المحاكمة البافلوفية أو الجلسات البافلوفية (Pavlovian session) مثلما تُعرف، المكان: أكاديمية العلوم السوفيتية (الروسية)، التاريخ: في الثامن والعشرين من حزيران 1950 وحتى الرابع من تموز، في إسبوع سئ من أيام العلم تحت ستار الإتحاد السوفيتي. يترأس الجلسة جوزيف ستالين ذو الصيت والتاريخ الملئ بالقتل والقسوة. لكن الجلسة ليست كإحدى محاكمات التخوين التي يقودها ليعدم على اثرها بعضاً من خصومه، بل هي جلسة لمحاكمة العلم. حيث تتم محاكمة ثلاثة من طلاب عالم الفسلجة ايفان بافلوف (Ivan Pavlov) وهم ليون اوربيلي (Leon Orbeli)، اليكسي سبيرانسكي (Aleksey Speransky)، بيوتر أنوخين (Pyotr Anokhin) وايفان بيريتاشفيلي (Ivan Beritashvili) من قبل طائفة من زملائهم، والتهمة هي الخضوع للتأثيرات الغربية[1].

يُمكننا أن نعتبر إسباغ التوجهات الايديولجية على العلم كنوع من التهم التي تُقيد مسيرة العلوم وتمنع تخصصاته، كأحد أكثر التأثيرات ضراوة وخطراً على مسيرة العلم في الأنظمة الشمولية، وتلك لم تكن المرة الأولى في الإتحاد السوفيتي، إذ سبق أن قاد تروفين ليسينكو حملةَ أنتهت بخطاب حماسي قاد اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في موسكو إلى إقرار التهم التي وجهها لعلم الوراثة والتطور الدارويني ليفتتح مرحلة مظلمة ساهمت في تأخر علم الأحياء بشكل عام في الإتحاد السوفيتي حتى عام 1965 عرفت بالليسينكووية حيث كانت اللاماركية تُدرس كبديل للتطور الدارويني.

الاسلوب في المحاكمة الشهيرة كان أشبه بأساليب تنظيم متطرف، إذ تم إتهام العلماء الثلاث بالإنحراف عن آراء بافلوف وطلب منهم الإعتراف بمعاداة مبادئ بافلوف، وكأن العلم يضع للعلماء مكانة تشبه مكانة الأنبياء في الأديان بحيث أننا يجب أن نتمسك بتعاليمهم بشكلٍ ما.

افتتحت المحاكمة بخطاب لسيرغي فافيلوف (Sergey Vavilov)  رئیس الأكاديمية وهو يُذكرنا بذلك النوع من الأساتذة الذين يتخذون من العلم مهنةَ ووسيلة للحصول على الأوسمة الحكومية والأجتماعية لا كموضع للشغف والسعي لتطوير مجال معين. حمد فافيلوف ستالين وأثنى عليه ثم ذكر فضل بافلوف والنزعة المادية في نظرته إلى العقل واللغويات (موهماً المستمع بأن إكتشافات العلماء هؤلاء تطرح أمراً معاكساً) وقد وضح أن آراء بافلوف في ردود الأفعال (Reflexes) هي الطريق الحصري للفسلجة وأنهى خطابه بعبارات الثناء والتمجيد للحزب و”للزعيم” ستالين. وعلى نفس المنوال جرت الخطب لآخرين من موظفي النظام الشمولي الذين يتخذون صفة العلماء، كما أعقبت المحاكمة تعقيبات لآخرين من الحضور وكانت تتضمن المفهوم ذاته في التهجم على معارضي آراء بافلوف وهم يقصدون تلاميذه الجالسين والمتهمين بالأمر[2].

لم تسجل لنا وقائع عمل الأساتذة الثلاث خطراً على حياتهم كالإعدام، لكن شيئاً لا يقل خطورة عن الأمر كان قد حدث وليس على المستوى الشخصي ولكن على المستوى الوطني في الإتحاد السوفيتي، إذ سلك علم وظائف الأعضاء (الفسلجة) مساراً مختلفاً منذ ذلك اليوم. لم يفصل ليون اوربيلي العالم الأرمني الذي كان يُصنف كخليفة لبافلوف واستمر بعمله، لكن جلسة المحاكمة المرعبة كانت كافية لعدم تصريحه أو نشره لآراء تعارض الإصدار الذي تسمح به السلطة من العلم[3] وقد حد ذلك من ريادته في مجال كان من اوائل الأشخاص الذين برزوا به وهو الفسلجة التطورية (Evolutionary physiology).

