بريان دونينغ- لطالما كان هناك ميل لدى دعاة التاريخ البديل للاعتقاد بأنه ولسبب ما، فإن التكنلوجيا تتراجع باتجاه عكسي عبر التاريخ؛ ويزعم هؤلاء أن معارف القدماء أفضل من معارفنا الحالية. وتُعد بطارية بغداد من أبرز ما يعرضه دعاة هذا الاتجاه، البطارية في الأساس جرة من الطين يعتقد البعض أنها كانت تستخدمُ كبطارية، مما يعني أن هؤلاء القدماء قد سبقوا نظرائهم الأوربيين بقرون. نناقش اليوم ما هو أكثر من مجرد تفصيل صحة أو زيف هذا الادعاء، إذ سنعرج في نقاشنا على ظاهرة أكبر لعمليات التفكير الواهنة التي تؤدي بالكثيرين إلى اعتناق معتقدات مماثلة.

فلنلق نظرة على القطعة الأثرية الفعلية، فهي جرة من الصلصال المفخور بالنار، صغيرة جداً، يبلغ ارتفاعها حوالي 14 سنتيمتر وعرضها 8 سنتمترات تقريباً، يضيق قطرها عند نهايتها السفلى ويزداد القطر بالتدريج ليبلغ أقصاه في ثلثها الثاني، يبلغ قطر الفتحة العلوية 3 سنتميترات، لكن الجرة مكسورة عند هذهِ النقطة، لذا يحتمل أن تكون الفتحة أطول بقليل في الأصل. حول هذه الحافة المكسورة بقايا من القير الذي يُجمع من حفر القطران، مما يشير إلى أن الجزء العلوي من الجرة كان مغلقًا في الأصل. في داخل الجرة أنبوب مجوف مصنوع من صفائح نحاسية رفيعة ملفوفة بهيئة اسطوانة طولها 9 سنتيمترات ونصف، وعرضها سنتيمتران ونصف، وفي قاع الجرة صفيحة نحاسية دائرية مختومة بالقير لتُغلقها من الأسفل. تم لحم الشقوق على طول الأنبوب باستخدام خليط معدني من الرصاص والقصدير. في داخل الأنبوب مسمار حديدي يبلغ طوله 8 سنتمترات، وقد تصدأ بالكامل، في أعلى المسمار سدادة من القير تتناسب مع الأنبوب النحاسي، لذا عندما يوضع المسمار داخل الأنبوب ينغلق الأنبوب، حيث يصل المسمار إلى منتصف الأنبوب، ويبرز إلى الخارج حوالي سنتمتراً واحداً من السدادة. منذ اكتشافها بقيت بطارية بغداد في المتحف الوطني العراقي في بغداد، لكنها فقدت للأسف في العام 2003 عندما تم نهب المتحف. ولم يُعثر عليها حتى هذه الساعة.

أصبحت هذهِ القطعة الأثرية معروفة للمجتمع الأركيولوجي في عام 1938. كان فيلهلم كونيج فناناً ويعمل في قسم الآثار، مساعداً في المتحف، ثم تولى في وقت لاحق منصب مدير المتحف، وقد نشر في تلك السنة بحثًا في مجلة (Research and Progress) باللغة الألمانية بعنوان “أداة كلفانية من العصر الفرثي؟” حيث تكهن بأن الجرة يمكن أن تكون بطارية بسيطة تستخدم لطلاء القطع الفنية -العصر الفرثي دلالة على الإمبراطورية الفرثية (من 150 قبل الميلاد – 223 م) وقد عُثر على البطارية في قرية خوجوت رابه، جنوب شرق بغداد.

