بقلم: فرانك سونليتنر
ترجمة: المجتبى الوائلي
تصميم بوستر: أحمد الوائلي
———————————————-
مقدمة المترجم:

كثيراً ما تستخدم بعض إقتباسات كارل بوبر، من قبل بعض الذين ما زالوا يستحدثون الأدلّة، كحجج لدحض نظرية التطور، وغالباً ما يكون هؤلاء من الخلقيين. والسؤال المهم هو: هل كان بوبر حقاً من المشككين في علمية نظرية التطور؟! في هذه المقالة يستعرض لنا الكاتب المراحل الزمنية التي مرَّ بها كارل بوبر، مع ذكر بعض الإقتباسات ممّا كتب، ليُبين لنا كيف أنَّ بوبر كان قد أخطأ وإعترف بخطئه لاحقاً، إذ قال فيما مضى أن التطور نظرية غير علمية لأنها غير قابلة للتجربة والتكرار!

———————-

في مقالة منشورة عام 1981 في ساينس ديغيست، قال دوان غيش، المفكر الرئيس بين الخلقيين:

(لم يكن هنالك شهود من البشر على أصل الكون، أصل الحياة وأصل كل شيء حي. لقد كانت تلك الأحداث فريدة من نوعها، لن تتكرر أحداث الماضي تلك ولن نستطيع ملاحظتها تحدث مرة أخرى في الطبيعة أو نكررها في المختبر. وبالتالي التطور كالخلق، فهو ليس مؤهلاً كنظرية علمية مما يجعلها متساوية مع النظرة الدينية لتلك الأمور. وكما قال فيلسوف العلم السير كارل بوبر، “التطور هو نظرية غير قابلة للإختبار ولكنها برنامج بحث ميتافيزيقي”)[آسيموف وغيش، 82].

الردود الأكثر مباشرة، والتي بالإمكان تقديمها لدحض هذا النوع من التُهم، هو أنَّ غيش وباقي الخلقيين لا يؤمنون بهذا النوع من التهم! النقطة الأساسية في الإقتباس أعلاه هو أن التطور نظرية غير علمية لأنها غير قابلة للإختبار. إنَّ الخلقيين دائماً ما يستحدثون حججاً وأدلة يقولون أنها تدحض التطور. غيش قد فعل ذلك في هذا الجزء من مقالته أعلاه. على الرغم من أن في ذلك تناقض واضح، أبهرت تلك الحجج الأشخاص العاديين وحتى الهيئات التشريعية. لكنه يشوه تماماً ما يسميه بوبر منطق الإكتشاف العلمي.

لذا، ما الذي قاله بوبر حول نظرية التطور؟

(في الواقع، يمكن إعتبار الرواج الراهن للنزعة التاريخية على أنها مجرد جزء من رواج المذهب التطوري، والذي هو فلسفة تدين باتأثيرها الواسع الى التصادم المثير نوعاً ما بين فرضية علمية رائعة عن تاريخ الأنواع المختلفة من الحيوانات والنباتات على الأرض وبين النظرية الميتافيزيقية القديمة والتي اصبحت بالمصادفة جزءاً من عقيدة دينية راسخة).

ما نسميه الفرضية التطورية هو تفسير لجملة من الملاحظات المستمدة من علم الاحياء وعلم المتحجرات (علم الاحافير) وبالاعتماد على افتراض وجود سلف مشترك للاشكال الحياتية المختلفة. على سبيل المثال، توجد بعض أوجه التشابه بين مختلف الأنواع والأجناس.

(… أرى في الدارونية الجديدة التفسير الأكثر نجاحاً للحقائق ذات الصلة) [بوبر 1957، ص106].

(لا يوجد هنالك أي قانون للتطور، هنالك فقط الحقائق التاريخية التي تقول أن النباتات والحيوانات تتغير، أو بتعبير أدق، أنها قد تغيرت) [بوبر 1963، ص340].

(لقد كنت دائماً مهتماً للغاية بنظرية التطور ومستعداً جداً لتقبلها كحقيقة) [بوبر 1976، ص167].

