أذكر جلوسي أمام كتابي المدرسي في أواخر التسعينيات، وكيف كان البحث يبدو مهمة شاقة، فما بالك بكتابة مقطع لشرح معلومات عن نهر النيل أو دجلة أو تاريخ إقليم معين في امتحان اليوم التالي؟ أكتب هذه السطور لأنني خضت تلك التجربة مرات عديدة حتى أصبحت عملية البحث والتقصي واستخلاص المعلومات في ذهني عملية ميسرة. لكنني أستخدم الذكاء الاصطناعي – النماذج اللغوية الكبيرة – أيضًا في كتابة هذا المقال، وأعتقد أنني أستخدمه بشكل استراتيجي مع امتلاكي للخبرة المناسبة. لكن كيف سيواجه طالب ما واجهته وهو يمتلك هاتفه بجانبه، ويمكن لأي روبوت أن يعطيه الإجابة في ثوانٍ؟ ما الآثار المترتبة على المهارات الإدراكية؟ ينقل هذا المقال جزءًا من المخاوف التي أوردتها صحيفة الغارديان البريطانية على لسان عدد من العلماء.
نقل الجهد الذهني إلى الذكاء الاصطناعي أصبح جزءًا من حياتنا اليومية، لكن هذه ليست المرة الأولى التي تثير فيها التكنولوجيا مخاوف بشأن تأثيرها على الدماغ. على سبيل المثال، تُظهر الدراسات أن محركات البحث مثل جوجل تُقلل من قدرتنا على تذكر المعلومات، حيث نعتمد على الإنترنت كـ”ذاكرة خارجية”. كما أظهرت أبحاث عالمة الأعصاب فيرونيك بوهبوت (Veronique Bohbot) والباحثة لويزا داهماني (Louisa Dahmani) أن الاعتماد على أنظمة تحديد المواقع (GPS) يُقلل من نشاط الحُصين، وهو جزء الدماغ المسؤول عن الذاكرة المكانية[1].
محركات البحث، وهي تقنية نستخدمها منذ التسعينيات، صارت لها آثار متباينة واضحة على العمليات الإدراكية. من جهة، تُعد محركات البحث بمثابة امتداد لأذهاننا، حيث لا نحتاج إلى حفظ معلومات معينة عندما نعرف كيفية الوصول إليها، كما أنها تُمثل نوعًا من التعاون، مثل التعاون مع زملاء العمل الذين يشاركوننا المعلومات. [2] كما تُظهر دراسات أن استخدام تقنيات البحث يُنشط مناطق في الدماغ لا تُفعّل عادةً أثناء القراءة التقليدية، مما يُعد تأثيرًا إيجابيًا[3]. في الوقت نفسه، تُسهم محركات البحث في إضعاف ذاكرتنا وفق دراسات أخرى.[4]
وحين يُقال إن التقنيات كانت دائمًا في تطور مستمر وأن البشر تأقلموا وتطوروا معها، فهذا صحيح إلى حد ما، لكن يجب أخذ بعض الجوانب بعين الاعتبار: إن مسيرة التقنيات خلال الـ10 آلاف سنة الماضية تختلف كليًا عن القرن الأخير، وإن الـ20 سنة الأخيرة من التقنية تختلف بشكل كبير في قدراتها عن القرن السابق. بمعنى أن تعميم فكرة التطور المضطرد غير صائب حين يعيش البشر في وضع استثنائي جدًا. ففي حين لا تُسبب الأدوات التقليدية، مثل العزف على الآلات الموسيقية[5]، فإن التقنيات الأحدث تظهر آثاراً مختلفة وفق الدراسات.
ما يجعل هذه التقنيات الحديثة استثنائية مقارنة بالأدوات في القرون السابقة هو سرعتها وشموليتها. الأدوات القديمة، مثل الخرائط الورقية أو الكتب، تطلبت جهدًا ذهنيًا لفهمها واستخدامها، مما عزز التفكير النقدي والذاكرة. كما أن الآلات السابقة لا تحل محل وظيفة من وظائف الدماغ بشكل كامل كما تفعل النماذج اللغوية الكبيرة حين تجيب على أسئلتنا. الذكاء الاصطناعي ومحركات البحث تُقدم إجابات فورية دون الحاجة إلى معالجة عميقة، مما يُقلل من الجهد الذي يستغرقه الدماغ عادةً لأداء المهمة ذاتها. كما أن هذه التقنيات تُستخدم على نطاق واسع وبشكل مستمر، مما يجعل تأثيرها على الدماغ أكثر عمقًا من الأدوات المحدودة الاستخدام في الماضي. فلم يستخدم أحد المطرقة أو البيانو أو أدوات الحفر على الخشب أو الآلة الحاسبة الصغيرة طيلة الوقت وفي كافة مهام الحياة، على سبيل المثال.