للأسف، لم يقدم كونيج معلومات دقيقة حول أصل البرطمان، لكن لدينا بعض الأفكار عن ذلك. ليس من الواضح ما إذا كان كونيج قد حصل على الجرة من أرشيف المتحف أو أن الحفريات قد حدثت في عام 1936 في قرية خوجوت رابه، أم هل كانت من اكتشافاته الشخصية. ليس من الواضح أيضًا عدد الجرار التي تم العثور عليها، لكن بطارية بغداد تشبه الجرار المستردة الأخرى من أراضي تلك المنطقة، وما من غموض فعلي بشأنها. لم يتم تحديد أصلها التاريخي بدقة، ولكن من حيث السياق، يتفق علماء الآثار الحديث على أن الجرار تعود بوقت ما خلال الفترة الفرثية أو الفترة التالية من الإمبراطورية الساسانية. وبالتالي فإن عمرها يتراوح بين 1300 و2200 سنة، أي قبل قرون من تصميم البطاريات الأولى حوالي عام 1800م.

في أرشيف المتحف توجد كذلك -أو كانت توجد- اسطوانات نحاسية أخرى مماثلة. يحوي العديد من تلك الأسطوانات على أجزاء من ورق البردي المتحلل منذ فترة طويلة، مما يشير إلى أنها قد استخدمت لتخزين لفائف البردي وحمايتها من التلف. يتم لف ورق البردي حول مسمار من الخشب أو الحديد، ثم ينزلق داخل أنبوب نحاسي للتخزين. لاحظ كونيج ذلك في ورقته، مشيراً إلى أن عدداً من الأسطوانات النحاسية المستخرجة من حفريات تمت في مدن أخرى كانت تحتوي على بقايا من لفافات البردي، وقد استخدمت في بعض المواقع قوارير زجاجية عوضاً عن الأسطوانات النحاسية، واضح أن كونيج كانت لديه الكثير من المعلومات تحت تصرفه ليُدرك الاستخدام الحقيقي لهذه الأسطوانات. ومع ذلك، ولأسباب غير واضحة افترض كونيج أنه ربما تم استخدام هذه الجرة بعينها كبطارية، وكتب بحثه من هذا المنظور. وقد قام ببناء نموذجه الخاص من الجرة، ونجح في الحصول على فولتية صغيرة منها، وذلك عن طريق إضافة نقطة اغلاق للدائرة الكهربائية، وأسلاك – والأهم من ذلك – محلول كهربي. ومع ذلك، كانت الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق، ولم يتم إيلاء اهتمام كبير لورقته التي تشير إلى استخدام بديل محتمل لأسطوانة نقل المخطوطات.

بقيت الجرة يلفها الغموض نسبياً حتى ذكرها كاتب ألماني آخر- وهو إريك فون دنكن – في لمحة خاطفة في العام 1968 في كتابه “عربات الآلهة؟”Chariots of the Gods، الذي عرض صورة واحدة للمسمار الحديدي، معلقاً على الصورة “تم التعرف على بقايا بطارية كهربائية.” كما نعرف فقد أطلق هذا الكتاب نوعاً جديداً من الهوس برواد الفضاء القدماء والتاريخ البديل، دعاة التاريخ البديل لازالوا يبنون ويختبرون نسخ متماثلة من بطاريات بغداد منذ ذلك الحين. كانت الغالبية العظمى من المقالات المكتوبة حول هذهِ القطع الأثرية تدور في فلك رواد الفضاء القدماء، وقد اعتمدت النسخ واللصق من بعضها البعض، مستشهدة ببعضها البعض كسلطة فكرية لا تكترث بآراء علماء الآثار؛ والنتيجة الطبيعية هي تراكم مجموعة من الأدبيات حول بطارية بغداد متناقضة وتفتقر للدقة ومنحازة بشدة ومتحيزة بشدة لفكرة التاريخ البديل.

