لماذا تكون الذاكرة جيدة جداً وسيئة جداً؟ الذاكرة البصرية بالأخص؟ هل تستطيع تذكر ماذا كان على العشاء قبل أسبوع من اليوم؟ الاحتمال الأكبر انك لا تتذكر. لكنك بعد كدة قصيرة من تلك الوجبة كنت تتذكر ما كان موجود فيها بقدر كبير من تفاصيل. فماذا حدث لذاكرتك بين الماضي والحاضر، هل تلاشت ببطء؟ أم أنها لم تختفي تماماً؟
يتم تخزين الذكريات الصور المرئية (مثل صحون العشاء) في ما يسمى بالذاكرة البصرية (visual memory). وتستخدم ادمغتنا الذاكرة البصرية لحل أبسط العمليات الحسابية. لتذكر وجه شخص التقينا به للتو إلى تذكر الوقت الماضي الذي فحصناه. بدون الذاكرة البصرية لن نستطيع استرجاع أي شيء نراه في وقت لاحق. مثلما تكون ذاكرة الحاسوب محددة لقدراتهن ارتبطت الذاكرة الصورية مع عدد من قدرات الدماغ العليا، مثل النجاح الأكاديمي والذكاء السلس (القدرة على حل المشاكل الجديدة)، والفهم العام.
من المفيد جداً ولأسباب عديدة علينا أن نفهم كيف يمكن أن تسهل الذاكرة الصورية العديد من العمليات العقلية، وكذلك كيف يمكن أن تحد من قدرتنا على القيام بها. فهنالك الكثير من الأسئلة التي طرحت في هذا الخصوص، سوف نناقشها هنا.
يتم خزن الذكريات مثل ما كان موجود على العشاء في الذاكرة البصرية في الذاكرة قصيرة المدى (short-term memory)، وبشكل خاص في نوع من الذاكرة قصيرة المدى تسمى “الذاكرة العاملة البصرية” (“visual working memory). وتقوم الذاكرة البصرية بعمل صور مؤقتة بينما يقوم العقل بعمل مهام أخرى، مثل اللوحة البيضاء التي يكتب فيها لفترة بسيطة ومن ثم يمسح كل شيء. نحن نعتمد على على الذاكرة العاملة البصرية عندما نتذكر الأشياء بعد فترة قصيرة، مثل نسخ مسودة المحاضرات في المفكرة (notebook).
السؤال هو: متى تتلاشى الذاكرة؟ وعندما تتلاشى هل يمكن أن نميز ما كان موجود في الأصل، او لا يبقى شيء؟ وإذا كنا نستطيع استرجاع الذاكرة البصرية قصيرة المدى عندما تتلاشى بشكل تدريجي، هل يمكننا استرجاعها اذا محيت دفعة واحدة؟ وهل أننا لا نستطيع استرجاعها بأي حال من الاحوال؟
قام عالما النفس يوري تشانغ (Weiwei Zhang) وستيفن لاك (Steven Luck) من جامعة كاليفورنيا في ديفيس، بإلقاء الضوء على هذه المشكلة. ففي تجربة قاموا فيها، رأى المتطوعون ثلاث مربعات ملونة تومض على شاشة الحاسوب لفترة وجيزة، وطلب منهم تذكر الألوان لكل مربع. حيث تظهر المربعات بعد 1 أو 4 أو 10 ثواني من جديد، ولكن هذه المرة بدون ألوان، فكل ما يستطيعون مشاهدته هو مربعات سوداء محددة باللون الابيض. وكان على المتطوعون أن يقوموا بمهمة بسيطة: هي ان يتذكروا لون مربع واحد بعينه، بدون أن يعرفوا أي مربع سوف يطلب منهم تذكره.
وقد افترض علماء النفس أن قياس الكيفية التي تعمل بها الذاكرة البصري العاملة عند زيادة الطلب من شأنه أن يكشف شيئاً عن الكيفية التي يعمل بها النظام.
إذا تلاشت الذاكرة البصرية قصيرة المدى بشكل تدريجي يستطيع المشاركون تذكر الألوان بشكل جيد، مع انحراف بسيط بلون المربع الأصلي. ولكن إذا تم محو الذاكرة بشكل تام وبدفعة واحدة، سوف يقوم المتطوعون باستجابات دقيقة، وبعد ذلك مرور فترة طويلة يقوموا بتخمينات عشوائية جداً.
