(في الصورة يظهر العالم بيرند هينريخ)
إن ذلك الطائر الأسود الذي نراه كثيراً حيثما عشنا والذي يراه البعض موضعاً للشؤم وغيرها من الخرافات، قد لا يكون جزءاً مملاً من مشهد الطبيعة المحيطة بنا. دراسته قد تبدو مثيرة لبعض العلماء أكثر من غيره من الطيور، وهذا ما حدث مع بريند هنريخ الذي نقلنا عبر كتابه (عقل الغراب) إلى جولة مشوقة وغنية بتوثيقه لتجاربه الكثيرة حول الغربان وتحديداً الغداف (raven) والتي سنحاول أن نعرض شيئاً منها عبر قراءة في كتابه تتخللها محاورة وافق مشكوراً على خوضها معنا ضمن استعراضنا لكتابه.
أسئلة مثيرة للاهتمام
لدى المطلعين بشكل محدود على الأخبار العلمية والمقالات العلمية سيكون الذكاء أول صفة تتبادر للأذهان عند الحديث عن الغربان، أما بالنسبة للذين هم اقل اطلاعاً، فإن الخرافات حول شؤم الغراب تطغى على صورة ذلك الطائر. أما بالنسبة لهنريخ، فالمشهد يمثل ساحة لأسئلة مثيرة للاهتمام وهي تحتاج إلى إجابات علمية دقيقة.
وصل الغربان لنقاط معينة في تطور الذكاء كالتي وصلتها أصناف أخرى مثل الرئيسيات. وقد ساعد التطور الحديث في فهم سلوك الحيوان في فهم ودراسة هذا الأمر في العقود الأخيرة مثلما ساعد على فهم الكثير من الظواهر المدهشة لدى حيوانات أخرى. بدءاً من النحل الذي يبحث عن الطعام عبر الألوان والخصائص ويتواصل أفراده حول ذلك ويمتلكون آلية معقدة لاتخاذ القرار فيما بينهم كما أنهم يستخدمون الشمس كبوصلة لهم وهم يعملون رغم تغير زاويتها أثناء النهار، أو بعض القرود التي تمتلك معاني لنداءاتها بشكل شبيه للبشر، حتى أنهم يميلون للخداع أو الحيتان التي تغني أغاني فريدة بحسب الفصول وغيرها من الأمثلة التي يذكرها هنريخ في كتابه. باختصار حالات الذكاء لدى الحيوانات يصعب حصرها، وللغربان مكانة فريدة من بينها حيث يقول أن من بين أكثر من أربعة آلاف نوع من الطيور هناك الكثير من السلوكيات التي لا مثيل لها لدى أي طائر آخر، “يبدو أن معرفة ما في عقول الغربان قد يصل إلى اللانهائية ويبدو أن سلوكهم متفرد منذ عهد قديم، منذ أيام الصيد والجمع للبشر” هذا ما يقوله هنريخ في الفصل الأول!
وقوفاً أمام هذه النقطة، أردنا أن نعرف المحرك الأساسي لبحث كهذا، افترضنا أن دراسة وعي الحيوانات له صلة بشكل ما بدراسة الوعي لدى البشر وفهم عقول البشر أو بالخروج لنظرية موحدة حول الوعي، فسألنا هنريخ عن ذلك وكانت اجابته: “أنا ادرس الحشرات بشكل أساسي، لكن كان لدي سؤال طرحته في كتابي (الغربان في الشتاء) وهذا السؤال قادني للمزيد من الأسئلة، ليس للأمر أي صلة بالبشر أو المقارنة مع البشر ولست مهتماً بالمقارنة مع البشر والسلوك البشري كما لو أردت أن أفعل مع سلوك الفأر أو الفيل. ما قادني كان الفضول العلمي فحسب. أيضاً فأنا لست مهتماً بـ “نظرية موحدة” حول الوعي حيث أنني لا أميل الى التكهنات كثيراً. هذه “النظريات” ليست سوى أفكار”. فهمنا بذلك، أن ربط البحث العلمي بالبشر أو بالغايات العليا المتعلقة بالبشر ليس بالضرورة ما يسعى إليه العلماء، فالفضول العلمي لوحده كان الدافع لهنريخ.
