كان نيقولاي فافيلوف أحد هؤلاء الرواد الذين نذروا حياتهم لقضية علم الوراثة. عزز نيقولاي فافيلوف (Nikolai Vavilov) كثيراً من فهمنا لتدجين النبات وكان أيضا واحداً من مستكشفي النباتات الأكثر أهمية في العالم. فقد سافر إلى نحو 64 دولة وجمع البذور التي كانت مصادر حيوية للغذاء بالنسبة للعالم، ولروسيا. وفي حياته وحدها، قتلت ثلاثة مجاعات رهيبة في روسيا الملايين من الناس، ونذر فافيلوف حياته لإيجاد سبل لنشر المحاصيل في بلده. وكان قد بدأ بجمع البذور في عام 1916 وكان عمله يمثل مستوى عال من البحث والمثابرة. عانى فافيلوف ما كان يمكن أعتبارها خسارة ساحقة في بداية حياته المهنية. وعاد من إنجلترا أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث درس مع بعض علماء الوراثة الرائدين في العالم، مسلحاً بخزينة من عينات النباتات التي كان يخطط لاستخدامها في أبحاثه، حتى أصابت سفينته لغماً ألمانياً وغرقت. وقد فقدت جميع النباتات على إثر ذلك.
غير أن فافيلوف بدأ ببرنامج بحثي جديد، بحثاً عن أصناف المحاصيل التي كانت أقل عرضة للإصابة بمرض. وفي الوقت المناسب، جمع النباتات المدجنة من جميع أنحاء العالم، والتي أخذته في نهاية المطاف إلى الأدغال النائية والغابات والجبال بحثاً عن مناطق تولد تلك الأنواع المدجنة. كان معدل نومه أربع ساعات فقط في اليوم، وعلى ما يبدو أنه كان يستخدم الوقت الإضافي لكتابة أكثر من 350 ورقة والعديد من الكتب، وكذلك في إتقان أكثر من اثني عشر لغة. أراد أن يكون قادراً على التحدث مع المزارعين المحليين والقرويين حتى يتمكن من تعلم كل ما كانوا يعرفون عن النباتات التي كان يدرسها.
ما جمعه فافيلوف في مغامراته هي أشياء تُضاف لأسطورة، وقد بدأت من رحلة إلى إيران وأفغانستان، تلتها زيارات إلى كندا والولايات المتحدة في عام 1921؛ وإريتريا، مصر، قبرص، كريت، واليمن في عام 1926؛ والصين في عام 1929. في أول رحلة له، اعتقل على الحدود بين إيران وروسيا واتهم بأنه جاسوس، لأنه كان لديه بعض الكتب المدرسية الألمانية يحملها معه. وفي منطقة بالمر في آسيا الوسطى، تم التخلي عنه من قبل مرشده، لتتخلى قافلته عنه، وليتم مهاجمته من قبل اللصوص. وفى رحلته الى الحدود الأفغانية، عندما سقط بينما كان يتنقل بين عربتي قطار، تدلى متعلقاً بمرفقيه في الحين الذي سار فيه القطار طوال الطريق. في رحلته إلى سوريا كان قد أصيب بالملاريا والتيفوئيد، ولكنه شفي منهما. كتب أحد كتاب سيرته الذاتية عن قوته الخارقة، “لم يستطع لمدة ستة أسابيع أن يخلع معطفه. خلال النهار كان يسافر ويجمع العينات. وعندما يجيء الليل كان ينطرح الى الأرض داخل خيمة متنقلة. ورغم أن فافيلوف قد أصيب بالزحار طوال بعثته لكنه عاد مع ذلك بعدة آلاف من العينات”. في الواقع، فإنه جمع عينات نباتية حية أكثر من أي رجل أو امرأة آخرين في التاريخ، وأنشأ مئات من المحطات الميدانية لآخرين لمواصلة عمله. سمحت له مجموعته الواسعة من الأنواع النباتية بإنشاء ثمانية مراكز تدجين للنبات عالمياً. في جنوب غرب آسيا، وجنوب شرق آسيا، والبحر الأبيض المتوسط، وإثيوبيا، والحبشة، والمنطقة المكسيكية – البيروفية، وأرخبيل تشيلو (بالقرب من شيلي)، وحدود البرازيل وباراغواي، ومركز في جزيرة بالقرب من إندونيسيا.
وكان فافيلوف قد صادق بالفعل ليسينكو الشاب في العشرينيات، عندما تلقى ليسينكو إشادة وطنية لإجراء البحوث للمساعدة في زيادة غلة المحاصيل، وهي مهمة كانت ضرورية جداً لفافيلوف. لذا فإن الأخذ بادعاءات ليسينكو عن أبحاثه في تربية النباتات كانت لفافيلوف في البداية، حيث وصلت إلى حد ترشيحه لعضوية الأكاديمية الأوكرانية للعلوم. كانت ادعاءات ليسينكو حول تحسين غلة المحاصيل هي أيضاً، بشكل تراجيدي، من الأشياء التي جلبت اهتمام ستالين له (إقرأ أيضاً عن محاكمة نظريات بافلوف في الإتحاد السوفيتي).
