يمتلك جوردان بيترسون شهرة واسعة، لكن لماذا؟ هل لأنه أكاديمي؟ أم لأنه حكيم عارف بالحياة وشؤونها؟ أم لسبب اعتباطي لا يستوجب له أي تقدير ومكانة استثنائية. في الحقيقة إن لجوردان بيترسون وجوه عديدة ويبدو أنها تبرر بعضها الآخر بشكل شبيه بالخداع.
الجواب على السؤال السابق من معظم متابعي بيترسون سيكون هو لأن بيترسون أكاديمي استثنائي. ولكن هل تعرف يا عزيزي المتابع أي أكاديميين حتى تقرر أن بيترسون استثنائي؟ هل تستطيع ذكر بضعة أكاديميين من علم النفس قبل أن تقرر أن بيترسون هو النافذة لعلم النفس؟ ربما تستطيع وربما تعرف بيترسون الأكاديمي. لكن في الحقيقة إن بيترسون ليس مشهوراً في الإعلام لأنه أكاديمي. بل أن الأكاديمي بيترسون صار أكاديمياً لامعاً بفضل الشهرة.
يمكنكم الدخول لصفحة جوجل الباحث، وهي من الصفحات البسيطة والجيدة جداً لإعطاء نبذة عن أكاديمي معين دون التعمق بأبحاثه. ثم طباعة اسم جوردان بيترسون بالانجليزية (Jordan B Peterson) وستظهر صفحة بيترسون الأكاديمي. يتضح أن أعلى أبحاثه استشهاداً معنون بـ “Between facets and domains: 10 aspects of the big five” (بين الأوجه والمحاور: عشرة أبعاد للخمسة الكبار). لا تقلق هذا ليس علماً زائفاً، رغم أنه ليس علماً صلباً جداً، فالخمسة الكبار هي إحدى التصنيفات الأكاديمية في دراسة الشخصية لخمسة أنواع من الخصال. هناك قلة ممن يعرفون أن بيترسون لديه فيديوهات قديمة لمحاضرات لم تكن لها مشاهدات عالية قبل عام 2016 وكان يتطرق فيها إلىفيظ شرح هذه المواضيع.
كانت الورقة التي ساهم فيها بيترسون وتظهر الأولى في نتائج البحث ذات أهمية في دراسة الشخصية حيث ربطت بين خصائص جينية ودماغية مع الخصال الخمس. غير أن الباحث الرئيسي في ذلك البحث لم يكن بيترسون بل كولين ديونغ (Colin G. DeYoung). وديونغ استمر في أبحاث مشابهة في حين أن هذا البحث لا يمثل طابع بيترسون واهتماماته. لو شاهدنا بروفايل ديونغ في جوجل للباحثين سنجد في الحقيقة أن ديونغ أكثر أهمية من بيترسون من حيث ما قدمه من أبحاث ودون أي مسببات إضافية للشهرة الاكاديمية. هل تعرف ديونغ؟ كم منا سمع بأي باحث آخر في علم النفس ممن لهم أكثر من 20 ألف اقتباس لأبحاثهم مثل ديونغ وبيترسون؟
في الحقيقة يمكنك الانتباه لأمر آخر يقدمه جوجل الباحث من إحصائيات حول بحوث الباحث. حين الضغط على أي من الأبحاث سيظهر عدد الاستشهادات لكل سنة. بذلك يمكن معرفة تحقيق أحد الأبحاث أثره في الجانب الاكاديمي من خلال استعانة باحثين آخرين بنتائجه. يمكن للسنوات في نفس الوقت أن ترينا متى زادت أو قلت تلك الاستشهادات لكل بحث. نلاحظ هنا أن بيترسون كان باحثاً مغموراً، على الأقل لو أخذنا عدد استشهادات أبحاثه، قبل العام 2016. ماذا حدث في حياة بيترسون في العام 2016؟ في علم النفس الذي تزيد في الاستشهادات (citations) للأوراق البحثية بخمسة مرات عن المجالات الأخرى في العلم ويزيد عدد الأوراق المنشورة على الأقل بالضعف عن أي مجال علمي آخر يمكن اعتبار بيترسون الأكاديمي قبل عام 2016 باحث غير هام[1]. يمكنك الرجوع إلى الرابط السابق لقراءة قائمة بأفضل علماء النفس بالاستناد على عدد الاستشهادات في أبحاثهم. إذا عرفت كثيراً من الأسماء هناك فربما أنت ممن يعرفون بيترسون لأنه أكاديمي، لأن تسلسل بيترسون ضمن تلك القائمة هو 3537 (حتى لحظة كتابة المقال) من قائمة تضم أكثر من 9000 عالم نفس. على الأرجح لن يكون بيترسون ضمن القائمة حتى لو لم يكن ما حدث عام 2016.