لكن الحظ لم يحالف أنوخين فقد فصل من عمله وأبعد إلى مدينة ريازان (Ryazan) جزاءاً له على التقدم الكبير الذي أنجزه في علم الفسلجة، إذ ساهم أنوخين في إيجاد ما يُعرف بالنظام الوظائفي (Functional system) والذي يُعد حلقة للربط بين الفسلجة وعلم النفس وكجزء من مسار أستاذه بافلوف[4]، وقد لقيت نظريته الجديدة بالأخص رفضاً شديداً ومحاربة، وكانت جزءاً من أركان المحاكمة الشهيرة.

أما بيريتاشفيلي عالم الفسلجة وأحد رواد العلم وتأسيس التخصصات الاكاديمية في جورجيا، فقد عانى من عزلة لمدة خمسة سنوات اثر المحاكمة فأنقطع عن التواصل مع العلماء في العالم وعكف على أبحاثه بشكل منفصل[5] حيث صارت بحوثه المنشورة خارجياً نقطة ضعف وموضع تهديد بالنسبة له بدل أن تُصبح مقياساً للفخر والنجاح.

نتائج المحاكمة بحسب المختص بتاريخ العلم لم تكن سوى منع آراء بافلوف نفسها[6].  وضعت المحاكمة مجموعة من ألمع علماء الأعصاب ووظائف الأعضاء تحت قفص الإتهام ورغم أن السلطة لم تجردهم جميعاً من مناصبهم ولم تقيدهم جميعاً بشكل دائم وأعطت لبعضهم مناصباً ومكافآت في فترات لاحقة من حياتهم، إلا أنها كبلت التوجهات العلمية بشكل عام وجعلت من هؤلاء عبرةَ لغيرهم ممن يحاولون البحث كما يجب للبحث أن يجري[7].

ليس ذلك وحده هو ما جرى في الإتحاد السوفيتي ولا يتوقف الأمر عند جلسة محاكمة، فقد تعرض كثير من العلماء للإقصاء والتعذيب والسجن والإخفاء والاختطاف، والنفي الطويل في سيبيريا لم يكن عائقاً أمام علماء مثل ديميتري ييلاييف صاحب أطول تجربة تدجين في العالم في العمل الجبار الذي قام به حول الذئاب الرمادية والذي يعد من أكبر أعمال التطور المختبري. تعرض أساتذة لامعون أيضاً إلى التجسس والاساءة من قبل تلاميذهم الذين يمتلكون رتبة أعلى في الحزب، كما كانت المحاكمة هذه وغيرها من أعمال السلطة الشمولية في الإتحاد السوفيتي من التدخلات الفريدة من نوعها إذ يقوم شخص سياسي غير متخصص بإملاء آراءه على العالم المتخصص وتلك من أكبر النكسات التي تعرض لها العلم في القرن العشرين[7].

المصادر

[1] Crome, L. “The Pavlovian session of the soviet academies.” British medical journal 2.4787 (1952): 780.

[2] Academy of Sciences of the U. S. S. R, “Scientific Session on the Physiological Teachings of Academician Ivan P. Pavlov”, 1950

[3] Leĭbson, L. G. “Leon Abgarovich Orbeli (on the 90th anniversary of his birth).” (1972): 965-973.

[4] Egiazaryan, Galina G., and Konstantin V. Sudakov. “Theory of functional systems in the scientific school of PK Anokhin.” Journal of the History of the Neurosciences 16.1-2 (2007): 194-205.

[5] Tsagareli, Merab G. “IS Beritashvili and psychoneural integration of behavior.” Anticipation: Learning from the Past. Springer International Publishing, 2015. 395-414.

[6] Homskaya, Evgenia (2001). Alexander Romanovich Luria: a scientific biography. Springer. p. 42. ISBN 0-306-46494-2.

[7] Lavretsky, Helen. “The Russian concept of schizophrenia: A review of the literature.” Schizophrenia Bulletin 24.4 (1998): 537-557.