بدأ كل ذلك عندما رفعت قيادة الحزب الشيوعي في منتصف العشرينيات عدداً من الرجال غير المتعلمين من البروليتاريا إلى مواقع السلطة في المجتمع العلمي، كجزء من برنامج لتمجيد “الرجل العادي” بعد قرون من الملكية مما أدى إلى استمرار الانقسامات الطبقية الواسعة بين الأثرياء والعمال والفلاحين. مشروع القانون كان مناسباً لليسينكو تماماً، لكونه قد ترعرع وسط عائلة من الفلاحين في أوكرانيا. حتى إنه لم يتعلم القراءة حتى بلوغه سن الثالثة عشرة، وليست لديه شهادة جامعية، فقد درس فيما يعرف بمدرسة البستنة، والتي منحته تدريبه الوحيد في تربية المحاصيل بعد دورة موجزة في زراعة بنجر السكر. في عام 1925، حصل على وظيفة بمستوى متوسط في مختبر غاندزا لتربية النباتات في أذربيجان، حيث كان يعمل على بذور البازلاء. أقنع ليسينكو مراسل برافدا، الذي كان يكتب بأسلوب مادح عن عجائب علماء الفلاحين، وأن العائد من محصول البازلاء كان أعلى بكثير من المتوسط، وأن تقنيته يمكن أن تساعد في إطعام بلده الجائع. ادعت المقالة البراقة التي كتبها المخبر “إن البروفيسور حافي القدمين لينيسكو يمتلك أتباعاً. . . وهو مهندس زراعي لامع. . . ويصافح بإمتنان”. كانت المقالة عبارة خيال خالص. لكنها دفعت ليسينكو ليكون محط اهتمام وطني، لدرجة حصوله على اهتمام جوزيف ستالين شخصياً.
وادعى ليسينكو بأنه أجرى مجموعة من التجارب على محاصيل الحبوب، بما في ذلك القمح والشعير، لتنتج غلات أعلى بكثير خلال فترات الطقس البارد بعد تجميد بذورها في الماء قبل الزراعة. وقال إن هذه الطريقة يمكن أن تضاعف بسرعة غلة الأراضي الزراعية في الاتحاد السوفيتي في غضون سنوات قليلة. في الحقيقة، فإن ليسينكو لم يقم بأي تجربة علمية لزيادة غلة المحاصيل. وأي “بيانات” ادعى فيها زيادة الإنتاجية كانت ببساطة بيانات ملفقة.
وبوجود ستالين كحليف له، أطلق حملة عنيفة لتشويه سمعة العمل في علم الوراثة، في جزء منه، لأن إثبات نظرية التطور الوراثي من شأنه أن يظهره كمحتال. ومن أجل إسعاد ستالين فقد أدان علماء الوراثة، في الغرب وفي الاتحاد السوفيتي على حد سواء، بصفتهم مخربين. في مؤتمر زراعي عقد في الكرملين عام 1935، عندما أنهى ليسينكو خطاباً حاداً أطلق فيه اسم “المخربين” على علماء الوراثة، وقف ستالين على قدميه صارخاً: “برافو، الرفيق ليسينكو، برافو”.
على الرغم من أنه كان قد خدع في البداية من قبل ليسينكو، لكن ومع مرور الوقت، بعد أن نظر في ادعاءات ليسينكو، أصبح فافيلوف يشك في نتائجه، وطلب من أحد طلابه إجراء البحوث لمعرفة ما إذا كان يمكن تكرار نتائج ليسينكو. في سلسلة من التجارب التي أجريت في الفترة من 1931 إلى 1935، تبين أن ادعاءات ليسينكو كانت غير مؤكدة. بعد أن كشف أن ليسينكو كان محتال، أصبح فافيلوف خصمه الجريء. وانتقاماً لذلك، منعت اللجنة المركزية لستالين في عام 1933 فافيلوف من السفر ضمن أي بعثات الى الخارج، وندد به علناً في صحيفة برافدا الناطقة بلسان الحكومة. وحذر ليسينكو فافيلوف وطالبه من انه “عندما يتم تخطئة بيانات ما وإزالتها فإن أولئك الذين فشلوا في فهم مضامينها “سيتم أيضا” إزالتهم”. إلا أن فافيلوف كان قد أستمر في معركته رغم الضغوطات، وفي عام 1939 في اجتماع لمعهد الاتحاد السوفيتي لتربية النباتات ألقى فيه فافيلوف كلمة أعلن فيها بصريح العبارة: “علينا أن نمضي وسط محارق الجثث، علينا أن نحترق، ولكننا ممنوعون من التخلي عن مبادئنا الراسخة رغم كل ذلك.” وبعدها بوقت قصير، في عام 1940، وأثناء سفر فافيلوف الى أوكرانيا، قبض عليه من قبل أربعة رجال يرتدون بدلات سوداء وألقي به في السجن في موسكو. هناك، الرجل الذي جمع 250000 عينة من النباتات المدجنة، والذي خدع الموت مراراً وتكراراً، والذي عمل على حل لغز المجاعة في وطنه، عانى المجاعة على مر ثلاثة سنوات ليموت في نهاية الأمر بسببها.
من كتاب: كيف تروض ثعلباً وتصنع كلباً، تأليف: لي دوغاكن وليودميلا تروت، ترجمة: المجتبى الوائلي