كيف تُدرس الغربان؟
يداهم المشهد الهادئ هنريخ وهو يقول أنه يتسلق شجرة! عالم يتسلق شجرة؟ نعم، ليس هناك حدود لما يُمكن أن يقوم به العلماء وقد تعرض بعض العلماء لإصابات بالغة ومات بعضهم وهم يقومون بمهام بحثية كهذه. يتسلق هنريخ الأشجار في الفجر، يراقب الأعشاش عن كثب، يلاحظ محتويات الأعشاش وغير ذلك. هذا هو ما يتضمنه مجال علم الأحياء الميداني حيث يتواجد العلماء في ميدان العمل، وميدان عملهم هنا هو بيئة الحيوانات الأصلية. لكن ليس هذا فقط هو ما يقوم به هنريخ.
تربية الغراب مثلما يربي البعض القطط والكلاب هو جزء من المهمة، يسمى الشخص هنا بـ “الأب” للغربان، فالدور الذي يقوم به الشخص المربي لهم يشبه دور والديهم. يحتاج صغار الغربان لعناية خاصة فهم يتناولون الطعام كل بضعة ساعات، ويتشكل غذائهم بنسبة 50% من البروتينات التي تتألف من الفئران، السناجب، الضفادع، الدجاج، البيض وغير ذلك. كما يحتاجون لرؤية والدهم باستمرار للتعرف عليه والتآلف معه.
تنتقل الدراسة بعدها إلى أطوار متعددة، فيُمكن للعالم أن يقوم بإجراء التجارب على الغربان الذين قام بتربيتهم، ليس جميع التجارب بالتأكيد، فبعضها يتطلب طائراً برياً. كثير من التجارب الواردة في الكتاب أجريت على أربعة غربان ذكرهم هينريخ في بداية الكتاب وكان قد شرع بتربيتهم منذ الصغر وهم ليسوا المجموعة الوحيدة التي درسها.
النوع الآخر من الدراسات يتم عبر أجهزة التعقب، حيث يتم الإمساك بغربان برية ووضع أجهزة تعقب فيها ثم تركها تطير وتتم مراقبة موقعها وسماع اصواتها بعد ذلك عبر الموجات الراديوية. بهذه الطريقة يُمكن مراقبة مسارات الطيور وسلوكها الاجتماعي وانماط التعاون بينها.
كثير من القضايا تظهر في الكتاب بخلاف ما نتوقعها، فنحن نرى الغربان في مجموعات، لكن بالتجارب نرى أنها تتجمع لأغراض محددة وتفترق لأغراض محددة ولا يدوم تجمعها لفترات طويلة.
الغربان كحيوانات أليفة هي أيضاً جانب آخر مما يدرسه هينريخ ويذكره في كتابه وهذا يمثل عنصراً هاماً من دراسة سلوك الغراب. يصف أفراد العوائل التي تربي الغراب بأنه إبن أو فرد من العائلة وليس حيواناً أليفاً فحسب، لديه إشاراته الخاصة التي يبعثها لهم ليطلب أشياء معينة أو يطلب المزيد من أشياء معينة، ليس مخرباً بالضرورة كما عهدناه بل هو فضولي ويهتم بما هو جديد كما يهتم بأشكال محددة.
هناك عقبات كثيرة تواجه دراسة الغربان، حيث أن قوة ملاحظة هذه الطيور تحتم على العالم أن يخفي نفسه إلى أقصى حد بينما ينصب فخاً أو يضع طريدة أو يراقب عن بعد، وإلا فإن السلوك نحو الحذر الشديد أو الهرب، في إحدى التجارب هرب الغراب فقط لإنه لمح انعكاس الضوء على عدسة الناظور من بعيد. ومن المصاعب أيضاً أن بعض التجارب قد تفشل إذا ما تعرض المستهدفون من التجربة للافتراس، وهذا ما حدث مع 6 غربان صغار وضعت عليهم الأجهزة الراديوية لمراقبتهم ثم قتلوا جميعاً على أيدي المفترسين. كما أن الإمساك بالغربان بحد ذاته هو مهمة شاقة قد تطول أشهراً.
ليست هذه هي الطرق الوحيدة لدراسة الغربان، ففضلاً عن المراقبة بمختلف أشكالها، هناك الكثير من الدراسات المختبرية والدراسات التي تتم على الدماغ حتى، لكن معظم ما يتطرق إليه الكتاب يدور حول طرق الدراسة المتبعة في علم الأحياء الميداني.
