في البدء نقترح قراءة المقال (آلان غوث وإثبات صحة نظرية الانفجار الكبير والتضخم الكوني) قبل الشروع بهذا المقال لأنه يمثل مقدمة جيدة للمعلومات الواردة فيه.
وبعد ما قرأناه في المقال السابق نتسائل الآن ما الذي يستطيع ان يجعل التضخم الكوني يتوقف وما الذي سيحدث في اللحظة التي سيتوقف فيها التضخم؟
تأتي الإجابة هذه المرة من الفيزيائى ألكسندر فيلينكين (Alexander Vilenkin)، بجامعة تافتس حيث توصل إلى فكرة غريبة وعبقرية في نفس الوقت، تنص فكرته على الإجابة عن هذا التساؤل:
“بأن الكون لن يتوقف ابدا عن التوسع وان الانفجار العظيم يحدث باستمرار وأن هذا الانفجار ليس مميزا لكوننا فقط، بل يحدث باستمرار وتنشأ بسببه اكوان اخرى، ببساطة يحدث هذا الانفجار مرارا وتكرارا منتجا أكوان كثيرة متعددة ولا نهائية وكانت هذه في الحقيقة بذرة فكرة الأكوان المتعددة وهى مازالت حتى الآن نظرية لها شواهد ولكن لا يوجد عليها أدلة قطعية حقيقية حتى الآن”
لكي نعرف مدى روعة العلم وخصوصا الفلك لابد أن نناقش قضية أخيرة وهي قضيةٌ مثيرةٌ جدا للجدل وتعتبر ايضا جزء من سلسلة التساؤلات التى بدأها غوث وأيضا إمتداداً لشواهد أخرى على نظرية الأكوان المتعددة. لنلخص سريعا ما توصلنا إليه، إذا نعلم أن الكون يتوسع فعلا ولكن من المفترض أن يتباطأ هذا التوسع بفعل قوة الشد الناتجة عن الجاذبية بين النجوم والمجرات ولكن عندما قام العلماء بقياس توسع الكون وجدوا شيئا مذهلا و مخالفا لكل التوقعات. وجد العلماء أن تضخم الكون لا يتباطأ بل العكس، فهو يتسارع، وهنا افترضوا وجود قوة خفية تعاكس الجاذبية وتدفع المجرات بعيدا عن بعضها بحيث تسبب التسارع في تضخم هذا الكون. ولأن العلماء لا يستطيعون رؤية هذه القوة او الطاقة، فقد أطلقوا عليها تسمية “الطاقة الداكنة”. حيث تعتبر الطاقة الداكنة هي السبب في زيادة تسارع تضخم الكون حتى الآن ولكن الأغرب من ذلك كله في الحقيقة هي قيمة تلك الطاقة الداكنة، ويعتبر ذلك من اكبر الالغاز في الفيزياء حتى الآن ولكن لماذا؟ لماذا يوجد سر في قيمة تلك الطاقة ؟
لكي نجيب على هذا التساؤل يجب أن نفهم كيف قام العلماء بقياس تلك الطاقة عمليا. قام العلماء أولا بقياس مدى تسارع التضخم من خلال سرعة تباعد المجرات عن بعضها البعض ومن ثم قاموا بحساب كمية الطاقة اللازمة المسببة لهذا التسارع وكانت النتيجة صادمة. علامة عشرية متبوعة ب 122 صفر ثم 1. وهو رقم صغير جدا، ولكنه في الحقيقة قياس عملي مبني على المشاهدة. والان باستخدام نظرية الكم التي تهتم بدراسة الجسيمات الصغيرة جدا على المستوى الذري وتخبر العلماء بوجود الكثير من النشاط في المجال المجهري الذي يساهم بمنح الطاقة للفضاء. ومنها قام العلماء بحساب قيمة الطاقة الداكنة في الفضاء، ولكن النتيجة قيمة كبيرة جدا مقارنة بالرقم الذي توصل له علماء الفلك من خلال ملاحظة مدى تسارع التوسع الكوني. ببساطة من المتوقع أن النتيجة العملية لقياس قيمة الطاقة الداكنة صغيرة جدا طبقا للحسابات النظرية. حاول العلماء جاهدين أن يوفقوا بين القيمتين، ولكنهم فشلوا واعترفوا بذلك الفشل. حتى الآن تعتبر من أكبر المعضلات في علم الفلك والفيزياء ايضا. ولكن لنتأمل قليلا القيمة العملية المقاسة سابقة الذكر، انها صغيرة جدا وهو شيء غريب ومنافي للمنطق تماما كما انه منافي للنظريات العلمية التي حاولت تفسير ذلك.
