يعتبر الطعام من أهم حاجات البقاء الفيسيولوجية. هناك دراسات عديدة تناولت الصراع والقتال بين أفراد النوع الواحد من أجل التزاوج. لكن هل تتقاتل الحيوانات على الغذاء أيضاً؟ كيف درس العلماء هذا الأمر وهل يُمكن أن ينعكس على البشر أيضاً؟
أجرى مركز جي بي سكوت لعلم الأعصاب والعقل والسلوك والعلوم البيولوجية في جامعة بولينغ غرين ستيت عام 2001 دراسة حول استراتيجيات القتال عند جراد المياه العذبة في حالة الجوع وحالة وجود إشارات تدل على وجود الطعام. تخوض الحيوانات معارك ضارية عندما تكون المصادر المتنازع عليها في خطر. من المفترض أن تُبدي الحيوانات الجائعة حالة تحفيزية متصاعدة أكثر من الحيوانات غير الجائعة في حال وجود الطعام بعد فترة حرمان لا بأس بها. فكيف هو الحال لدى جراد المياه العذبة الذي يملك سلاحاً خاصاً به على شكل كلّاب؟ ما تأثير الجوع وما تأثير وجود إشارات تدل على وجود الطعام على قرار الولوج في قتال؟
جمع الباحثون ذكور جراد المياه العذبة، ووضعوهم في وعاءين منفصلين. كانوا يقدمون للمجموعة الأولى الطعام كل يومين، بينما حُرمت المجموعة الثانية من الطعام. استمرت التجربة لمدة 14-17 يوم. خلالها اكتسب أفراد المجموعة الأولى وزناً على خلاف المجموعة الثانية التي خسرت وزناً. بعدما أعيد دمجهم، أبدت المجموعة الجائعة ميلاً أكبر للمخاطرة والقتال. لكن ما لبث أن تضاءل ذلك في حال تقديم الطعام الذي كان عبارة عن ديدان. حيث لم تُبدي أفراد المجموعة الثانية مبادرات للقتال جديرة بالاهتمام. فلم يكن هناك اختلاف في سلوك القتال بين المجموعة المحرومة من الطعام وتلك المتخمة. كما لم تبدي المجموعة الثانية اختلافا في سلوك القتال عند حدوث المتغيرات! (1)
في دراسة أخرى أجريت على الصراصير المنزلية وتأثير الحجم ومعدل الجوع على القتال من أجل الطعام. أجريت الدراسة في جامعة شفيلد (Sheffield University) ونشرت في صحيفة كندية لعلم الحيوان (Canadian Journal of Zoology) عام 2002. تمت دراسة ثلاثة عوامل مؤثرة في إمكانية نجاح القتال من أجل الطعام عند اناث وذكور الصراصير المنزلية وهي: العامل المرتبط بمن سيكون السبّاق في الوصول إلى الطعام، عامل حجم وكتلة الجسم، عامل معدل الجوع أي الحرمان من الطعام. عندما وضعت كرات طعام متحركة، كان لعامل السعي للاستيلاء على الطعام أولاً، كان لذلك الدور الأكبر في نجاح القتال. ونجحت الصراصير المدافعة أكثر من التي كانت في موقع الهجوم ويُرجح ذلك إلى أن المدافعين على معرفة أكبر بقيمة الموارد الموجودة أكثر من المهاجمين. لكن عندما ثُبّت الطعام (دون أن يكون هناك هجوم ودفاع)، كان لعاملي معدل الجوع وكتلة الجسم الأولوية في زيادة احتمال الاستيلاء على الطعام. عندما كان المهاجم والمدافع متساويين في معدل الجوع، كان للحجم وليس للكتلة دوراً أكبر في نجاح الاستيلاء على الطعام. لكن عندما تفاوت معدل الجوع بات تأثير حجم الجسم قليلا في احتمالية الاستيلاء على الطعام. نستنتج بذلك أن عامل الحجم قد كان معتمداً على معدل الجوع. لذلك كانت نتائج القتال عند الصراصير المنزلية تعتمد على التفاعل بين دوافع القتال (التي كانت الجوع) وحالة الطعام فيما إذا ثابتا أم لا. (2)