تجارب مثيرة للاهتمام ولكن..
نحن نبحث عن الإثارة، عن حالة متطرفة في الذكاء أو الطيبة أو النبل، نحاول أن نحمل القضايا مفاهيماً إنسانية وأن نضعها بشكل ما بقالب بشري لكي نجعلها مثيرة أكثر أو لأننا نراها هكذا من منظورنا فحسب. كان لنا مع بيرند هنريخ درس مهم حول هذه القضية ولعل هذا الدرس مثير للاهتمام بقدر القصص المحملة بالمفاهيم والمشاعر البشرية التي نحاول إضفاءها وقد كان حول تجربة الكذب (أو ما نراه نحن كذباً) ومع تجارب أخرى نجد فيها هنريخ يبدد الاحتمالية المثيرة للاهتمام بفرضيات عديدة تفقد القصة لذتها للمستمع لكنها تحفظ للعلم منهجه في نفس الوقت.
درس هنريخ سلوك التخزين لدى الغربان، وهو ذات السلوك الذي يُلصق تهمة السرقة بالغربان حيث تقول الاشاعات التقليدية أن الغربان يسرقون الأشياء ويخبؤونها. في الواقع يقوم الغربان عادة بتقسيم الطعام الذي يحصلون عليه في مخابئ عدة ويمتلكون القدرة على معرفة جميع المخابئ التي قاموا بإعدادها لاحقاً بمهارة فريدة من نوعها. لكن الأكثر اثارة للإهتمام كان أن بعض الغربان يصنعون مخابئ زائفة عندما يكونون تحت المراقبة من غربان آخرين. فهل يكذب الغربان؟ لقد قاموا بإيصال معلومة خاطئة لطرف آخر بهدف جعله يستثمر جهداً في أمر لن يحصل منه على شيء وبذلك يكونون قد حققوا مكسباً، هل هذا هو ما جرى؟
في معظم التجارب في الكتاب لا يتوقف هنريخ عند الفرضية المثيرة للإهتمام، بل يحاول تخطئتها (مبدأ التخطئة لكارل بوبر)، ويحاول إيجاد الفرضية الأبسط (موس أوكام). وفي أحيان كثيرة لا يتوقف عند فرضية محددة بل يترك السؤال مفتوحاً. حول سلوك الكذب هذا وضع هنريخ فرضية أخرى بديلة بأن الغربان قد يكونون في حالة من اللعب فحسب دون نية مسبقة للكذب، لكننا سألناه بالتحديد حول هذا الأمر فقال: “الكذب مصطلح محمل بالمشاعر، لا يُمكن أن نقارن الأمور بالبشر. لكن نعم، الغربان مدركون لنوايا الطرف الآخر، ويتصرفون وفقاً لها، وهم يتصرفون بالشكل الأمثل لتشتيت الآخرين عن الوصول إلى طعامهم”.
في أحيان أخرى كانت التجارب تبدد تلك الإثارة تلقائياً، فمثلاً حول سلوكيات السرقة والاهتمام بأجسام معينة تجعلنا نظن أن الغربان يسرقون الأشياء الثمينة كالذهب، وجد هنريخ أن للغربان اهتمام بأشكال معينة لعلها تقترب بالشكل من البيض، إنهم ماهرون جداً في تمييز البيض حتى أنهم قادرون على تمييز أصناف من البيض تختلف بمقدار بسيط في اللون والحجم عن بيوضهم فهم لا يأكلون بيوضهم بينما تكون بيوض الطيور الأخرى طعاماً مفضلاً لهم كالحمام والدجاج. أيضاً، فإن اهتمام الغربان بالأجسام الغريبة يزداد مع جوعهم ويقل مع بلوغهم. فلعله مرتبط بشكل رئيسي ببحثهم عن الطعام وعن الطعام المفضل لهم، وليس هناك أي أمر مميز (أو محمل بالمشاعر) من قبيل سرقة الذهب واللؤلؤ. سألنا هنريخ أيضاً:
هناك إشاعات كثيرة حول الغربان مثل محكمة الغربان، دفن الغربان لرفاقهم، معاونة الغربان للأضعف منهم، شخصياً لم أجد دليلاً عليها ولم أجد شيئاً من هذا في كتابك ونحن في موقعنا ندأب على تبيين الخرافات والاشاعات، فهل هناك صحة لأي من هذه الإشاعات؟ فأجاب: “ليس لدي اهتمام بأي من هذه الشائعات، الغربان يُستثارون عندما يُقتل فرد من المجموعة، في الوقت الذي قد لا تعير الحيوانات غير الاجتماعية اهتماماً لأمر كهذا، لكن أن يصل الأمر إلى دفن وجنازة؟ ليس هناك وجود لذلك”.
