الأعلى الموجودة في المنتجات التقليدية خطرة على الصحة، فلا يزال معلوماً أن غسل الفواكه والخضر جيداً سيسهم بكفائة في تقليل نسب التعرض لبقايا المبيدات، وهذه الطريقة بالطبع أكثر جدوى وأقل ثمناً لتحقيق هذا الهدف.
كما أن نسبة الإختلاف في التلوث البكتيري كانت مشابهة، فلم يلاحظ وجود فرق بنسب البكتريا المعوية (E-coli)، أما فيما يتعلق بالبكتريا المقاومة للمضادات، فكانت النسبة وجودها أعلى بنسبة 33%، إلا أن ذلك لا يعني تمثيلها لخطر أكبر، وحتى لو سلمنا بوجود الخطر فإن الغسل الجيد كافٍ لإبعاده.
الحليب واللحوم العضوية
في دراستين تحليليتين شاملتين (Meta-analyses) أجريت إحداهما على الحليب والأخرى على اللحوم، أُستُنتج أن نسب الدهون غير المشبعة والأوميغا-3 (omega-3) كانتا أعلى في المنتجات العضوية مقارنة بالمنتجات التقليدية، إلا أن نظرة أقرب لهاتين الدراستين تكشف صورة مغايرة.
فإستنتاج دراسة الحليب كان التالي:
“إن فيض البيانات التحليلية المتأتية من مقارنة أنواع الحليب عبر القارة الأوروبية يدل على أن زيادة الاعتماد على علف المراعي العشبية في المزارع العضوية كانت سبب التمايز في تركيب الحليب”
أما بالنسبة للّحوم فكان الاستنتاج:
“إن الأدلة المستنتجة من التجارب الدقيقة تشير إلى أن تعليف الماشية في المراعي العشبية المفروضة في معايير المزارع العضوية قد يكون السبب الرئيس في اختلاف نسب الأحماض الدهنية.
أي بصيغة أخرى: إن الفوارق في نوعيات الحليب يمكن عزوها بالكامل للفرق في نوعية التعليف باعتمادها على العشب أو الحبوب. أي أن الفارق الحقيقي هنا ليس كون المزارع عضوية أو تقليدية، بل بكون العلف حبوباً أو أعشاباً.
هل هذه الفوارق كبيرة؟
بالنسبة للحليب وجد أن نسبة الدهون غير المشبعة كانت أكبر بـ7% في المنتجات العضوية (أي عشبية التعليف) بينما كانت نسبة الأوميغا-3 أعلى بـ56% في العضوية، أما للّحوم، فقد كانت نسب التفاضل هي 23% و47% على التوالي.
قد تبدو هذه الفوارق مبهرة، ومعظم التقارير تختصر النسب التفاضل بـ50% لكل من اللحم والحليب. لكن القارئ الحصيف يدرك أن النسب قد تكون رغم روعتها مضللة.
إن اللحم والحليب ليسا مصدراً اساسياً للأوميغا-3 ولا للأحماض الدهنية، لذا فحتى نسبة تفوق تصل لـ50% ليس لها آثار صحية ملحوظة في هذه النسب المحدودة. فعلى سبيل المثال إن تناولت نصف لتر من الحليب الدسم المنتج في المزارع التقليدية يومياً، فإن ذلك سيوفر لك نسبة 11% فقط من الحصة اليومية الموصى بها من الأوميغا-3، أما بتناولك نفس الكمية من الحليب المنتج في المزارع عضوية فإن النسبة سترتفع 16% فقط. إن نسبة الفارق بين 1% و2% هي الضعف (أي 100%)، إلا أنها تبقى محدودة الأثر في الكميات القليلة
أي باختصار: لن تستوفي الحاجة اليومية الموصى بها من الأوميغا-3 مهما تناولت من الحليب.
أما بالنسبة للّحوم فالحال أسوأ، فاللحوم الحمراء لها نسب عالية من الدهون المشبعة، فتغيير مصدر اللحم لتغطية الحاجة من الأحماض الدهنية ليس له أثر صحي يذكر. أي بسبب النسب المنخفضة للأوميغا-3 في اللحوم الحمراء أساساً، سيتوجب إستهلاك كميات كبيرة (وربما ضارة) من اللحوم عضوية الإنتاج مقابل اللحوم التقليدية ليكون الفارق ملحوظاً.
باختصار، لأن الأحماض الدهنية قليلة أساساً في الحليب واللحوم، فالفوارق النسبية لن تكون مؤثرة.
