الرايك ماينهوف (Ulrike Meinhof) هي صحافية ألمانية عملت خلال فترة الخمسينيات والستينيات وهي التي أسست حزب الجيش الأحمر عام 1968 المسؤول عن عمليات تفجير وسرق للعديد من البنوك في ألمانيا الغربية. المثير للإهتمام حول هذه الشخصية هو ما حدث عند محاكمتها، إذ لم تتم المحاكمة بسلاسة، ولم يُصدر الحكم فقد وجدت ماينهوف مشنوقة في زنزانتها وعلى أثر هذه الحادثة، خضعت ماينهوف للتشريح ليجد الأطباء أن هناك ورماً حول جزء من دماغها يدعى اللوزة (amygdala)، يُذكر أن ماينهوف خضعت لعملية سابقة في عام 1962 لإزالة ورم في نفس المكان، ولكن يبدو أن الورم قد عاد مؤثراً على سلوكياتها.

الحالة الأخرى الأكثر شهرة في مجال علم الاعصاب هي حالة تشارلز ويتمن (Charles Whitman) جندي البحرية والقناص اللامع. تميز ويتمن بذكائه العالي، وبقدرته الحادة على قنص الأشياء مما جعله ينال العديد من الأوسمة. ولكن في عام 1966 استخدم ويتمن قدرته هذه لإيذاء الكثيرين في جامعة تكساس، إذ صعد ويتمن لأعلى البرج ومن ثم بدأ بالقنص، واحداً تلو الآخر، حاصداً أرواح 16 شخصاً ومسبباً جرح كثيرين آخرين. لم يكن ضحاياه من طلبة الجامعة فحسب، بل وقبل أن يصعد ليقوم بمهمته الانتحارية، عمد ويتمن لقتل أمه وزوجته تاركاً رسالة بجانب زوجته معبراً فيها عن حبه لها، طالباً للتشريح بعد أن يُقتل كونه يشعر “بوجود شيء في رأسه يدفعه للعنف”. وقد تحقق ما طلبه ويتمن، إذ خضع للتشريح بعد أن قُتل ليجد الأطباء ورماً حول اللوزة أيضاً. والسؤال هو هل الورم هو المسبب لهذا العنف؟

إن لويتمن تاريخ طويل في العنف، فقد عاش طفولة قاسية لأبٍ قاسٍ مارس العنف مع إخوته وأمه. كبر ويتمن ليصبح عنيفاً هو الآخر، ممارساً العنف على زوجته وعلى الآخرين، ولربما دخوله للبحرية كان ارضاءاً لهذه الرغبة. يُذكر أن أخ ويتمن قد قُتل نتيجة للعنف ايضاً بعد أن اشترك في عراك في إحدى الحانات.

ماينهوف وويتمن يثيران أسئلة كثيرة، فالتطور الكبير الذي شهده مجال علم الاعصاب مكننا من تحديد بعض الأسباب التي قد أدت لمثل هذه الحوادث المؤلمة. مثل هكذا تطور يدفع بعلم الاعصاب أكثر وأكثر للتداخل مع الأنظمة الجنائية والقوانين وبنفس الوقت ينتج هذا التداخل اسئلة جديدة مثل: هل من الممكن تبرير الجرائم على أساس وجود أورام أو إصابات في الدماغ؟ كيف تختلف أدمغة القاصرين عن البالغين بقدرتها على اتخاذ القرارات؟  هل من الممكن أن يُعدل علم الاعصاب على القوانين المطبقة الآن؟ هل من الممكن استخدام التقنيات الحديثة للتنبؤ بمن سيرتكب الجرائم؟ من سيمتلك الحق للاطلاع على مثل هكذا معلومات؟ كيف سيسلط علم الاعصاب الضوء على إعادة تأهيل المجرمين؟ وهل سينفع ذلك معهم؟ ماذا لو قال عالم أن بإمكانه أن يعيد تأهيل مجرم قتل الكثيرين خلال أسبوع، هل سيرضى الشعب بذلك ولن يُقتص منه؟

