وتحسب نفسك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر. بيت اجده يلائم الأسرار في طيات أجسامنا ، واجد له استخدام دائم، فأجسامنا المتكونة من مليارات الخلايا تتعايش فيها أيضا  كائنات دقيقة تفوق هذا العدد بكثير.

فالخلية الواحدة من خلايانا تقابلها ١٠ كائنات دقيقة، بمعنى لو أزعجك شخص بغروره فإن هذا الغرور يشكل ١٠ بالمائة فقط مما يكون جسمه، ولَك ان تتخيل..

هذه الكائنات الدقيقة التي تتكون بدورها من ملايين الجينات يُطلق عليها مصطلح مايكروبيوم او كما يصطلح عليها القاموس العلمي العربي بالمستنبتات الجرثومية او ما هو معروف بالمصطلح الشعبي البكتريا النافعة.

في هذا المقال سنحاول فهم سبب وجود هذه المستعمرات من الكائنات في أجسامنا وكيف يمكنها ان تؤثر في نفعنا وربما ضرنا في آن واحد.

أن جميع الكائنات الحية متعددة الخلايا تتعايش بصورة سلمية قائمة على تبادل المنفعة مع الأحياء الدقيقة والإنسان ليس بمعزل عن هذا التعايش ( ربما لديه مشاكل بالتعايش مع إنسان آخر يخالفه ولكنه يتعايش رغما عنه مع الكائنات الدقيقة ) فنجد أن هناك مليارات من البكتريا والفيروسات والكائنات وحيدة الخلية التي تستوطن أجسامنا وتكون مستعمرات.
مع بدايات القرن الحالي ظهرت الكثير من الدراسات التي بينت أهمية وكيفية تواجد البكتريا، ولكن الكائنات الأخرى لا زال استعمارها وأهمية ذلك الاستعمار مجهولا.

تستوطن البكتيريا جهازنا الهضمي بنسبة عالية، فمساحة الجهاز الهضمي التي تعادل مساحة ملعب للتنس (٢٠٠ متر مربع) وما يحتويه من مركبات كيميائية يمكنها توفير الغذاء اللازم تجعله بيئة استعمارية خصبة للاستيطان.

بدايات الاستعمار البكتيري تعود إلى لحظات الولادة الأولى، حين نمر عبر قناة الولادة نكون عرضة لعدد كبير من أنواع مختلفة من البكتريا.

مما يدعم هذه النظرية هو ما وجدته الدراسات بأن بكتيريا الجهاز الهضمي للأطفال هي مطابقة الى بكتريا المهبل لأمهاتهم، ووجدت هذه الدراسات أيضا أن الأطفال الذين يولدون ولادة قيصرية يمتلكون نوعية مختلفة من البكتريا وبنسب اقل مقارنة بأقرانهم ذوي الولادة الطبيعية.

وجدت بعض الدراسات أن تركيبتنا الجينية والبيئة التي نتواجد فيها وطبيعة الطعام من الممكن أن تؤثر على نوعية وكمية المستعمرات البكتيرية في أجسامنا عموما وفي الجهاز الهضمي خصوصاً.

ولكن لماذا هذا الاستعمار وما الذي نستفيده ؟

أثبتت دراسات مختلفة أن وجود هذه المستعمرات ضروري لتشكيل جدار مناعي حصين في جهازنا الهضمي، فهذا الجهاز عرضة للكثير من المواد الخارجية، ولملايين الكائنات الدقيقة ستسهم في تكوين شخصية للجهاز المناعي حتى يستطيع تمييز المواد الضارة لجهازنا الهضمي ومحاربتها، فما تفرزه هذه الكائنات الدقيقة من مواد يساعد الجهاز المناعي على تكوين مستضدات للأحياء الدقيقة الخارجية.

