العد هو عملية تسجيل فعل تكراري معين، أو كمية معينة نراها، أو أي شيء تدركه حواسنا الخمس ونحاول معرفة المقدار الدقيق لكميته. والعد يرتبط كثيراً بمفهومنا للأرقام، كما يرتبط لدينا بالحساب، مما يجعلنا نراه كعملية معقدة من عمليات الدماغ، وقد لا يكون كذلك. سنحاول في هذا المقال أن نتوصل إلى المواضع المختصة بالعد في الدماغ، وإلى دور العد في الحساب، وقدم العد ووجوده في الحيوانات الأخرى، وأثر التنوع الثقافي بين الشعوب ومفاهيم الأرقام لديها على العد.
في بحثهما عن العد، يناقش هانك ديفيس (Hank Davis) وريتشيل بيروس (Rachelle Perusse) مفهوم العد لدى الحيوانات، وتحديداً الحيوانات الأخرى غير الإنسان. ويخلصان إلى أن العد بأبسط مفهوم له لا يشترط أن يتضمن وجود رموز للأرقام أو ذكر للأرقام بل مجرد أي عملية ترقيم ذهنية للأحداث[1]. وبذلك يكون مفهوم العد مجرداً أكثر وواضحاً بالنسبة لنا.
في دراسة أجريت على المصابين بالخرف من الكبار في السن، لوحظ أن أول ما ينساه المرضى هو شعورهم بالزمن والمكان، ومن ثم قدرتهم على التمييز، وآخر ما كانوا ينسونه هو العد ثم أسماءهم[2]. وتذكر الدراسة التي نشرت عام 1977، أن العد هو من الوظائف الادراكية البدائية لدى الانسان والتي تكون موجودة لديه منذ سن الـ 12 شهر.
يتعلم الأطفال في مرحلة لاحقة من حياتهم الحساب، أي العمليات الحسابية، وهي تكون قائمة الى حد كبير على عملية العد، سواء العد بالأصابع أو العد بالكلام. يتطور الأمر لاحقاً لتتكون لدى الأطفال روابط معينة، مثل الرابط بين 5 و7 ونتيجة جمعهما 12 على سبيل المثال. يعرف الباحثون تشو وزملاءه في دراستهم المنشورة عام 2011 هذا التحول بالانتقال من العد الى الاستعادة [3].
وتذكر نفس الدراسة أن الانتقال هذا يتزامن مع اعتماد كبير من قبل الأطفال على قرن آمون (hippocampus) في عملية الحساب المستندة إلى العد، بالإضافة إلى القشرة الجبهية الظهرية الوحشية (dorsolateral prefrontal cortex) وقشرة الفص الجبهي البطني (ventrolateral prefrontal cortex)، فيما يعتمد البالغون على التلم داخل الجفن (intraparietal sulcus) والتلفيف فوق الحرج (supramarginal gyrus). وقد أظهرت الدراسة تساوياً في قابليات الحساب وسرعة الحساب لكل من التقنيتين، تقنية الاسترجاع وتقنية العد.
وقد وجدت الدراسة أن الاعتماد على الاسترجاع قد يكون ذو جهد أكبر من الاعتماد على العد، وذلك عند مقارنة نشاط أجزاء الدماغ للمجموعتين الخاضعتين للاختبار في الدراسة بواسطة تقنية الرنين المغناطيسي الوظيفي.
