بينما انا جالس في الطريق الى العمل، اسمع طفلاً بجانبي يبكي، يسأل والده :
- لماذا مات عصفوري ؟
- كلنا سنموت يا ولدي، كل شيء له نهاية ..
- لا بابا، كان العصفور لطيفاً، كان عليه البقاء اكثر معي ..
اعاد هذا الطفل الفكر الى ملحمة كلكامش، حينما يذهب في البحث عن الخلود، بعد فقدانه لصديقه، ليعود بعد رحلته بدرس أخلاقي أن الخلود لا يعني ان نعيش الايام، بل ان نترك الاثر. وهو اقدم النصوص التي وصلتنا عن رغبة الانسان في البحث عن الخلود، ومقاومة الموت، وهذه الرغبة بالخلود كانت وستبقى ملازمة لنا، ولأن الامنيات بالعمر المديد دخلت ادبياتنا واخلاقياتنا، فقد كان لها الأثر في البحث العلمي ايضاً، فهناك مئات الالاف من البحوث العلمية، التي تبحث مسألة الموت والخلود، نستعرض اهمها في اجزاء، بحثاً عن جواب لسؤال ازلي .. هل يمكننا الخلود؟!
يوجد في دمنا انواع عديدة من كريات الدم البيضاء بوظائف متعددة، ومع كل يوم يمر، تتكون مليار خلية جديدة من كريات الدم البيضاء، ما يجمع هذه الخلايا هو انها تتكون في نخاع العظم، من الخلايا الجذعية.
مع كل انقسام للخلايا الجذعية، والذي يحدث في العادة مرتين سنوياً، تتكون لدينا خلية جذعية جديدة، وكرية دم بيضاء جديدة ايضاً، وبمعادلة رياضية معينة يمكننا القول، أن أصل كريات الدم البيضاء في أجسامنا يقع في عشرة آلاف خلية جذعية، لذلك كان من المفاجئ انه عندما قام العلماء بدراسة دم واحدة من اكبر المعمرين في العالم وهي الهولندية هيندريك فان انديل شيبر ( توفيت في العام 2005 عن عمر 115 عام)، فقد وجدوا أن أغلب خلايا كريات الدم البيضاء لديها عند موتها ترجع بالأصل الى خلية جذعية واحدة فقط، ما وجدوه ايضاً بعد التحليل أن التوليمرات (telomeres) الموجودة في كريات الدم البيضاء لهيندريك كانت اقصر بما يقارب 17 مرة من خلايا دماغها، ما الذي يعنيه ذلك؟
في نهاية الشريط الحلزوني للحمض النووي DNA وفي جميع الكروموسومات، نجد تسلسلاً متشابهاً من القواعد النيتروجينية على هذه الشاكلة (TTAGGG)، يتكرر هذا التسلسل بنهاية الشريط الاف المرات ويسمى بالتوليمرات، لا يحمل هذا التسلسل اي معلومات جينية، ولكن مع انقسام الخلية وعندما يتضاعف الشريط الحلزوني للحمض النووي، يقص من هذا التسلسل المتكرر حوالي 50 قاعدة نيتروجينية، فيكون التوليمر أقصر في الخلية الجديدة وهكذا يستمر بالتضاؤل مع كل انقسام.
بالإمكان تشبيه التوليمرات بالعداد الذي يوضح للخلايا عدد الانقسامات المسموحة، وعندما يصبح التوليمر قصيراً جداً تتوقف الخلية عن الانقسام، مما يعني ان الخلية اصبحت عجوزاً وستموت قريباً، كل خلية تموت يمكن تعويضها بخلايا جديدة تتكون من خلية جذعية.
ولكن المشكلة أن الخلايا الجذعية ستعاني من نفس المشكلة وتصبح عجوزاً في يومٍ ما، ولكن ليس بنفس السرعة. وعندما تضمحل الخلايا الجذعية وتبدأ بالموت، يصبح من الصعب تعويض الخلايا الميتة الاخرى، وهنا نبدأ الدخول في عمر الشيخوخة.
قد يتبادر الى الذهن الآن أن مشكلة الشيخوخة يمكن حلها من خلال العمل على التوليمرات، ومنعها من ان تكون أقصر وبالتالي سنصل الى الخلود.
ولكن ليس من الضروري أن يكون طول التوليمر سبباً رئيسياً لأن يعيش النوع حياةً أطول، فعلى سبيل المثال، تملك الفئران توليمرات طويلة جداً بالمقارنة مع التي تملكها خلايانا واضافة الى هذا فأن لديها انزيم خاص يعمل على إطالة التوليمرات بعد كل انقسام يدعى توليمراز، ورغم هذا فنحن نعيش حياة أطول من حياة الفئران !!