(الدعامة المندلية للدارونية الحديثة قد تم إختبارها بشكل جيد، وكذلك الحال مع نظرية التطور التي تقول بأن كل أشكال الحياة على الأرض قد تطورت من كائنات بدائية قليلة وحيدة الخلية، وربما حتى من كائن واحد) [بوبر 1978، ص344].

علاوة على ذلك، في كتابه (المعرفة الموضوعية) أستخدم بوبر النموذج الدارويني كأساس لنظريته المعرفية الخاصة،وانه لم يناقش الدارونية كتفسير علمي فقط، بل إنه قدمها كعنصر إضافي للفرضيات العلمية – الإزدواجية الجينية – التي تهدف الى تعزيز إطار الدارونيين المحافظين من الآرثوذوكس [بوبر 1972، ص242]. الإزدواجية الجينية لبوبر مماثلة لأفكار ويلسون وستيبنس [ستيبنس 1977، ص125]، وماير [1963، ص604؛ 1970، ص363] بشأن دور السلوك في التطور.

لكنه قد أرتكب خطأ واحداً، والذي علينا أن نغفره له، لأن بعض علماء البايولوجيا المعروفين جيداً، والذين من المفترض أن يعرفوا أكثر، قد إرتكبوا نفس الخطأ. هذا الخطأ يتمثل في أن بوبر يتخذ “البقاء للأصلح” كتعريف للإنتقاء الطبيعي [بوبر 1972، ص241]. هذه العبارة الجذابة كانت من اختراع هربرت سبنسر، والتي قام داروين باقحامها في الطبعات اللاحقة من كتابه أصل الأنواع، إذ كتب: “إن المحافظة على الإختلافات والتباينات الفردية المفيدة والتخلص من الصفات الضارة هو الذي دعوته أنا بالإنتقاء الطبيعي أو البقاء للأصلح.” [ص64]. من الواضح أن عبارة البقاء للاصلح هي اسم بديل (غير دقيق) لعملية قيد البحث وليست تعريفاً للانتخاب الطبيعي.

المجادلة حول مصطلح “البقاء للأصلح” تتمثل في أن الطريقة الوحيدة لمعرفة أي الأفراد هو الأصلح هي بمعرفة من الذي يبقى. ولكن بعد ذلك يصبح البقاء للأصلح “مجرد حشو كلام” وبالتالي غير قابل للفحص [بوبر 1972، ص69؛ 1963، ص964].

(لقد توصلت إلى إستنتاج مفاده أن الدارونية نظرية علمية غير قابلة للإختبار، لكن برنامج البحوث الميتافيزيقية هو إطار محتمل لدراسة نظريات علمية قابلة للإختبار) [بوبر 1976، ص168].

من الواضح هنا أن الدارونية تعني الإنتخاب الطبيعي، وليس التطور. بوبر يذكر ذلك بنفس الصيغة تماماً في مكان سابق من نفس الكتاب:

(… لأنني أعتزم أن أجادل بأن نظرية الإنتقاء الطبيعي نظرية علمية غير قابلة للأختبار، ولكنها برنامج بحث ميتافيزيقي؛..) [بوبر 1976، ص151].

هنالك نقطتان هنا بإمكاننا أن نلتفت لهما:

أولاً، كون الإنتخاب الطبيعي غير قابل للإختبار هو شيء مختلف تماماً عن كون التطور غير قابل للإختبار. التطور، مقارنة بفكرة الخلق، هو تعبير عن اي فرضية لتفسير الأصول. فنظريات الفيزياء الفلكية حول تطور النجوم، أو “الإنفجار الكبير” في علم الكون، أو علم الجيولوجيا، أو العديد من أوجه التطور البايولوجي، وهو موضوع نقاشنا، كلها افكار او نظريات لا تستند على قاعدة الإنتخاب الطبيعي الداروني.

ثانياً، بوبر يُقر أنه كان مخطئاً!