لفهم الموضوع أكثر ومعرفة موضعه دماغياً ربما علينا أن نتساءل عن الحالات المرضية التي تعرقل او توقف العد. عجز الرياضيات (Dyscalculia) هي حالة مرضية يعاني المصابون بها من عسر في فهم الأرقام والقيام بالعمليات الحسابية. وترجع هذه الحالة إلى خلل في الجزء الذي ذكرناه في الدماغ آنفاً وهو التلم داخل الجفن (intraparietal sulcus)[4] وفي الفص الجبهي أيضاً. غير أن الغريب هو أن المصابين بهذه الحالة يقومون بالحساب بواسطة أصابعهم [5]، فهل تؤثر هذه الحالة على العد بذاته؟ أم على تقنية الاسترجاع التي تستخدمها ادمغتنا للحساب؟ في الحقيقة، تتأثر عملية العد أيضاً لدى هؤلاء، فيُمكن أن يفقدوا تسلسل الأرقام بينما يقومون بالعد، لذا يلجؤون الى اصابعهم لإضافة وسيلة بصرية مساعدة في التتبع. لا يعاني المصابون بهذه الحالة من مشكلة مع الحساب والعد فحسب، بل مع كل ما يتضمن التعامل مع الأرقام.
يُمكن ملاحظة دور العد في تقييم وظائف الدماغ بالإجراءات التي تجرى اثناء الجراحات الدماغية حيث يتم إخبار الشخص الخاضع للعملية بالقيام بالعد[6]. وذلك ضمن الجراحة الدماغية في اليقظة (awake brain surgery).
إلى جانب العد، نحن نتمتع بقدرة أخرى ذات صلة بالعد، وهي التقدير البصري السريع لعدد معين من الأجسام أمامنا، يُعرف هذا بالانجليزية بـ (Subitizing). قد ترتبط هذه القدرة بتحديد الكثير والقليل بشكل عام، لكنها أيضاً دقيقة وفعالة لمعرفة الأعداد القليلة بالضبط. يُمكن أن ترى أمامك أربعة أو ثلاثة كرات مباشرة في الصورة على سبيل المثال.
إحدى الحالات الدماغية الغريبة ذات الصلة بالادراك البصري السريع للأعداد والعد أيضاً هي متلازمة بالينت (Bálint’s syndrome) الغامضة. وأضرار هذه المتلازمة تظهر في تعيين مواضع الأشياء، غير أن الأشخاص الذين يعانون من هذه المتلازمة يتمتعون بالإدراك البصري السريع للأعداد ضمن النطاق المألوف له (أي الاعداد القليلة)[7] أما خارج هذا النطاق فهم يخطؤون بذكر الأرقام أو أنهم يقومون بذكر آخر رقم وصلوا اليه بشكل مكرر. تحدث متلازمة بالينت نتيجة ضرر في الفص الجداري (parietal lobe) في الدماغ، وبذلك نرى أن وظيفة الإدراك السريع للأعداد لا تتأثر بها ضمن النطاق الطبيعي لها رغم تضرر جوانب الادراك البصري الأخرى.
العد قد يكون أقدم منا نحن البشر، ففي دراسة على قردة الريسوس (rhesus) قام الباحث اندرياس نيدير (Andreas Nieder) بقياس النشاط الكهربائي لدى قردة الريسوس بينما يتم عرض أرقام معينة لهم مقابل عدد من النقط التي يضغطون عليها للحصول على مكافأة. وهنا قد يقول قائل أن القردة اكتشفوا فقط أن الأرقام هذه ستقود للمكافأة، لكن في الواقع، فإن النشاط الكهربائي لأدمغة القردة وجد إشارات في عصبونات محددة تستجيب للأرقام من 1-4 مما أدى بالباحث إلى أن يقترح ان العد محبك في عقول القردة كمهارة موجودة مثل أي مهارة أخرى وليس كشيء مكتسب. جزء الدماغ الذي كان يحتوي على تلك العصبونات في أدمغة القردة كان القشرة الجبهية (prefrontal cortex)[8].
ويرى بعض الباحثين أن العد لا يتطلب الكثير من التعقيد في الوظائف الدماغية، حيث قام باحثون من المانيا وبريطانيا بإنتاج محاكاة لدماغ يستطيع تخمين الأعداد بالاستناد على أربع عصبونات فحسب، قائلين إن دماغاً كهذا هو أقل تعقيداً بكثير من دماغ النحلة مثلاً[9].