تجربة الوعي لدى الغربان
لم يستخدم هينريخ كلمة كبيرة مثل “الوعي” في كتابه كثيراً، رغم وضوح شغفه الشديد وتقديره للتجربة التي قام بها حول ذكاء الغربان (أو وعيهم)، لكنه استخدم هذه المصطلح في لقاءه مع مركز الأبحاث في فيرمونت (الجامعة التي يعمل فيها). وقد كانت قراءتنا للكتاب ولتجربة هاينريخ متزامنة مع تجربة أخرى نظرت إلى الوعي لدى الغربان من زاوية أخرى. يُمكننا القول أن التجربة العصبية التي أجريت مؤخراً (نشرت في الموقع العلوم الحقيقية بعنوان دراسة حول الوعي لدى الغربان) أثبتت الموضوع من أسسه العصبية، فيما أثبته هينريخ سلوكياً. لكن كيف؟
يبدو الأمر بسيطاً للغاية، تتدلى خيوط من الأعلى الى الأسفل وتتعلق فيها قطعة من اللحم، بينما يتواجد الغربان على الجذع الذي يرتبط به الخيط ويتدلى نحو الأسفل. لكن لكي يستطيع الغراب أن يحصل على قطعة اللحم فعليه أن يقوم بشد الحبل 5 مرات على الأقل وتثبيته بقدمه في كل مرة ثم إعادة الكرة مرة أخرى. أي من الغربان لم تتعرف على هذا من قبل وكان المطلوب بالتجربة أن يقوم غراب واحد على الأقل بسحب الخيط بالشكل الصحيح فالذكاء في التجارب لا يُثبت بمعدل حدوثه لدى الأفراد بل لدى فرد واحد على الأقل.
نجح الأمل، لكن الدراسة تم رفض نشرها 5 مرات في وقتها، ووصف هنريخ الأمر وكأن هناك نوع من “التابو” حول الأمر فسألناه عن الأمر وأجاب بما يلي: “لقد اثبتت قدرة الغربان على حل المشكلات ذهنياً في اختبارات كثيرة جداً لاختبار مختلف أنواع المتغيرات، وبين أفراد كثر، مع تغيير الضبط في التجارب بجميع الاتجاهات لتجاوز احتماليات التعلم أو الفطرة كبدائل أخرى للتفكير والفطنة. لكن الأمر تم الاستخفاف به من قبل الجهة الناشرة ربما لأنهم وجدوه مجرد عملية سحب للخيط بعدة خطوات للحصول على الطعام، وربما وجدوا أن التجربة تمثل نقطة تحول ثورية في المجال وتحفظوا على الموافقة. كان الأمر صعباً جداً لإثبات أمر ما يحدث داخل الدماغ، وكأنه أمرٌ طافٍ في الهواء”.
من هو بيرند هينريخ؟
ولد بيرند هينريخ في إقليم الماني ضمن بولندا الحالية وقد هُجرت عائلته بينما كانت تهرب من الاجتياح السوفيتي، ثم انتقل والده – الذي كان عالماً مختصاً بالحشرات – إلى الولايات المتحدة حيث نشأ هينريخ هناك وتخصص أيضاً بالحشرات وعرف بأنه عالم أحياء ميداني (field biologist) حيث يقضي العلماء في هذا المجال كثيراً من وقتهم في المناطق النائية وفي بيئات الكائنات الحية ويدرسون تعداد الحيوانات ومجتمعاتهم والأنظمة البيئية لهم. لهينريخ هوايات متصلة بعمله فهو يرسم رسوماً توضيحية للكائنات التي يدرسها كما أنه يتسلق الأشجار ببراعة للوصول إلى أعشاش الطيور، وهو معروف بتحطيمه رقماً قياسياً عالمياً للركض الفائق لمئة كيلومتر جري ومئة ميل..
إعداد وحوار: عمر المريواني