ذكرت الغارديان أن الدراسات تشير إلى أن استخدام الذكاء الاصطناعي للمهام المتعلقة بالذاكرة قد يُضعف قدرة الفرد على التذكر. يركز البحث بشكل رئيسي على الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يتيح لأي شخص يمتلك هاتفًا أو جهاز كمبيوتر الوصول إلى إجابات فورية، كتابة مقالات، برمجة، أو إنتاج أعمال فنية. تُشير تقديرات جولدمان ساكس لعام 2023 إلى أن هذا الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُعزز الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 7% خلال عقد، أي حوالي 7 تريليون دولار. لكن الخوف يكمن في أن أتمتة هذه المهام تُحرم الأفراد من ممارسة مهاراتهم الذهنية، مما يُضعف المسارات العصبية التي تدعمها، تمامًا كما يؤدي إهمال التمارين البدنية إلى تدهور العضلات.
تؤكد الأبحاث هذه المخاوف، كما ذكرت الغارديان. فقد أجرى مايكل جيرليتش (Michael Gerlich) في مدرسة SBS السويسرية للأعمال دراسة على 666 شخصًا في المملكة المتحدة، ووجد ارتباطًا واضحًا بين الاستخدام المكثف للذكاء الاصطناعي وتراجع مهارات التفكير النقدي، خاصة لدى الشباب الذين يعتمدون بشدة على هذه الأدوات مقارنة بالبالغين الأكبر سنًا. كذلك، أظهرت دراسة أجراها باحثون من مايكروسوفت وجامعة كارنيجي ميلون على 319 محترفًا يستخدمون الذكاء الاصطناعي التوليدي أسبوعيًا أن هذه التقنية، رغم تحسين الكفاءة، تُعيق التفكير النقدي وتُشجع على الاعتماد المفرط عليها، مما قد يُضعف القدرة على حل المشكلات بشكل مستقل.
أما بالنسبة لتأثير الذكاء الاصطناعي على التفكير النقدي، فقد أشارت الدراسات إلى أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي يُقلل من القدرة على تحليل المعلومات بشكل مستقل، حيث يُقدم إجابات جاهزة تُهمل الحاجة إلى التفكير العميق. كما أن نظام المكافأة في الدماغ، الذي يُحفز الإدراك المفاجئ، يُضعف بشكل أقل عندما يُولد الأفكار من الذكاء الاصطناعي، كما أوضح جون كونيوس (John Kounios). هذه المكافآت الذهنية تُعزز التعلم والإبداع، لكن الإجابات المُولدة بالذكاء الاصطناعي لا تُحفز هذا النظام بنفس القدر، مما قد يُحد من تطور الدماغ على المدى الطويل.
في مقال نُشر في مجلة الذكاء وأوردته الغارديان، يُعبر روبرت ستيرنبرغ (Robert Sternberg) عن قلقه قائلاً: “الذكاء الاصطناعي التوليدي تكراري. يستطيع إعادة ترتيب الأفكار، لكنه قد لا ينتج الأفكار الثورية اللازمة لحل التحديات الكبرى مثل تغير المناخ، التلوث، العنف، الفوارق الاقتصادية، والتسلط السياسي.”
قد تستفيد كثيرًا من الذكاء الاصطناعي في إنجاز المهام التي كانت تستغرق وقتًا طويلاً، لكن تذكر أن الدماغ هو العضو الأكثر لدونة وقدرة على التغيير، وهذا التغيير ليس إيجابيًا دائمًا، فقد تخسر كفاءتك في أداء المهام التي تُسندها إلى الذكاء الاصطناعي.
المصادر
مقال الغارديان:
Helen Thomson , ‘Don’t ask what AI can do for us, ask what it is doing to us’: are ChatGPT and co harming human intelligence?, 19 Apr 2025
مصادر أخرى:
[1] Dahmani, Louisa, and Véronique D. Bohbot. “Habitual use of GPS negatively impacts spatial memory during self-guided navigation.” Scientific reports 10.1 (2020): 6310.
[2] العلوم الحقيقية، أثر البحث في الانترنت على الذاكرة البشرية RS01
[3] Small, Gary W., et al. “Your brain on Google: patterns of cerebral activation during internet searching.” The American Journal of Geriatric Psychiatry 17.2 (2009): 116-126.
[4] Korte, Martin. “The impact of the digital revolution on human brain and behavior: where do we stand?.” Dialogues in clinical neuroscience 22.2 (2020): 101-111.
[5] Pascual‐Leone, Alvaro. “The brain that plays music and is changed by it.” Annals of the New York Academy of Sciences 930.1 (2001): 315-329.