لحل هذا اللغز قام مجموعة من العلماء بدراسة انزيم التوليمراز في 15 صنف مختلف من القوارض، وما وجدوه كان أن فعالية هذا الانزيم الذي يعمل على إطالة التوليمرات، تختلف اختلافاً كبيراً في الأصناف المختلفة، ولكن لم يكن هناك اي علاقة بين فعالية هذا الانزيم وعمر الكائن.
فلم يكن طول التوليمر سبباً رئيسياً في قصر أو طول حياة الكائن، ولكن المفاجئ كان هو ان فعالية انزيم التوليمراز كان متناسبة عكسياً مع كتلة الحيوان. فالحيوانات الصغيرة كالفئران والجرذان والهامستر، كان الإنزيم لديهم فعالاً بصورة كبيرة، بينما الحيوانات الأكبر كالقندس وخنزير الماء الذي يصل وزنه إلى 50 كيلوغرام، لم يكن لديهم انزيم التوليمراز فعالاً مما يجعل التوليمرات أقصر مع كل انقسام.
كانت هذه النتائج المفاجئة مدعاة للتفكر والبحث المعمق لإيجاد التفسير لارتباط قصر التوليمر مع كتلة الكائن، ومن أقرب التفسيرات هو أن السرطان يرتبط بشكل مباشر مع عدد الخلايا في الجسم، فكلما كانت الخلايا اكثر، كلما ازدادت نسبة الخطر بأن إحدى هذه الخلايا تتحول الى خلية سرطانية تؤذي الكائن ووظائفه بشكل كامل.
هنا تبرز ضرورة السيطرة على عدد الخلايا الى حد معين والحفاظ على توازن الانقسام الخلوي، وهو ما يحصل بمساعدة التوليمرات القصيرة وعدم فعالية انزيم التوليمراز بإطالتها في الكائنات الكبيرة.
قصر التوليمر بعد كل انقسام ودخول الخلية مرحلة الشيخوخة وعدم قدرتها على الانقسام وموتها، يحافظ على عدد خلايانا ضمن حد معقول وبهذه الحالة نتجنب الاصابة بالسرطان، ونتجنب ايضاً الخلل في المادة الوراثية.
فالدخول في مراحل التقدم بالعمر والشيخوخة والوصول إلى عمر الثمانين او اكثر او اقل ثم الموت هو ما يحمينا من الموت بعمر 25 بسبب السرطان الحاصل نتيجة الانقسام غير المسيطر عليه في خلايانا.
هذا يعني ان خلايا هيندريك بدأت بالاضمحلال واعلنت دخولها مرحلة الشيخوخة وكان اضمحلالها سبباً لوفاتها عن عمر 115 عام لحمايتها من سرطان يفتك بها بعمر اقصر، كانت نهاية هيندريك بهذا العمر، لأنه لم يتبق لديها المزيد من الخلايا الجذعية التي تستطيع انتاج كريات الدم البيضاء، وبلا الاخيرة، لا يعمل جهاز المناعة ويكون جسم العجوز هيندريك عرضة للعدوى ..
الى اليوم لا يوجد اثبات علمي لطريقة ما لتجديد الخلايا الجذعية، فما ينشر من علاجات سحرية تصل الى مئات الدولارات مثل كبسول الخلايا الجذعية وغيره ما هو الا هدر للأموال، ولكن الطريقة المدروسة هو أن يتم زرع نخاع عظم جديد من الممكن ان يضيف لأعمارنا مزيدا من السنوات، ومجال زرع الخلايا الجذعية وتطويعها وإطالة عمرها من المجالات البحثية التي تحظى بإهتمام كبير وربما تأتي الايام بمزيد من التطور ليكون لدينا مستقبلا علاج بمتناول اليد عن طريق الخلايا الجذعية، ولكن العمر المحدود لخلايانا الجذعية وعدم خلودها هو نعمة تعطينا فرصة للحياة اكثر مما هي فرصة للفناء ..
سألت الطفل قبل نزولي من الباص:
- هل تتمنى أن تعيش الى الابد؟
- اجاب نعم .. اذا عاش والدي ووالدتي وصديقي الى الابد..
وهنا نختم الجزء الاول بسؤال خيالي لو اعطيت اكسير الحياة الاسطوري في ملحمة كلكامش، هل تتمنى العيش الى الابد ؟
للمزيد :
- Seluanov A, Chen Z, Hine C, et al. Telomerase activity coevolves with body mass, not lifespan. Aging cell. 2007;6(1):45-52. doi:10.1111/j.1474-9726.2006.00262.x.
- Martínez P, Blasco MA. Telomere-driven diseases and telomere-targeting therapies. The Journal of Cell Biology. 2017;216(4):875-887. doi:10.1083/jcb.201610111.
- Holstege H, Pfeiffer W, Sie D, et al. Somatic mutations found in the healthy blood compartment of a 115-yr-old woman demonstrate oligoclonal hematopoiesis. Genome Research. 2014;24(5):733-742. doi:10.1101/gr.162131.113.