هناك حالة مثيرة لمعلم من ولاية فيرجينيا. قضى هذا المعلم حياته بشكل طبيعي، تزوج وله أطفال وكل شيء كان يسير بسلاسة حتى سن الأربعين إذ بدأ بأغراء العاملات في عيادات المساج، وعمل على تجميع الكثير من الفيديوهات التي يظهر فيها أطفال يمارسون الجنس. حدث وأن شكت ابنته ذات الأعوام الثمانية أبيها لأمها التي واجهته والتي اكتشفت فيديوهات جنس الأطفال في حاسوبه. ألقي القبض عليه وأودع السجن. خلال محاكمته لم يتمكن من تفسير ما حدث له، ولم يكن قادراً على تصديق ما فعله كما ولم يستطع تفسير رغبته بالتقرب من الأطفال وممارسة الجنس معهم. قررت المحكمة، بالنظر لتاريخه النظيف، أن يُعاد تأهيله، ولكن سرعان ما بدأ بالتقرب للعاملات في مؤسسة إعادة التأهيل، عندها نُقل إلى السجن.

حدث وأن أُصيب بصداع قبل بدء محاكمته، هذا الصداع دفع بالأطباء بأن يعملوا مسحاً لدماغه. هنا جاءت المفاجأة عندما وجد الأطباء ورماً كبيراً يضغط على فصه الجبهي. خضع المعلم لعملية في شهر ديسمبر من عام 2000، ليعود لحياته الطبيعية. لكن لم تجر الحياة بسلاسة، فقد لاحظت زوجته عودة سلوكه السابق مع حدوث آلام في رأسه، ومجدداً وجد الأطباء أن جزءاً من الورم قد عاد. رُفع الورم وعادت حياته لمجراها الطبيعي.

هذه الحالة تدفعنا للتفكير “الورم كان سبب سلوكه المنحرف؟ أم أن الورم هو الذي أطلق رغبات مكبوتة في داخله، كونه أصاب الفص الجبهي المسؤول عن السيطرة؟” الجواب عن مثل سؤال هكذا لا زال مجهولاً. لكن هناك بعض الأدلة تشير إلى ان 34% من المتحرشين جنسياً بالأطفال مصابين بأورام، تلف أو خرف.

هناك عوامل يجب الأخذ بها عند الحكم على حالات كهذه، من هذه العوامل هو وقت ظهور الأعراض، هل حدثت بشكل مفاجئ؟ هل كان سلوك الفرد طبيعياً خلال فترة حياته؟  هل يعاني المريض من اضطرابات في الوظائف العصبية؟ (كما في حالة المعلم الذي أظهر أفعال انعكاسية لا ينبغي أن توجد عند الشخص البالغ كما لم يكن قادراً على الكتابة أو التوازن).

يبدي البعض خوفاً من هذا التطور، معللين هذا الخوف بفكرة أن “مقياس” العدالة سيدفع بشكل تدريجي نحو تبرير كل جريمة على مبدأ “لم أفعلها، ولكن الاضطراب في دماغي (ورم، إصابة، تغير بمستويات النواقل العصبية) هو السبب”. وربما يُبرر مثل هكذا تفكير ولكن لا علاقة لعلم الاعصاب بذلك، فهذا شأن الأنظمة القانونية.

لا زلنا لا نعرف ماهية الوعي، ولا زلنا لا نعرف هل هناك إرادة حرة أم لا؟ ولا زلنا لا نعلم كيف تؤثر أحداث الحياة على تركيبة الدماغ أو الجينات المؤثرة بالسلوك. حالما نجيب عن هذه الأسئلة ويزداد فهمنا، عندئذ ستتغير القوانين.

المصادر:

Eagleman, “The Brain on Trial,” Atlantic, June 7, 2011; G. Lavergne, A Sniper in the Tower (Denton: University of North Texas Press, 1997); H. Hylton, “Texas Sniper’s Brother John Whitman Shot,” Palm Beach Post, July 5, 1973, p. A1.

Eagleman, D. (2016). Incognito: The secret lives of the brain.