بالطبع لا يمكن وزن الأشخاص بهذه الأرقام، لكن في الواقع إن الحسابات البسيطة قد تكون مبهرة أحياناً وواضحة جداً في قياس بعض الأمور. يعتمد العلم في تقييم الدوريات البحثية وتقييمها مقياساً مشابهاً قائماً على الاستشهادات فقط وهو معامل التأثير.
في الحقيقة إن بيترسون أكاديمي مشهور لأنه صار مشهوراً لسبب اعتباطي مرتبط بتصريح بيترسون الذي أثاره الإعلام عام 2016 حول قضية الضمائر. ظهر بيترسون حينها كالنبي لجموع كبيرة من طبقات اجتماعية أمريكية تكاد تفتقر لصوت مثقف واحد يمثلها من اليمينيين. بيترسون كان كالأعور بين العميان بين هؤلاء. ومن هنا بعد أن ساعدت الصدفة بيترسون أن يكون مشهوراً فقد صار أكاديمياً هاماً وبدأت بحوثه تنال استشهادات أكثر. ومن هنا ظهر بيترسون النبي، الحكيم، الغورو، أو فقط الخطيب. وبيترسون الخطيب هذا لا يتكلم بما كان الأكاديمي قد عمل فيه، فضلاً عن عدم وجود علاقة بين بعض ما يطرحه وبين ما يفترض أنه متخصص به. لا يعني هذا أننا نسكت بيترسون لأنه غير مختص بالاقتصاد أو السياسة أو شؤون أخرى في الطب وعلم النفس، غير أنه لا يشترط به أن يحصل على حصانته الأكاديمية في محافله وندواته التي يبيع تذاكرها بأسعار مرتفعة. التذاكر والكتب هذه لا يبيعها الدكتور جوردان بيترسون بل الرجل الذي أعترض على قضية الضمائر ومجده وخلده جانب من الإعلام الأمريكي والغربي بشكل عام.
بالطبع نحن لا نقترح أن بيترسون التاجر، الوجه الآخر لبيترسون، قد يغير توجهاته بالضرورة وفقاً للجهة الممولة له. رغم أن رسالته للمسلمين التي يرى البعض أنها حطمت صورته في ذلك الجزء من العالم كانت قد جاءت بشكل استثنائي لأول مرة بعد أسبوعين من توقيعه العقد مع مؤسسة يمتلكها بين شابيرو وبعد أن كان اهتمامه بالعالم الإسلامي والإسلام نادراً ومعرفته به قليلة. هل فعل ذلك لأن بين شابيرو لديه “اهتمام” بالموضوع؟ (إقرأ: بين شابيرو: لماذا يحمي اليسار الإسلام). هل يفعل بيترسون الأمر ذاته في قضايا أخرى وفق ما تمليه المصالح المالية؟ يمكن أن نطرح هذا التساؤل حول بيترسون الحكيم، لكن ليس حول بيترسون الأكاديمي فهو تقريباً لم يعد موجوداً.
بالعودة للملف الأكاديمي لجوردان بيترسون نرى أن أعماله الأكاديمية في العام 2024 منعدمة، وكذلك الحال في العام 2023 حيث أن هناك مقال عن إحدى محاضراته فقط، وفي 2022 كان هناك مقال بالإيطالية عن كتابه. في العام 2021 أصدر بيترسون كتابه الشهير “ما وراء النظام: 12 قاعدة للحياة” والذي من الواضح أنه ليس كتاباً أكاديمياً. نجد في العام 2020 آخر الأعمال الأكاديمية التي يظهر فيها اسم بيترسون وهو ليس الباحث الرئيسي. في 2019 تكاد تخلو الساحة أيضاً من أي نتاجات اكاديمية سوى نواتج صراع بيترسون مع الصوابية السياسية، الذي وضعه تحت الأضواء لأول مرة عام 2016 على سبيل المثال نشر له في ناشونال بوست عام 2019 مقال بعنوان “لا مكان لسياسات الجندر في الصف” كما خاض مناظرة حصلت على أكثر من 4 ملايين مشاهدة في يوتيوب (هل هذا مهم؟): السعادة بين الرأسمالية والماركسية مع سلافوي جيجك.
