الأخلاقيات التطورية.. مقدمة فلسفية. بغض النظر عن أي جانب لا أخلاقي في حياتك: السرقة، الاغتصاب، الرشوة… وحتى انقطاع شبكة الإنترنت لمدة يوم كامل! تبقى أنت، كإنسان، أكثر من أي كائن آخر في شجرة الحياة مدفوعا بالكثير من المبادئ الأخلاقية، وقادرا على إدراك ما هو “خير” وما هو “شر”.

قد يستبعدُ البعض الجانب الأخلاقي من نظرية التطور مستندا إلى حقيقة أن عملية التطور لا تُدار بواسطة أية قوى عاقلة، كالانتخاب الطبيعي والطفرات. لكن ما هو رأي التطوريين في نشوء كائنات اجتماعية متميزة بالحس الأخلاقي؟ هل تستطيع نظرية التطور شرح المنظومة الأخلاقية عموما، والأخلاق البشرية خصوصا؟
لأجل هذا، سأجمع وأترجم في سلسلة قصيرة العديد من المقالات والكتب العلمية التي اهتمت بالإجابة على هذا السؤال.

المقدمة

يعرِّف قاموس أوكسفورد الأخلاق Morality بأنها “المبادئ الخاصة بالتمييز بين السلوك الصائب والخاطئ، وبين السلوك الجيد والسيء”. أو “منظومة معينة من القيم والمبادئ المتعلقة بالسلوك”. أو “الحد الفاصل بين الأفعال الصائبة والأفعال الخاطئة”.

تحاول الأخلاقيات التطورية Evolutionary Ethics أن تسد الفجوة بين الفلسفة والعلوم الطبيعية بزعمها أن الانتخاب الطبيعي غرس في الإنسان حس الأخلاق والميل لأن يكون صالحا. إذا كان هذا صحيحا، فمن الممكن فهم الأخلاق بوصفها ظاهرة نشأت تلقائيا أثناء تطور الكائنات الاجتماعية الذكية، وليست، كما يجادل رجال الدين والفلاسفة، نتيجة الوحي إلهي أو التوظيف لملكاتنا العقلية.

يمكن تفسير الأخلاق بأنها تكيُّف نافع يزيد من لياقة صاحبه بمنحه منفعة انتقائية (أن تكون كريما أو وفيا، مثلا، سيجعل لك مكانة في العشيرة، ومن ثم سيزيد من فرصك التكاثرية، التي هي حجر الأساس في عملية التطور. المترجم). وهذا هو رأي إدوارد و. ولسون، أبو علم البيولوجيا الاجتماعية، الذي اعتقد أنه “يجب على العلماء والإنسانيين أن ينتبهوا معًا إلى إمكانية إقصاء الأخلاقيات من أيدي الفلاسفة ونقلها إلى علم الأحياء” (ويلسون 1975، ص27).

التحدي الذي يواجهه علماء الأحياء التطورية هو أن يعرِّفوا الخير بالإشارة إلى نظرية التطور، ثم يشرحوا لماذا يجب على البشر أن يكونوا صالحين.

جدول المحتويات:

1- الشخصيات والمبادئ المؤثرة

أ‌. تشارلز داروين

ب‌. هربرت سبنسر

ت‌. مشكلة “حقيقة الشيء وما يجب أن يكون عليه الشيء

ث‌. المغالطة الطبيعية

ج‌. علم الأحياء الاجتماعية

2- مكانة الأخلاق التطورية في نظرية الأخلاق المعاصرة

3- المراجع

 

الشخصيات والمبادئ المؤثرة في الأخلاقيات التطورية

تشارلز داروين

بدأ إدخال الأخلاق إلى علم الأحياء عام 1871، عندما نشر تشارلز داروين (1809-1882) كتابه نشاة الإنسان The Descent of Man. في هذا الكتاب الذي تبع أصل الأنواع the Origin of Species استعمل داروين أفكاره عن عملية التطور وصولا إلى الإنسان. جادل داروين بأن الإنسان يجب أن يكون قد ترقَّى من الأشكال الأقل تعضِّيًا، من “رباعيات الأرجل المُشْعِرة ذوات الذيول… التي عاشت في العالم القديم” (داروين 1930، ص231). رأى داروين أن المشكلة الأساسية في هذه الفكرة هي الطبيعة الأخلاقية العالية التي تبدو جلية في سلوك الإنسان. ولحل هذا اللغز، خصص داروين جزءا كاملا في كتابه لشرح الحس الأخلاقي تطوُّريا، وجادل بأنه تطوَّر في مرحلتين رئيستين:

الأولى، تكمن جذور الأخلاق عند الإنسان في غرائزه الاجتماعية (المصدر نفسه، ص232). ويفسر علماء الأحياء المعاصرون الأخلاق كالتالي: يمكن تعقُّب صفة الاجتماعية إلى الوراء عندما ابتكرت الطيور الحضانة والفقس ورعاية الذرية الصغيرة؛ ولإنجاب كائنات قادرة على تحمل المسؤوليات الوالِدية، لم تكن الآليات الاجتماعية ضرورية في مراحل التطور المبكرة. فمثلا، لا الأميبا (التي تتكاثر بالانشطار)، ولا الضفدع (الذي يترك ذريته لتعتمد على نفسها) يحتاجان إلى الغرائز الاجتماعية التي تملكها الطيور؛ لكن في الوقت نفسه، ولتسهيل تنشئة الذرية، تعادل الغرائزُ الاجتماعيةُ العدائيةَ الفطرية؛ فقد صار ممكنا أن نميز بين “نحن” و”هُم” وإظهار العداء للأفراد الذين لا ينتمون إلى جماعتنا. من الواضح أن هذا السلوك تكيَّفَ لضمان بقاء عائلة الفرد.

الثانية، مع نمو القدرات الفكرية، صار البشر قادرين على التفكير في أعمالهم السابقة ودوافعهم، ومن ثم صاروا قادرين على تأييد أو رفض الآخرين، وكذلك تأييد أو رفض أنفسهم. أدَّى هذا إلى نمو الضمير الذي صار “المحكمة العُليا والمُرشد” لجميع الأفعال (المصدر نفسه، ص235). تأثر داروين بالنفعية utilitarianism واعتقد بأن مبدأ السعادة القصوى سيكون بلا شك هو المعيار للتمييز بين الصواب والخطأ (المصدر نفسه، ص134) عند الكائنات الاجتماعية التي تملك ضميراً (تعريف الضمير conscience وفقا لقاموس أوكسفورد هو “الحس الأخلاقي بالصواب والخطأ، من حيث كونه مرشدا لسلوك الفرد”)، وقدرات فكرية متطورة جدا.

بالاستناد إلى هذه الآراء، هل يستطيع داروين أن يجيب السؤالين الأساسيين في الأخلاقيات؟ الأول، كيف نستطيع التمييز بين الخير والشر؟ والثاني، لماذا يجب أن نكون صالحين؟ إذا كانت كل آراءه صحيحة، فستجيب حقا على هذين السؤالين. يوافق تمييزُ داروين بين الخير والشر التمييزَ الذي تبناه النفعيون التلذذيون hedonistic utilitarians. قبِل داروين مبدأ السعادة القصوى كمعيار للتمييز بين الصواب والخطأ. ومن هنا يمكن الحكم على العمل بالصلاح إذا جلب السعادة القصوى للأكثرية بزيادة اللذة أو إنقاص الألم. أما السؤال الثاني -لماذا يجب أن نكون صالحين؟- فلم يُربك داروين بنفس الطريقة التي أربك بها أفلاطون. قال داروين إن البشر بطبيعتهم البيولوجية ميَّالين لأن يكونوا متعاطفين، غيريين، أخلاقيين؛ لأن من الثابت أن هذه الصفات نفعتهم في الصراع من أجل الوجود (المرجع نفسه، ص141).

