كارول ترافيس (skeptic.com) كتب ميتش هورويتز (Mitch Horowitz) في كتابة عن فكرة بسيطة، وهي: كيف يمكن للتفكير الإيجابي إعادة تشكيل مجتمعنا في الحياة المعاصرة. حيث قام بالاستجابة لمهمة أوكلت إليه من قبل معلمه في مجموعة دعم خلال إحدى رحلات التخييم الشتوية. والمهمة كانت البحث عن دلاء وردية اللون بشكل قلب للفتيات اللاتي لا يرغبن في المغامرة في الغابة الجليدية لقضاء حاجتهن. فقد قام بالبحث عن الدلاء لعدة أيام، وهذا ما أغضب زوجته التي اشتكت من عدم قيامه بنفس الجهد للمهام المنزلية. وبعد فترة وجد ما كان يبحث عنه، حيث وجد الدلاء المناسبة في أحد متاجر البقالة. وقال “عندما تحاول بشكل يتجاوز كل الجهود التي يمكن ان تبذلها في الحالة الطبيعية، ولا يبقى أمامك سوى الاستسلام كخيار وحيد، فأنك ستحصل على شحنة معنوية لا يمكن لأي شيء احتواها”.
من المحتمل أن يكون ردك على هذه القصة هو نفس الرد على حركة التفكير الإيجابي بشكل عام. هل فكرت في “التحدث عن قائمة الدلاء، يا له من سرد جميل عن التفكير الإيجابي والمثابرة والنجاح الغير المتوقع”، أم أنك فكرت في “لماذا يرغبون بدلاء وردية على شكل قلب؟، شكرا ميتش سوف اقضي حاجتي في مرحاض المنزل خاصتي، لذلك لا يجب أن أشم رائحة البول طول الليل، أو أن اقلق بالتعثر به خلال الصباح. وماذا عن تلك المهام المنزلية التي يكن يفعلها رغم طلب زوجته منه؟”.
على مر السنين اصبحت منزعجة من التفكير الإيجابي. أنا لا اعترض عليه كاستراتيجية عامة للحياة، لكن اعترض عليه عندما يبالغ في فوائد مزعومة والتي تنتج مشكلة علمية. على مر السنين حصل تحديث مستمر للكتب المنهجية التمهيدية لعلم النفس مع الكاتبة كارول ويد (Carole Wade)، حيث تقودنا الابحاث الجديدة إلى تضييق نطاق مناقشاتنا السابقة حول فوائد علم النفس الإيجابي إلى حدٍ ما. ففي أحدث الإصدارات لدينا أصبح علم النفس الإيجابي قزم أمام حجمه السابق.
لنبدأ بالتفاؤل. عندما يحدث لك شيء سيء، فإنك سوف تفكر بأنك ستحصل على شيء جيد بالمقابل، أو أنك سوف تخبر نفسك “العالم كله ضدي، بما في ذلك مينيابوليس وتاسمانيا”. يجعل التفاؤل الحياة ممكنة عند التعرض لنكسات عرضية بشكل أساسي. فالأشخاص يتوقعون أن الامور سوف تتحسن عند تعرضهم لموقف صعب، ومن المحتمل أنهم سيواصلون السعي لتحقيق هذا التوقع. حتى مشجعي الأندية الفاشلة، الذين لم تحقق نواديهم أي انتصارات، فهم يحتفظون بتفاؤل مجنون مفاده “سيكون هنالك عام آخر” انظروا حتى النادي الفلاني فعلها في النهاية.