لكن عند الكلام عن أقدمية العد، ووجوده لدى الحيوانات مثلاً، لماذا نسمع أن بعض لغات الأقوام البدائية لا تحتوي سوى على رقم أو رقمين؟ هذا ما نجده مثلاً في لغة قبائل أندامان التي تحتوي على رقمين فقط، واحد واثنان ثم تعابير عن الكثرة. في الحقيقة، إن غياب الأرقام لغوياً لا يعني غيابها ذهنياً وهذا ما رأيناه في قردة الريسوس مثلاً. وقد أثبت ذلك باحثون استراليون وانجليز عندما قاموا بتجربة شملت 45 طفلاً من سكان أستراليا الأصليين والناطقين بلغاتهم المحلية التي تفتقر لأنظمة الأرقام. كان على الأطفال ملاحظة ما يقوم به الباحثون لعدد من المرات ثم أن يقوموا بإظهار ذلك بعدد من الأجسام الموجودة أمامهم، أي أن عليهم العد أولاً ثم إظهار العدد الذي وصلوا إليه بالأجسام الموجودة. وقد وجد الباحثون أداءاً متماثلاً من قبل هؤلاء الأطفال مع الأطفال الناطقين بالانجليزية. ببساطة، قدرة العد كانت موجودة رغم غياب الأرقام لغوياً[10]. وقد وجد باحثون أيضاً أن العد موجود في أدمغة الأطفال وهم في الأشهر الأولى من عمرهم أيضاً[11].
الأسئلة العالقة بعد هذا المقال، ربما تفتح آفاقاً لدراسات أخرى حول تأثير العد، او ربما بعض الفوائد له، كيف يتأثر حسابنا باللغات الأخرى؟ كيف تؤثر العقاقير المختلفة ومنها العقاقير المخدرة على العد؟ كيف يؤثر العد علينا، هل يفيد بأي شكل غير فائدته كوظيفة مساعدة للحساب؟
المصادر:
[1] Gallistel, C. R. (1988). Counting versus subitizing versus the sense of number. Behavioral and Brain Sciences, 11(04), 585. doi:10.1017/s0140525x00053504
[2] Fishback, David B. “Mental status questionnaire for organic brain syndrome, with a new visual counting test.” Journal of the American Geriatrics Society 25.4 (1977): 167-170.
[3] Cho, Soohyun, et al. “How does a child solve 7+ 8? Decoding brain activity patterns associated with counting and retrieval strategies.” Developmental science 14.5 (2011): 989-1001.
[4] Rotzer, S; Loenneker, T; Kucian, K; Martin, E; Klaver, P; von Aster, M (2009). “Dysfunctional neural network of spatial working memory contributes to developmental dyscalculia”
[5] DEVON FRYE, tWhat Does Dyscalculia Look Like in Adults?, DECEMBER 12, 2019, MEDICALLY REVIEWED BY ADDITUDE’S ADHD MEDICAL REVIEW PANEL
[6] Chang, Wei-Han, et al. “Intraoperative linguistic performance during awake brain surgery predicts postoperative linguistic deficits.” Journal of neuro-oncology 139.1 (2018): 215-223.
[7] Dehaene, S. & Cohen, L. (1994). “Dissociable mechanisms of subitizing and counting: neuropsychological evidence from simultanagnosic patients”. Journal of Experimental Psychology: Human Perception and Performance. 20 (5): 958–975. doi:10.1037/0096-1523.20.5.958.
[8] Roxanne Khamsi, “Monkeys reveal brain is hard-wired for counting”, New Scientist, 30 October 2007
[9] Vasas, Vera, and Lars Chittka. “Insect-inspired sequential inspection strategy enables an artificial network of four neurons to estimate numerosity.” iScience 11 (2019): 85-92.
[10] Brain’s counting skill ‘built-in’, BBC, 19 August 2008
[11] Johns Hopkins University. “Babies understand counting years earlier than believed.” ScienceDaily. ScienceDaily, 24 October 2019.