مستوطنات الأحياء الدقيقة النافعة تستهلك الكثير من الطاقة وتعيش على شكل مستعمرات يمكن تشبيهها بالقبائل البشرية ، فكما أن بعض التجمعات القبلية البدائية تكون متوحشة ضد القادمين من الخارج وتمنع عنهم الغذاء فإن مستعمرات البكتريا ستمنع الأحياء الدقيقة الدخيلة من الحصول على الغذاء من خلال استيطانها وحصولها على الغذاء أولا وبالتالي تشكل خطا دفاعيا للحماية.
في دراسة أجريت قبل 10 سنوات تقريبا، قام الباحثون بتطوير فئران فاقدة لمستعمرات البكتيريا فوجدوا أن هذه الفئران تفتقد لجهاز مناعي فعال ولم يستطع جهازها المناعي التعرف على المركبات المسببة للعدوى التي تنتجها البكتريا الضارة ، كما وجدوا ان هذه الفئران كانت تعاني من خلل في آلية الهضم.

ولكن من المفاجأة أيضا أظهرت هذه الفئران استهلاكا لسعرات حرارية أكثر من المعتاد، مما يوضح دور البكتريا النافعة في عملية تنظيم الأيض الغذائي وإرسال إشارات التخمة إلى الدماغ .

فتحت هذه الدراسة الباب لدراسات أخرى حاولت فهم كيف لهذه المستعمرات التأثير على الأمراض الأخرى، فجاءت دراسات مختلفة توضح دور هذه المستعمرات في الاستجابة للأدوية وكيف أن العوامل الخارجية كالتداوي بمضادات البكتيريا واستعمال الطعام المعلب يؤثر على نوعية وكمية هذه المستعمرات، وتمت العشرات من الدراسات التي حاولت ربط هذه المستعمرات بأمراض كالتوحد، وامراض الجهاز الهضمي وآخر الدراسات كانت حول ربطها بداء السكري.

منذ فترة قصيرة اكتشفت مجموعة بحثية سويدية أن دواء السكري الأكثر استعمالا منذ عشرات السنين المعروف بالميتفورمين يؤثر على هذه المستعمرات بصورة إيجابية.

أُستخدم دواء الميتفورمين لسنوات عديدة ولكن آلية عمله لا زالت محل دراسة ، ما وجدته هذه المجموعة البحثية بأن مرضى السكري اختلفت لديهم نوعية وكمية مستعمرات البكتيريا في جهازهم الهضمي بعد شهرين من استخدام الميتفورمين، وعند نقل هذه المستعمرات إلى الفئران التي عانت من السكري شوهد تحسن ملحوظ في الأعراض واستجابة اكثر للدواء فيما بعد، اضافة الى نزول في الوزن.

تفتح هذه الدراسة الشيقة الباب أمام عالم جديد في الآليات العلاجية للسكري اولا ولأمراض أخرى ، ألا وهو عالم التحكم بالاستعمار البكتيري بداخلنا لزيادة فعالية الأدوية او القضاء على الامراض خصوصا مع تطور تقنيات التعديل الجيني.

ربما عادة الانسان هي رفض التعايش او الحصول على المنفعة بشكل غير معتاد، لا زالت الكثير من البحوث المثيرة في الانتظار قبل ان نصل إلى فهم الآليات بصورة كاملة ولكن حتى ذلك الحين، ما علينا إلا المحافظة على المستعمرات بداخلنا وألا نحاول إيذاءها من خلال الاستخدام المفرط للأدوية، فربما يعود هذا الاستعمار بالنفع المادي علينا مستقبلا ان فقدنا وظائفنا وسيمكننا التبرع بمستعمراتنا الصحيحة وكما يقول الشاعر :
واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالي الأمان

المصادر


1.Alpert C, Scheel J, Engst W, Loh G, Blaut M. Adaptation of protein expression by Escherichia coli in the gastrointestinal tract of gnotobiotic mice. Environ Microbiol 11: 751–761, 2009

  1. Antonopoulos DA, Huse SM, Morrison HG, Schmidt TM, Sogin ML, Young VB. Reproducible community dynamics of the gastrointestinal microbiota following antibiotic perturbation. Infect Immun 77: 2367–2375, 2009
  2. Beutler B, Rietschel ET. Innate immune sensing and its roots: the story of endotoxin. Nat Rev Immunol 3: 169–176, 2003
  3. Wu, H., Esteve, E., Tremaroli, V., Khan, M. T., Caesar, R., Mannerås-Holm, L., … Bäckhed, F. Metformin alters the gut microbiome of individuals with treatment-naive type 2 diabetes, contributing to the therapeutic effects of the drug. Nature Medicine, 23(7), 850–858, 2017