هربرت سبنسر

الإسهام الأكثر أهمية بعد داروين في الأخلاقيات التطورية كان لهربرت سبنسر (1820-1903)، المُدافع الأشد حماسا عن نظرية التطور ومنشئ الداروينية الاجتماعية Social Darwinism. يمكن أن تُلخَّص فرضية سبنسر في ثلاث نقاط. فكما فعل داروين، آمن سبنسر بالنفعية التلذذية التي قدَّمها الفيلسوفان البريطانيان جيرمي بنثام (1748-1832) وجون ستيورات مِل (1806-1873). أولا، رأى سبنسر أن الحصول على اللذة وتجنب الألم يقودان كل أفعال الإنسان. ومن هنا، فالخيرُ الأخلاقي يمكن أن يساوي تيسير حصول الإنسان على اللذة. ثانيا، يمكن الحصول على اللذة بطريقتين، الأولى بإشباع الدوافع الذاتية، والثانية بإشباع دوافع الآخرين. هذا يعني أن كلا من أكل الطعام وإعطائه الآخرين يجلبان السعادة للإنسان. ثالثا، التعاون المتبادل بين البشر مطلوبٌ لتنظيم الدوافع الذاتية ودوافع الآخرين. وهذا هو تفسير تطوير البشر لمبدأ الإنصاف للموازنة بين الصفات الأنانية والصفات الغيرية (فيشر 2001، ص214).

ولكن سبنسر لم يُعرَف بفرضيته عن التعاون المتبادل mutual cooperation. بل على العكس، بقيت آراؤه في الداروينية الاجتماعية محلا للجدل إلى يومنا لأنها غالبا تُفهم بوصفها “تبريرا لبعض الأنظمة الاجتماعية الأكثر دناءة التي عرفها الإنسان”، مثل النازية الألمانية (روس 1995، ص228). وباختصار، فقد وظَّف سبنسر الحقائق البيولوجية المزعومة (الصراع من أجل الوجود، الانتخاب الطبيعي، البقاء للأليَق) لوصف السلوك الأخلاقي (المصدر نفسه، ص225). اقترح سبنسر أن الكائنات البشرية تصارع من أجل الحياة، ومن أجل بذل أقصى الجهود للبقاء، سيكون ضروريا أن يبقى الضعيف بلا مساعدة: “أن نساعد الضعيف ليتكاثر يعني أن نصنع للذين سيأتون من بعدنا العديد من الأعداء” (سبنسر 1874، ص346). شاعت فلسفة سبنسر، خصوصا في أميركا الشمالية، في القرن التاسع عشر، ولكنها تراجعت بشدة في القرن العشرين.

ما قد تكون إجابات سبنسر على سؤالي الأخلاق الأساسيين؟ تماثل إجابة سبنسر على السؤال الأول إجابةَ داروين (تقدَّم توضيحها)، إذ دعم كلٌّ منهما موقف النفعية التلذذية. ولكن إجابته على السؤال الثاني مثيرة، إن لم تكن قابلة للدفاع. زعم سبنسر أن التطور هو استمرارُ الأصلَح (بالمعنى الأخلاقي للكلمة)، وأن أي شيء يعزز القوى التطورية سيكون صالحا (ماكسويل 1984، 231). وبرر هذا الرأي بأن الطبيعة ترينا ما هو الصالح بأن تكون في صفِّه، ومن هنا، “التطور هو العملية التي تخلُق القيمة بنفسها” (روس 1995، ص231). إذا قدَّمَ التطورُ الخيرَ الأخلاقي، فإننا يجب علينا تعزيزه برغم اهتماماتنا الذاتية. وقد سبق أن عرَّف سبنسر الخير الأخلاقي بأنه اللذة العامة للإنسان وسعادته. فإذا كانت عملية التطور توجهنا إلى هذه اللذة العامة، فنحن نملك تبريرا أنانيا لأن نكون أخلاقيين، وبالتحديد إننا نريد السعادة العامة. ومع ذلك، فإن معادلة التطوُّر بالاستمرار الأخلاقي للأصلح (أي أن الأصلح أخلاقيا يملك فرص بقاء أكثر من أقل صلاحا. المترجم)  كانت حكما تقديرياً (أي الحكم على الشيء بكونه خيراً أو شراً، المترجم) كبيرا لا يمكن أن نعتقد به بدون المزيد من الأدلة، وقد تنازل معظم المنظِّرين التطوريين عن هذا الرأي (روس 1995، ص233؛ وولكوك 1999، ص299). وهي أيضا محل للكثير من الاعتراضات المفاهيمية، وبالتحديد اشتقاق “ما يجب أن يكون عليه الشيء ought” من “حقيقة الشيء is”، وارتكاب المغالطة الطبيعية naturalistic fallacy.

المراجع في المقال التالي الأخلاقيات التطورية.. مقدمة فلسفية (2).