لم يكن بيترسون في بداية حياته الأكاديمية شخصاً ذو نتاج هام يقدره المجتمع الأكاديمي حتى أصبح مشهوراً في الإعلام، لينال الشهرة في العالم الأكاديمي كنتيجة (للأسف). بدأ بيترسون حياته الأكاديمية مع استاذه روبيرت أو بيهيل (Robert O. Pihl) في نهاية الثمانينات من القرن العشرين ثم إستمر في نطاق العمل الذي يختص به بيهيل وهو الكحول والعدائية حتى عام 1997. تفرع اهتمام بيترسون حول صفات الشخصية وأثرها في التعرض لإدمان الكحول وهو عنوان رسالته. كما أنه شارك بدراسات حول وراثة الصفات الشخصية. في العام 1999 قدم بيترسون كتابه خرائط المعنى وهو نتاجه الأهم قبل عصر الشهرة. حصل كتاب بيترسون على 186 استشهاد بحدود العام 2017، لكنه حصل على أكثر من 700 استشهاد بعد العام 2018. حتى نوضح نوعية ما ورد في كتاب خرائط المعنى يمكن أن نقرأ الآتي وهو مما اقتبسه مايكل شيرمر في محاولته لفهم، نقد أو شرح الكتاب:
تجهض الأم العظيمة الأطفال، جنين ميت؛ يتناسل الطاعون، ويحل الوباء؛ تصنع من الجمجمة شيئاً قاهراً بشكل مريع، وهي كلها جماجم ذاتها. لكشفها مخاطرة بالجنون، للتحديق بالهاوية، لضلال الطريق، لذكرى الصدمة المكبوتة. إنها المعتدية على الأطفال، الغوليم، البعبع، وحش المستنقع، الزومبي الشاحب الذي يهدد الحياة. إنها سلف الشيطان، والابن الغريب للفوضى. إنها الأفعى، حواء، المرض الأزلي، آفة الجراد، سبب الجفاف، الماء السام. إنها تستخدم المتعة الجنسية كفخ لتبقي العالم حياً ويتكاثر؛ إنها وحش قوطي يتغذى من دماء الأحياء.
يذكر شيرمر أن بيترسون قال عن كتابه لاحقاً في لقاء صحفي “لا أعتقد أن الناس فهموا الكتاب، ولا زلت أرى أنهم لا يفهمونه”. نترك الحكم للقارئ حول نص كهذا إن كان فيه أي قيمة ظاهرة.
حين النظر إلى مقدار الاهتمام الذي ناله بيترسون كباحث تعد الأعوام 2019-2023 هي أعوام الذروة له من حيث عدد الاستشهادات. لكنه يكاد لم ينتج شيئاً فيها. ينقلنا هذا لحقيقة مثيرة للإهتمام ومؤسفة في ذات الوقت، وهي أن بيترسون الاكاديمي نال الاهتمام وصار بمركزه الحالي (الذي لا يعد متميزاً رغم التحفيز الكبير الحاصل عليه من الشهرة)، فقط لأنه صار مشهوراً، وأنه صار مشهوراً فقط لموقفه ونقاشاته حول الصوابية السياسية. حتى كتب بيترسون الأكثر شهرة كانت قد جاءت عقب ما حصل عليه بيترسون من شهرة إعلامية وليست السبب المباشر فيها. 12 قاعدة في الحياة صدر عام 2018 والآخر عام 2021. وهذه الكتب ليست من العلم في شيء بل هي كتب للتنمية الذاتية. إن بيترسون صار أكاديمياً ناجحاً لأنه صار مشهوراً وهو يديم شهرته بسلطته العلمية التي تدر مردوداً على كونه أكاديمياً، غير أن الشخصيتان لا تنتميان لبعضهما. لكن لماذا يجب أن نفكك بيترسون بهذا الشكل؟
إن جوردان بيترسون في الحقيقة لا يستحق المكانة التي حصل عليها. وهو في الحقيقة مسموع لأنه مشهور ومشهور لسبب قد لا يمت بصلة لاستماعك لبيترسون. بنفس الهيئة، قد لا تهتم لسماع شخص أكاديمي ومنحه الشهرة لأن له رأي معاكس لبيترسون حول القضايا الإعلامية في الغرب مثل الضمائر والتحول الجنسي والاجهاض. ليس لدى بيترسون نتاج ثمين وهو ليس عالماً لامعاً كما أنه لم يعد يقدم حتى الشيء اليسير مما في جعبته الأكاديمية. أنت لا تستمع للدكتور جوردان بيترسون. الاسوء من ذلك أن شهرة بيترسون مكنته من الادلاء بآراء سياسية أو من إعطاء المزيد من الشرعية والشهرة لأصوات أشخاص يقابلهم بعضهم يمتلكون أجندات وأفكار خطيرة. اذا كنت تستمع لبيترسون كمعلم للتنمية الذاتية فقد لا يضرك الكثير من الاستماع له. غير أن الوجه الأخطر من هذا يبقى في كون بيترسون أشبه بمرشد أعلى لتيار سياسي فضفاض. إنه المرشد الروحي لحركات معينة قد لا تكون الأكثر سلمية في نزعاتها.
مصادر
Robert Pihl, Wikipedia
Colin DeYoung, Google Scholar
Radosic, Nina, and Ed Diener. “Citation metrics in psychological science.” Perspectives on Psychological Science 16.6 (2021): 1270-1280.
Michael Shermer, HAVE ARCHETYPE — WILL TRAVEL: THE JORDAN PETERSON PHENOMENON, Skeptic.com
Peterson, Jordan B. Maps of meaning: The architecture of belief. Routledge, 2002.
Scientists rankings, Research.com