عرفت العدسات في العصور القديمة وشاع استخدامها في القرن الخامس عشر في النظارات وقد تم تشكيل اول مجهر من خلال دمج العدستين المحدبة والمقعرة في انبوب وذلك في القرن السابع عشر وقد استخدم گالیلو اداة مماثلة وكان مندهشا إذ كان يطالع بواسطتها التركيبة المعقدة لأعين الحشرات بينما كان ستيلوتي العالم الايطالي هو الاخر مندهشا إذ كان يشاهد تركيبة الاعين واللسان وقرون الاستشعار للحشرات والسوس. مالبيجي استطاع ان يكتشف الدورة الدموية في الشعيرات الدموية ووصفة تطور قلب الجنين. نيهمايا (Nehemiah) قام بفحص النباتات, بينما قام سوامنيام (Swammeniam) بتشريح ذبابة الفاكهة وكان ليفنهوك اول شخص يرى الخلية البكتيرية وايضا قام روبرت هوك بوصف الخلية بواسطة الفلين والاوراق.
إذا ومع اختراع المجهر بدأت الاكتشافات تتوالى في العالم الخلوي وبدأ فهم الكائنات الحية يتجلى بصورة افضل. چالز سینگر (Charles Singer) المؤرخ العلمي يشير (ان التعقيد اللامتناهي للكائنات الحية المكتشف يسبب اضطرابا في فلسفاتنا يعادل الاضطراب الذي سببته الاكشتافات الفلكية لگالیلو في الجيل السابق ويبدو انه من البعيد لآثار تلك الاكتشافات ان تدخل ذهن الانسان) وبعبارة اخرى فإن الصناديق الجديدة تتطلب منا احيانا ان ننقح جميع نظرياتنا وفي حالات كهذه قد لا يرغب الكثير منا بذلك.
ان النظرية الخلوية للحياة وضعت في بداية القرن التاسع عشر بواسطة ماثياس شيلدن (Matthias Schleiden) وثيودور شوان (Theodor Schwann). شيلدن عمل بشكل اساسي على الانسجة النباتية وناقش اهمية الجزء المركزي في الخلية بينما ركز شوان على الانسجة الحيوانية حيث تتشابه التركيبة الخلوية مع التركيبة الخلوية للنبات. وقد استنتج شوان ان الخلايا او افرازاتها تكون الجسد الكامل للنبات او الحيوان, وبطريقة ما فإن الخلايا هي الوحدات الصغيرة المكونة لحياة الكائنات. وقد كتب (ان السؤال حول القوة الاساسية للاجسام الحية يمكن استنتاجها من الخلايا المفردة لتلك الاجسام) وقد اضاف شيلدن (ان السؤال الاساسي يتلخص في ماهية الاصل المميز لهذا الجسم الصغير الحي, الخلية) وقد عمل شون وشيلدن منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى منتصفه – في الوقت الذي سافر فيه داروين وكتب كتابه الشهير (اصل الانواع) (The Origin of Species) إذا فبالنسبة لدارون كما لأي عالم في وقته كانت الخلية عبارة عن صندوق اسود مع ذلك فإنه كان قادرا على ادراك معظم تفاصيل علم الاحياء التي تلي مرحلة الخلية. ان فكرة الحياة ذاتها لم تكن اساسيا لداروين بقدر مناقشته للحياة كنظام وبقدر تركيزه على كيفية عمل التطور بواسطة الانتقاء الطبيعي على الاغيار.
في هذه الاثناء كان الصندوق الاسود للخلية يدرس بثبات. اكتشاف الخلية دفع المجهر الى حدوده القصوى ضمن الاطوال الموجية للضوء. فلاسباب فيزيائية لم يكن للمجهر ان يصل الى تقريب اجسام تقل عن نصف الطول الموجي للضوء المرئي المنبعث منها. وقد كان الطول الموجي للضوء المرئي يبلغ عشر قطر الخلية البكتيرية وهذا غير كافي لتغطية الكثير من التفاصيل الصغيرة والمهمة في جسد الخلية التي لم يكن من الممكن رؤيتها بواسطة ضوء المجهر, إذا فلم يكن من الممكن ان يفتح الصندوق الاسود للخلية بشكل كلي دون المزيد من التقدم التكنلوجي.
حتى نهاية القرن التاسع عشر ومع تطور الفيزياء بشكل ملحوظ اكتشف جوزيف جون ثومبسون (J. J. Thomson) الالكترون والذي يعد بالتأكيد اقصر من الطول الموجي للضوء, ويمكن ان ينبعث من اصغر الاجسام غير ان مشكلة الرؤية المجهرية المعتمدة على الالكترون كانت تواجه عددا من المصاعب في التطبيق ابرزها انحناء حزمة الالكترونات. غير ان مجموعة من الطرق تم ايجادها لحل هذه المصاعب انتهت بظهور المجهر الالكتروني بعد الحرب العالمية الثانية. مما ادى الى كشف المزيد من التركيبات دون الخلوية, فقد صار من الممكن مشاهدة الفجوات في النواة كما اصبح من الممكن ملاحظة الغشاء الثنائي حول المايتوكوندريا (مركز الطاقة في الخلية). والخلية التي بدأت بسيطة جدا تحت المجهر الاعتيادي صارت مختلفة تماما تحت المجهر الالكتروني كما ان الشعور بالذهول والدهشة الذي احس به من شاهدوا الخلية لأول مرة في المجهر الاعتيادي عاد للظهور ثانية مع علماء القرن العشرين الذين شاهدوا تعقيدات الخلية بواسطة المجهر الالكتروني.
هذا الحد من الاكتشاف بدأ يسمح للاحيائيين ان يقتربوا من الصندوق الاسود الاكبر والذي يحتوي على الكم الاكبر من الاسرار, السؤال حل كيفية عمل الحياة لم يكن مطروحا من قبل دارون او احد تابعيه ولم يكن لاحد منهم ان يجيبه. انهم يعلمون ان العينين مخصصتان للرؤية ولكن كيف؟ هل يرون ذلك؟ كيف يتخثر الدم؟ كيف يقاوم الجسد الامراض؟ التركيبات المعقدة التي استطاع ان يقربها المجهر الضوئي هي ذاتها مصنوعة من مكونات اصغر. ما هي هذه المكونات؟ كيف تبدو هذه المكونات؟ وكيف تعمل هذه المكونات؟ الاجوبة عن هذه الاسئلة اخذت حقلا واسعا من الكيمياء والاحياء كما ان هذه الاسئلة تعيدنا الى الوراء ثانية حيث القرن التاسع عشر.
ملاحظة: هذا المقال هو الجزء الثالث من سلسلة مقالات معدة لترجمة كتاب صندوق داروين الاسود Darwin’s black box وعنوان المقال الاصلي (BLACK BOXES WITHIN BLACK BOXES) اي صناديق سوداء داخل صناديق سوداء والصندوق الاسود هو مصطلح اساسي في الكتاب يرمز الى مرحلة من مراحل فهم اسرار شئ ما ويوضح الحياة كمجموعة من الصناديق السوداء التي يقع بعضها داخل البعض الاخر.