البروفيسور ليونارد سوسكيند بجامعة ستانفورد يحاول أن يفسر هذه القيمة الصغيرة جدا والغريبة لقيمة الطاقة الداكنة.، حيث أنه يستدل على تفسير هذه القيمة من خلال التوفيق بينها وبين نظرية أخرى هي نظرية الأوتار الفائقة. ببساطة شديدة وباختصار تقوم هذه النظرية على فكرة أن كل الجسيمات الصغيرة سواء من إلكترونات أو بروتونات أو نيوترونات تتكون من أوتار صغيرة جدا من الطاقة، هذه الأوتار تهتز بشكل معين في عشرة أبعاد أو أكثر، وكل نمط معين من هذا الاهتزاز يتسبب في خصائص معينة لهذا الجسيم مثل الجسيمات التي سبق ذكرها، ونركز هنا على أن الكون يتكون من عشرة أبعاد مكانية أو أكثر طبقا لهذه النظرية ولا يمكن رؤيتها لأننا ببساطة كيانات ثلاثية الأبعاد ونحن لا نستطيع أن ندرك أبعاد أكثر من ذلك وهي نظرية قوية جدا و استطاعت تفسير كثير من الاشياء وايضا تنبأت بكثير من الاشياء التى تم التأكد منها فعلا، إذا ما علاقة ذلك بالطاقة الداكنة؟
كثير من علماء نظرية الأوتار ونتيجة حل معادلات رياضية خاصة بنظرية الأوتار كانوا ينتجون حلولاً رياضية تدل على وجود أبعاد مكانية كثيرة جدا، أكثر من عشرة بكثير. حيث أن بعض الأبحاث التى نشرت توقعت وجود عدد واحد متبوعا ب 500 صفر من الأبعاد المكانية وذلك كان سبباً في إحباط شديد لأصحاب نظرية الاوتار. نعود هنا لتفسير ليونارد حيث يقول إن ذلك التعارض يعتبر منطقيا جدا اذا وافقنا على فرضية الأكوان المتعددة، وفعلا هذه النتائج من نظرية الأوتار تدل على وجود عدد غير نهائي من الأكوان المتعددة. اما بالنسبة لقيمة الطاقة الداكنة فيمكن أيضا اعتبار القيمة الصغيرة منطقية جدا بفرضية وجود عدد غير نهائي من هذه الأكوان وهذا الكم الضئيل جدا من الطاقة هو نصيب الكون الذي نعيش فيه. وإذا قمنا بتجميع كل الطاقة من كل الأكوان المتعددة سنحصل على قيمة الطاقة التي قمنا بحسابها من ميكانيكا الكم.
الخلاصة
- يمكن لنظرية الأكوان المتعددة التوفيق فعلا بين القيمة الغامضة للطاقة الداكنة، فهي القدر الضئيل الذي هو نصيب كوننا من الطاقة. وإذا قمنا بتجميع كل الطاقة في كل الأكوان ستعطينا الرقم الذي حصل عليه العلماء من المعادلات النظرية. أما عن قيمة الأبعاد اللا متناهية من نظرية الأوتار فهي أيضاً تصبح منطقية جدا بوجود أكوان متعددة لا متناهية في أبعاد لا متناهية أيضا. وبذلك فسرت نظرية الأكوان المتعددة وايضا وفقت بين كثيرا من التعارضات والغموض في أكثر من نظرية. واخيرا عزيزى القارئ إذا لم تؤمن بصحة هذه النظرية فلك الحق في ذلك، فلم يجد العلم دليل قاطع بل هي شواهد نظرية من نظريات اخرى ونحن متأكدون من أن العلم سيصل يوماً ما للحقائق من خلال تتبع المنهج العلمى السليم والجهد المستمر.
المصادر
Alan H. Guth, “Inflation and the New Era of High-Precision Cosmology“, mit physics annual 2002
Andrei Linde, “The Self-Reproducing Inflationary Universe“, 1998 Scientific American, Inc
Brad Lemley, Larry Fink, “Guth’s Grand Guess“, discovermagazine.com, April 01, 2002
“Planck reveals an almost perfect universe“, Europian space agency, esa.int, 21 March 2013