(إن حقيقة كون نظرية الإنتخاب الطبيعي صعبة الإختبار، قادت البعض من معارضي الدارونية وحتى بعض كبار الدارونيين لأن يقولوا بأنها مجرد حشو كلام… أقوم هنا بذكر هذه المشكلة لأنني أيضاً أنتمي لأولئك الجناة. متأثراً بما قالته تلك الجهات، فلقد قمت بوصف هذه النظرية سابقاً بأنها “حشو كلام تقريباً” وحاولت أن أشرح كيف أن نظرية الإنتخاب الطبيعي غير قابلة للإختبار (كما أنها حشو كلام) وحتى الآن هي ذات أهمية علمية كبيرة. حلّي كان هو أن مذهب الإنتقاء الطبيعي هو برنامج البحث الميتافيزيقي الأكثر نجاحاً على الإطلاق…) [بوبر 1978، ص344].

(لقد غيرت رأيي بشأن قابلية الإختبار والحالة المنطقية لنظرية الإنتقاء الطبيعي؛ ويسعدني أن تتاح لي الفرصة للإعتراف بذلك الخطأ…) [ص345].

(نظرية الإنتقاء الطبيعية ربما صيغت لتكون بعيدة كل البعد عن أن تكون حشواً. في هذه الحالة أتضح أنها ليست فقط قابلة للإختبار، وإنما هي حقيقة على المستوى الكوني وبصرامة. يتضح أن هنالك بعض الإستثناءات، كما هو الحال مع الكثير من النظريات البايولوجية؛ وبالنظر الى الطابع العشوائي الذي يعمل عليه الإنتقاء الطبيعي، فليس من المستغرب حدوث إستثناءات) [ص346].

إلّا أن الخلقيين لم يصححوا موقفهم من آراء بوبر وانه اصبح يؤمن أن التطور نظرية علمية وغير مفبركة، وضلّوا يستشهدون بكلامه القديم بأنَّ التطور مجرد حشو كلام ونظرية غير قابلة للإختبار.

قد يطعن البعض بوجهة نظري بأن بوبر لم يشكّ أبداً بقابلية التطور للخضوع الى الإختبار بالإستشهاد بما يلي:

(أنا أشعر بالخجل لقيامي بهذا الإعتراف؛ عندما كنت أصغر عمراً، أعتدت أن أنتقد الفلسفات التطورية بشيء من الإزدراء. قبل 22 عاماً وصف كانون تشارلز ريفان في كتابه “العلم، الدين، والمستقبل”، وصف جدل الدارونية بأنها “زوبعة في فنجان شاي فيكتوري”، وقد وافقت على وصفه هذا، لكنني أنتقدته لإعطائه الكثير من الإهتمام للـ”أبخرة المتصاعدة من ذلك الفنجان”، والذي قصدت به ذلك الهواء الساخن للفلسفة التطورية (بالأخض أولئك الذين قالوا لنا أن هنالك قوانين لا ترحم للتطور). لكنّي الآن وبعد كل شيء علي أن أعترف بأن هذا الكوب من الشاي قد أصبح، وبعد كل شيء، كوب الشاي خاصتي أنا؛ ومعه لا بد لي من تناول فطيرة صغيرة) [بوبر 1972 ، ص241].

لكنه وفي أعماله المبكرة، حدد هذه “الأبخرة” على أنها (الأنظمة العظيمة للفلسفة التطورية، المنتجة بواسطة بيرغسون، وايتهيد، سموتس وآخرون.)[بوبر 1957، ص106]. إنه لم يكن يتحدث، أنذاك، من ناحية علمية عن نظرية التطور ولكن في شتّى النظريات الميتافيزيقية. لقد أتخذ قراراً واضحاً بين الإثنين. ولقد أعرب عن دعمه لفكرة داروين في التطور والإنتقاء الطبيعي بلغة واضحة وصريحة:

(ما أظهره داروين لنا كان ميكانيكية عمل الإنتقاء الطبيعي، من حيث المبدأ، محاكاة لأعمال الخالق وهدفه وتصميمه، وذلك يمكنه أن يحاكي أيضاً عمل الإنسان العقلاني الموجه نحو غرض أو هدف.) [بوبر 1972، ص267، وراجع أيضاً، بوبر 1978، ص342-343].

يتبع …….