منذ عقد مضى، كانت الدراسات تشير إلى أن التفاؤل مفيد للصحة والرفاهية وحتى أنه يطيل العمر أكثر من التشاؤم. وحتى أن بعض المرشدين النفسيين يزعمون أن وجود رؤية متفائلة يمكن أن يطيل حياة الأشخاص الذين يعانون من امراض خطيرة. لكن ثبت أن هذا الأمل كاذب: فقد وجد فريق من الباحثين الأستراليين الذين تابعوا 179 مريضاً بسرطان الرئة على مدى ثماني سنوات أن التفاؤل لم يحدث فرق في فترة البقاء على قيد الحياة. فيما مضى كانت الدراسات تظهر فوائد التفاؤل، بينما كانت هنالك دراسات لم تظهر أي تأثير له، بل اظهر انه يمكن ان يكون له تأثير ضار. هذا وبالإضافة إلى أنه من المرجح ان يستمر المتفائلين في لعب القمار إلى أن يخسروا أموالا اكثر، وقد يكونوا أكثر عرضة للاكتئاب في حال عدم حدوث النتيجة الوردية المأمولة. (من بين كبار السن والأرامل، يقل احتمال أن يصبح المتشائمون مكتئبين اكثر من المتفائلين). كما ان التفاؤل يؤدي إلى نتائج عكسية عندما يمنع الأشخاص من إعداد أنفسهم لمضاعفات الجراحة (لأنهم يلغون مخاطر العملية الجراحية بفكرة “حسنا، سيكون كل شيء على ما يرام”) او قد يؤدي بهم الأمر إلى الاستهانة بمخاطرها.
التفاؤل يحتاج إلى العمل لكي يتحقق، لذلك يمكننا القول إن التفاؤل مع بعض التشكيك مطلوب. يمكنك القول “كل شيء على ما يرام! أنا رائع! كل شيء سيعمل!” 20 مرة في اليوم، لكنه لن يلب لك الكثير (باستثناء نظرات القلق من جيرانك). يجب ان يكون التفاؤل مستنداً إلى الواقع، وإلى تحفيز الأشخاص لرعاية أنفسهم بشكل أفضل، والنظر إلى المشاكل والأخبار السيئة باعتبارها صعوبات يمكن التغلب عليها، والخروج من الاريكة لحل مشاكلهم. يحتاج التفاؤل إلى شريك مهم وهو العمل.
تم تأكيد ذلك عن طريق واحدة من أطول الدراسات التي أجريت على في علم النفس. فقد بدأ لويس ترمان (Lewis Terman) في عام 1921 بمتابعة أكثر من 1500 طفل على مدار حياتهم. تم تعقب هؤلاء الأطفال، الذي كان يطلق عليهم النمل الابيض، لفترة طويلة حتى بلوغهم سن الرشد، وعندما توفى ترمان في عام 1956 اكمل المشروع باحثون آخرون. حيث أكمل المشروع كلا من عالمي النفس هوارد فريدمان (Howard Friedman) وليزلي مارتن (Leslie Martin)، مؤلفا كتاب “مشروع طول العمر“، الذي تساءل عن العوامل التي يمكن أن تكون مرتبطة بطول العمر في هذه العينة. ولم يكن الجواب أنه التفاؤل أو أي من أشكال التفكير الإيجابي. بل كان الاجتهاد – القدرة على الاستمرار في السعي لتحقيق الأهداف، العمل الجاد ولكن بشرط الاستمتاع بالعمل وتحدياته، ان تكون مسؤولا تجاه الآخرين وعن الالتزامات الفردية. اجتهاد الاشخاص المتفائلين بمعنى أنهم يعتقدون أن جهودهم ستؤتي ثمارها، ولكن الأهم من ذلك أن يقوموا بسلوك طرق لجعل هذه التوقعات ممكنة. تم تكرار التجربة على 20 عينة أخرى مستقلة حيث كان عدد كبير من المشاركين في التجربة من الطبقة الوسطى ومن البيض، وكانت النتائج مع الـ 20 عينة مطابقة.
لم تصمد أي من المفاهيم الأساسية لعلم النفس الإيجابي أمام الأدلة. لنأخذ تقدير الذات مثلاً (واتمنى ان يكون لدى الجميع تقديراً لذواتهم). فكر في جميع البرامج المصممة لتعزيز تقدير الذات لدى الأطفال والبالغين من خلال جعلهم يرددون جمل إيجابية مثل “انا محبوب!” فهذا جيد للأشخاص الذين يمتلكون ثقة عالية بالنفس، وهم على يقين بأنهم محبوبون، على الاقل لمعظم الوقت. ولكن بالنسبة للأشخاص الذي لا يملكون تقدير كافي لذاتهم، إن تكرار الجمل الإيجابية وتوقع صحتها يجعلهم يشعرون بسوء اكثر من الأشخاص الذين لا يكررون هذه العبارات او الأشخاص الذين لا يركزون على صحة هذه العبارات. كما ان الثناء المبالغ به (“لقد رسمتم رسما رائعا”) عندما يمنح للأطفال الذين ليس لديهم تقدير كافي للذات يكون مرضي بشكل مؤقت، او على المدى القصير، لكنه لا يشجعهم في مواجهة التحديات الجديدة التي يخشون عدم قدرتهم على تجاوزها. لكي يكون تقدير الذات فعالاً، يجب أن يرتبط الثناء واحترام الذات مع الواقع: يجب ان يركز الشخص على نقاط قوته الحقيقية، القيم الإيجابية، الصفات الجيدة ومن ثم استخدامها في الاختبارات والعمل على واقعية الأهداف .