الحصول على فولتية من شيء مثل بطارية بغداد أمر سهل للغاية، لأن البطارية الكهربائية أساساً لا تتطلب صناعتها الكثير. كل ما تحتاجه وجود نوعان مختلفان من المعدن، وعند وضعهما في سائل كهربي، فإن التيار الكهربائي سيتدفق من قطعة معدنية إلى أخرى. السوائل الحمضية الشائعة مثل عصير الحمضيات أو النبيذ أو الخل يمكن أن تفي بهذا الغرض. قرش ونيكل في وعاء من الخل ينتجان الكهرباء، بل وحتى حبة البطاطس التي تُثقب بمسمار وقرش صغير محشور فيها ستعمل، كما جرب الكثير منا في المدرسة. حتى برنامج (Myth busters) قاموا بتقليد بطارية بغداد ونجحوا بالحصول على الكهرباء. البطارية الكهربائية البسيطة سهلة يمكن تصنيعها من أي شيء.

خمّن كونيج أن من الممكن أن تكون البطارية قد استخدمت لطلاء المجوهرات أو القطع الفنية، وهي في الواقع ليست فرضية سيئة جداً، فقد كان التذهيب معروفًا بالفعل في العالم في العصر الفرثي. ومع ذلك، فنحن نعرف كيف كان يتم ذلك بطريقة لا تشبه طريقة كونيج. تُسمى التقنية التي كانت تستخدم في حينها التذهيب بالزئبق (أو التذهيب بالنار). الوصف المختصر لهذه العملية هو أن الذهب أو الفضة المذابة في الزئبق توضع على القطعة المراد طلائها، ثم تُسخن القطعة ليتطاير الزئبق، بينما يبقى المعدن الثمين على القطعة. من السهل التحقق اليوم فيما لو كانت هذهِ الطريقة قد استخدمت لطلاء قطعة معينة، إذ تبقى على القطعة آثار كبيرة للزئبق، وبقايا كيماويات أخرى. جميع الأشياء المذهبة من تلك الفترة استخدمت فيها هذه الطريقة؛ لم يتم العثور على أي قطعة يحتمل أن يكون قد تم طلائها بالكهرباء.

توصل مؤلفون آخرون إلى أن استخدامات أخرى محتملة للبطارية، أحد الاقتراحات أن البطارية ربما كان يتم توصيلها بتمثال ديني، وعندما يلمسها المصلي، يصاب بشرارة صدمة كهربائية تمثل قوة الإله. فكرة أخرى أنها استخدمت لعمل صدمات تساعد في تخفيف الألم، أو ربما استُخدمت في شكل مبكر من أشكال الوخز بالإبر الكهربائية.

ومع ذلك، نجد أنه من السهل نسبيًا رفض جميع الاستخدامات المحتملة للبطارية الفرثية، لأن بوسعنا العودة إلى خصائص الجرة بسرعة لتحديد أن ذلك أسوأ استخدام ممكن للبطارية. دعونا نلقي نظرة على ثلاث نقاط فقط:

  1. استخدام الجرة كبطارية، لا يمكن أبداً أن يستمر طويلاً، إذ سيتعين استبدال المحلول الكهربي طوال الوقت. ومع ذلك، نجد أن الأسطوانة مغلقة بالقير، وهي مادة تتأثر بالحرارة، مما يجعل الأسطوانة غير ملائمة لاستبدال المحلول بشكل سلس.
  2. تفتقر الجرة إلى دائرة كهربائية. تحتاج البطارية إلى طرف موجب وسالب، يمكن ربطهما بالأسلاك لاستخدامها كبطارية، ولكن في حالة الجرة ستكون الأقطاب تحت مستوى السائل ولا يمكن الوصول إليها بسبب ختمها بالقير.
  3. لم يتم العثور على أي أسلاك موصلة على الإطلاق، ولا أي شيء يشير إلى معرفة القدماء بالأسلاك. لا توجد طريقة لإخراج التيار الكهربائي من البطارية من غير أسلاك، كجهاز يعمل بالطاقة النظرية.