مشاكل الدراسات البعدية (meta-analyses)
إن طعناً أشد في آثار كلتا الدراستين سابقتي الذكر سيبين بمعرفة صعوبة إجراء الدراسات التحليلية. فأمثال هذه الدراسات ليست بديلاً عن الدراسات الكبيرة الدقيقة. فالدراسات البعدية هي طرق لجمع البيانات من دراسات مختلفة لنيل القوة الإحصائية.
تكمن قوة الدراسات التحليلية بوفرة البيانات، لكن عليها أيضاً بعض المؤاخذات. فعند جمع البيانات من عدة دراسات صغيرة محدودة الدقة
لن تغني النتيجة المستنتجة عن دراسة دقيقة كبيرة العينة، فكثير مما تنتجه هذه الدراسات من نتائج هو الغث، لكنه غثٌ قد يبدو لكثرته قيماً.
كما أن الدراسات البعدية قد تكون مثوى لزمرة من الانحيازات. فهي تلزم اختيار الدراسات التي ستشمل، ووزن كل منها، وطرق وتقنيات استخدام نتائجها، فكل هذه المتغيرات تمنح الباحث درجة من الحرية وتفتح الباب لنتائج منحازة. وهذا ما حصل في دراستي الحليب واللحم.
الخلاصة
إن الأسمدة والمبيدات وحجم الإنتاج في الطرق الزراعة التقليدية سببت -ولا تزال- عواقب وخيمة عالمياً على الأنظمة البيئية المحلية وجودة التربة والتنوع الحيوي والمياه الجوفية ومصادر مياه الشرب وأحياناً على صحة المزارعين أنفسهم.
لكن لم تقدم البحوث والمراجعات العلمية الأخيرة أدلة قاطعة لتفضيل المنتجات الموسومة بـ”العضوية” الأغلى ثمناً في العادة، كما التفضيل للأطعمة الطازجة والغسل الجيد لجميع الفواكه والخضروات قبل تناولها هو بديهية لابد منها أياً كان المصدر. وإن دل الإستهلاك والطلب المتصاعد لهذه المنتجات على شيء، فهو دلالة على قوة التسويق فحسب.
إلّا أن الإهتمام بالصحة وجودة الغذاء والبيئة والاستدامة وعدم استنزاف الموارد الطبيعية هو هدف -بل واجب- على البشرية التزامه إن أرادت البقاء والاستمرار. وقد لاتكون المنتجات العضوية الحل لهذه المشاكل، لكن لعلها خطوة في الاتجاه الصحيح.
المصادر:
- U.S. DEPARTMENT OF AGRICULTURE.
- Consumer Reports.
- The Maine Organic Farmers and Gardeners Association.
- Mayo Foundation for Medical Education and Research.
- “Should you go organic?“. Harvard Health Publishing, Harvard Medical School. 5 July 2017. Retrieved 2019-02-25.
- “Organic food”, (Wikipedia).
- No Health Benefits from Organic Food. Science-Based Medicine, by Steven Novella on September 5, 2012.
- Smith-Spangler, C; Brandeau, ML; Hunter, GE; Bavinger, JC; Pearson, M; Eschbach, PJ; Sundaram, V; Liu, H; Schirmer, P; Stave, C; Olkin, I; Bravata, DM (September 4, 2012). “Are organic foods safer or healthier than conventional alternatives?: a systematic review“. Annals of Internal Medicine.
- Organic vs Conventional Meat and Milk, Steven Novella on February 17, 2016.
- M. Tahat, Monther; M. Alananbeh, Kholoud; A. Othman, Yahia; I. Leskovar, Daniel (January 2020). “Soil Health and Sustainable Agriculture“. Sustainability.
- Brian Moss (12 February 2008). “Water pollution by agriculture” Philos Trans R Soc Lond B Biol Sci.
- “Social, Cultural, Institutional and Economic Aspects of Eutrophication” UNEP. Retrieved 2018-10-14.
- Aktar; et al. (March 2009). “Impact of pesticides use in agriculture: their benefits and hazards“, Interdiscip Toxicol.
- Sharon Oosthoek (17 June 2013). “Pesticides spark broad biodiversity loss“, Nature.
- Seufert, Verena; Ramankutty, Navin (2017). “Many shades of gray — The context-dependent performance of organic agriculture“, Science Advances.
- Paull, John (2019). “Organic Agriculture in Australia: Attaining the Global Majority (51%)“, Journal of Environment Protection and Sustainable Development.
ملحق
*الإحصاءات المذكورة هي لأسواق الولايات المتحدة وهي تتراوح بين (47–68)% بناءاً على إحصاءات مختلفة، وتختلف هذه النسب من دولة لأخرى، لكن في المتوسط يكون المنتج الحامل لشعار (Organic) أغلى ثمناً.