كما أن المرح يعتبر مبالغ به للأشخاص أصحاب المزاج السيء، وهذا أمر لا يمكن اعتباره مفاجئ. حيث استعرض عالم النفس جوزيف فورجاس (Joseph Forgas) في مقالته “لا تقلق، كن حزينا!” العديد من التجارب والدراسات، بما في ذلك تجربته، موضحا أن عندما يكون المرء في حالة كآبة فيمكن ان تتحسن الذاكرة، أن تقل الأخطاء في الحكم، يزداد الحافز، كما أن ذلط يجعله أكثر قبولاً ومراعاة لطلبات الآخرين، مع تقليل الأنانية مقابل النزاهة في التعاملات مع الآخرين، فضلاً عن تقليل السذاجة وزيادة الشكوك وتحديد الحقيقة المحتملة للخرافات والشائعات. هل هذا اكتشاف كبير ام ماذا؟ المتشككين يجب أن ترفعوا شعار جديد: كن كئيباً قبل النوم وعند الاستيقاظ.
فورجاس كان يتحدث عن المزاج السلبي، وليس عن العاطفة. ففي حالة استمرار الغضب الشديد أو الحزن أو القلق او حتى الفرح فإن الأمر نادرا ما يؤدي إلى تحسين التفكير النقدي. ومع ذلك، فإن فكرة “النسبة الإيجابية” المكتشفة حديثا والتي تم اقتراحها من قبل علماء النفس الإيجابيون باربارا فريدريكسون (Barbara Frederickson) ومارسال لوسادا (Marcial Losada)، والتي تنص على أننا بحاجة للحفاظ على نسبة 3:1 من المشاعر الإيجابية إلى المشاعر السلبية من أجل الرفاهية، تم دحضها ببراعة من قبل نيك براون (Nick Brown) طالب الدراسات العليا البريطاني الذي ذكر بان البيانات الاساسية كانت مثالية بشكل يجعل من غير الممكن ان تكون صحيحة، وهو على حق. ففي عام 2013، نشر هو وزملاؤه تقييماً، يخلص إلى عدم وجود أساس نظري أو تجريبي لنسبة الإيجابية إلى السلبية، وأن أي مطالباته “لا أساس لها من الصحة تماما”.
لا يوجد شيء جديد عن حركة التفكير الإيجابي في أمريكا، والتي ولدت في القرن التاسع عشر مع فلسفة ماري بيكر ايدي (Mary BakerEddy ) في العلوم ذات الطبيعة الدينية المسيحية، وفلسفة فينس كويمبي (Phineas Quimby) للفكر الجديد. لقد توقعوا أن التوجه نحو التفكير السلبي يمكن أن يبقى الناس عاجزين عن تجاوز معاناتهم، ويشاركهم هذا التوقع كل من الرواقيون والمعالجون السلوكيون في وقتنا الحاضر. بالطبع، يمكن لأفكارنا ان تؤثر مشاعرنا وتصرفاتنا. لكن المشكلة التي يواجهها مجتمعنا ليست الحاجة إلى المزيد من الاشخاص الإيجابيين، بل الحاجة إلى عدد كافي من الأشخاص الذين يشككون بعلم النفس الإيجابي.
المصدر:
Carol Tavris, “Negative side of positive psychology”, skeptic.com, from Carol Tavris’ column, “The Gadfly,” that appeared in Skepticmagazine 19.3 (2014).
موضوع رائع
رائع