بعيداً عن ذلك، لم يتم العثور على أي تطورات طرأ على البطارية أو تحسين بمرور الوقت؛ لو كانت الجرة بطارية بالفعل، أنها معزولة عن أي سياق في السجلات الأثرية والتاريخية، والتاريخ لا يعمل على هذهِ الشاكلة. لا يوجد في التاريخ مثال على اختراع ثوري مماثل تم التخلص منه على حين غرة، ومحوه من السجلات التاريخية ومن أي استخدام.

ومع ذلك، فكل هذه الإشارات حول عدم ملاءمتها للاستخدام كبطارية ليست هي الحجة الرئيسية ضد بطارية بغداد. أفضل سبب لاعتبار الجرة كانت تستخدم كأسطوانة لحفظ المخطوطات، مثلما يرى علماء الآثار لأن ما من سبب أساساً للتفكير بأنها شيء آخر. كل شيء تقريبا يمكن إعادة استخدامه. يمكنك قلب وعاء الزهور رأسًا على عقب وارتدائه كخوذة. يمكنك أن تشرب باستخدام حذاء، يمكنك ملء حبات جوز الهند بالدوائر الإلكترونية وتحويلها إلى محطة راديو، تلك حقيقة فعلية فكل شيء يمكن استخدامه كشيء آخر، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن هذا هو استخدامه الفعلي. كتب الكيميائي وأخصائي الصيانة في المتحف جيرهارد إيجرت في مجلة (Skeptical Inquirer) في عام 1996:

“كما هو الحال دائمًا في علم الآثار التجريبي، يمكن للتجارب الناجحة أن تظهر تقنيات قديمة محتملة، لكن ليس من الضروري أن تكون تلك التقنيات قد استخدمت بالفعل. على سبيل المثال، أظهر ثور هايردال في رحلته (رع) أنه من حيث المبدأ يمكن عبور المحيط الأطلسي في قارب مصري. لكن لقبول المزاعم التي تريد التأكيد بأن المصريين القدماء فعلوا ذلك حقًا، سيحتاج المرء إلى أدلة أثرية من أمريكا نفسها.”

لا يوجد دليل مثل هذا. لذا وعلى الرغم من أن رحلة هايردال شكلت سبقاً كبيراً لمجلة ناشونال جيوغرافيك إلا أنها لم تقنع المؤرخين بتحويل تاريخ الأميركتين؛ تمامًا مثلما لم ينفع الاستدلال بإمكانية صنع بطارية من حافظات اللفائف القديمة إلى إقناع المؤرخين بقلب تاريخ العلم.

ببساطة مطلقة، ما من سبب واحد لاعتبار بطارية بغداد بطارية فعلاً. يكاد يكون من المؤكد أنها مجرد جرة أخرى لحفظ لفائف البردي مثلها مثل أي جرة أخرى، بالطبع لا يمكننا الجزم بذلك بشكل قاطع، لكنها بالتأكيد الفرضية الصفرية. لا يتعارض وصف الجرة كبطارية مع تفاصيل تصميمها فحسب، لكنه يناقض السياق التاريخي وبشكل جذري. ضع في اعتبارك جميع القطع الأثرية المتنوعة من جميع الثقافات، التي تعود لفترات زمنية متباينة، من شتى أرجاء العالم، كل شيء من اللقى من الدروع إلى القطع الفنية، والآلات والأدوات الطبية، ملايين الأشياء ذات الأوصاف التي لا يمكن فهمها. وأحسب في كل ذلك، كم عدد الأشياء التي تحتوي على نوعين من المعدن، ويمكن أن تُستخدم كبطارية؟ آلاف؟ عشرات الآلاف؟ هل يجب أن نعلن كل تلك الأدوات على أنها بطاريات قديمة، أم أن بطارية بغداد ليست أكثر من مثال حالم للمتحمسين للتاريخ البديل؟

المصدر:

Brian Dunning, “Draining the Baghdad Battery“, skeptoid.com, Skeptoid Podcast #640, September 11, 2018