وهذا ما وجده تشانغ ولاك، حيث أن المتطوعين إما كانوا دقيقين جداً، أو أنهم يعتمدون على التخمين تماماً. وهذا يعني أنهم إما يتذكرون لون المربع بدقة، أو أنهم نسوا اللون تماماً. وكانت ذاكرتهم تتصرف مثل مستندات وورد (Microsoft Word documents) الموجودة في الحاسوب. فهي لا تفقد الرسائل على مر الزمن، والصور الرقمية الخاصة بك، فهي لا تمحى إلا إذا نقلتها إلى الحاوية ومن ثم تفريغها.
ولكن هذا لا يحدث في جميع الذكريات. ففي ورقة بحثية حديثة، وجد باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد، أن الذكريات يمكن أن تبقى لفترة طويلة دون أن تمحى وهذا النوع يسمى “الذاكرة البصرية طويلة المدى” (visual long-term memory)، وهي نوع من الذاكرة لا تمحى على الإطلاق. فقد عرضت تاليا كونكلي (Talia Konkle) وزملاؤها مجموعة من ثلاثة آلاف صورة لمشاهد مختلفة بشكل متعاقب وبسرعة، وكانت الصور تحتوي على مشاهد لأمواج المحيط وملاعب غولف ومتنزهات. ومن ثم عرض على المشاركين مئتي زوج من الصور، كانت بعضها قد عرضت في المجموعة الأولى، وقد طلب منهم أن الإشارة إلى الصور من المجموعة الأولى وقد أعيد عرضها في المجموعة الثانية. وكانت دقة المشاركين 96%، فبعبارة أخرى على الرغم من أن الباحثين طلبوا منهم تذكر 3000 صورة ألا إنهم أدوا مهمتهم بنجاح.
واتضح أن المشاركين كانوا دقيقين عندما تكون الصور القديمة والجديدة مختلفة الأنواع. فقد قام عالما النفس بتحليل أداء المشاركين عندما تكون الصور لنفس النوع من المشاهد، لكي يختبروا مدى تذكرهم للتفاصيل. فبما أن صور المشاهد المتشابهة تختلف بعضها عن بعض بتفاصيل أقل مما موجود في المشاهد المختلفة، فإن المشاركين يحتاجون لتذكر كمية كبيرة من التفاصيل لملاحظة الاختلافات.
وكما كان متوقع، فقد انخفضت دقة تذكر المشاركين إلى 84% عندما تكون الصور للفئة نفسها، ولكن الانخفاض لم ينخفض كثيراً. وفي الواقع حتى عندما قام الباحثين بزيادة عدد الصور التي يحتاجها المشاركون لتذكر نوع معين من المشاهد، لم تتأثر دقتهم في تمييز الصور المختلفة. فانخفاض أداء الذاكرة يدل على أننا نمتلك ذاكرة جيدة ولكن ليست ذاكرة فوتوغرافية.
هذه التجربتين المنفصلتين تحملنا مفارقة: كيف لنا أن نتذكر عدد كبير من الصور بتفاصيل كبيرة، بينما هناك صور لا نستطيع تذكرها بتاتا بعد ثواني قليلة من مشاهدتها؟ ما هو المحدد بين خزن الذكريات في ذاكرة طويلة الأمد أو الذاكرة قصيرة الأمد؟
في نشرة حديثة، قال الباحثون من جامعة هارفارد ماساتشوستس للتكنولوجيا إن العامل الحاسم الصور هو المعنى الذي تحمله الصور (بغض النظر إن كانت الصور تحمل معنى تعرفه مسبقاً). ففي تجربة تشانغ ولكن أنت تحاول أن تتذكر معنى الصور، وهكذا يتم إجراء اتصال مع أي معرفة مخزنة، فلا علاقة لها بالألوان. لكن في تجربة كونكلي ترى صور لمشاهد تعرفها ولديك معرفة بما تحتويه من معنى، مثلا قد يكون معنى لباحة أو للافعوانية. وتقوم هذه المعرفة المسبقة بتغيير معالجة الصور، مما يسمح لآلاف منها ان تنتقل من الذاكرة قصيرة المدى إلى الذاكرة طويلة المدى، حيث يتم تخزينها مع تفاصيل ملحوظة.
وتشير هذه التجارب معاً إلى السبب الذي يكمن وراء عدم حذف جميع الذكريات بصورة متشابهة، ففي الواقع بعض الذكريات لا يتم محوها بتاتاً. وهذا يفسر كذلك كيف أننا نفقد الأمل في تذكر بعض الأشياء، بينما نتذكر أشياء أخرى بتفاصيل دقيقة.
المصدر: https://www.scientificamerican.com/article/why-memory-so-good-bad/