في دراسة حول اجراها باحثون من جامعة ويزليان والتي نُشرت في دورية علم النفس الفسلجي والمقارن (Comparative and Physiological Psychology) عام 1975 يمكن أن نأخذ مثالاً آخر على نوع آخر أقرب للبشر وهو الفئران. ما يُعرف عن فئران التجارب أنها تسلك سلوك قتالي في ثلاث حالات وبالتالي هناك ثلاث أنماط للقتال تم تمييزها عندها؛ أولاً عندما تشعر بخطر ما فإنها تأخذ وضع القتال الدفاعي (Defensive Fighting) أما النمط الثاني يحدث عندما يقوم فأر ذكر بالتطفل على موقع خاص بفأر ذكر آخر. عندها يقوم الذكر بالقتال الهجومي (Offensive Fighting). نُشرت العديد من الأوراق البحثية حول هذين النمطين من القتال واللذين يقعان تحت سيطرة منطقتين مختلفتين في الغدة النخامية. النمط الثالث من القتال وهو القتال التنافسي (competitive Fighting) والذي لوحظ عند إناث وذكور الفئران، ويحدث نتيجة التنافس من أجل هدف محفّز ومثير مثل الطعام، ويشابه هذا النمط وضعية القتال الهجومي وليس الدفاعي حيث تلجأ الفئران إلى العض والركل. أُجريت هذه التجارب على الفئران التي وضعت في مسكن واحد منذ حرمانها من الطعام لمدة 48 ساعة. كان القتال متكرر عند الأزواج التي لم تتشارك المهد أكثر من القتال بين أزواج المهد أو المسكن الواحد. الأمر ينطبق على الذكور والاناث. ربما كان السبب الذي يقف وراء القتال هو تجربة سابقة من الحرمان من الطعام. كانت الحيوانات الأكثر وزناً هي التي تبدأ بالهجوم وبالتالي هي التي كانت تحظى بالفوز. (3)
وفي دراسة أخرى على الفئران قام بها سامي وزملاؤه عام 1979 في جامعة سوانسي البريطانية (Swansea university)، قام الباحثون بتجربة للقتال بين أفراد النوع الواحد وذلك بحرمان ثمان وأربعين فأراً ذكراً وعددا مماثلاً من الاناث أيضاً من الطعام لمدة 36 ساعة. أدى ذلك إلى ظهور عجز واضح في القتال عند ذكور الفئران. رُبطت هذه النتائج مع نتائج دراسة أقدم حول القتال على الطعام بين الأنواع؛ حيث حُرمت فئران المخبر من الطعام فأدى ذلك إلى زيادة في سلوك قتل الفئران للجراد. قد تختلف الدوافع التي تقف وراء كل نوع من أنواع القتال (القتال بين افراد النوع الواحد والقتال بين الأنواع المختلفة)، لكن في نفس الوقت قد يكون بينها قاسماً مشتركاً. (4)
أجرى تشارلز جانسون (Charles Janson) 1985 في جامعة سياتل- واشنطن (University of Washington, Seattle) دراسة على قردة الجابوجين، دُرس تأثير المنافسة العدوانية بين القردة على كمية استهلاك الطعام. فوُجد أن كمية الطعام التي يحصل عليها الفرد لا تعتمد على حجم الجسم، وإنما على قدرة الأفراد المسيطرة على الحصول على الغذاء أكثر من الحيوانات التابعة وأيضاً على قدرتها على تحمّل العنف. في مصادر الغذاء التي يكون معدل القتال لأجلها مرتفعاً، تعتمد كمية الطعام على حالة السيطرة أكثر من العنف. بينما يكون للعنف دوراً أكبر في حال كان معدل القتال على مصادر الطعام أقل. كما أن العنف يختفي كلياً عندما تتساوى كمية الطعام للمسيطرين والتابعين. (5)
يُمكن أن نرى من تلك الدراسات المختلفة أن الطعام يُعد أحد الأسباب البارزة للقتال بين أفراد النوع الواحد وأفراد المجموعة الواحدة في الحيوانات. يلخص العلماء كثيراً من هذه النتائج ضمن ما يُعرف بنموذج الحمامة والصقر في الاقتتال على الغذاء. يعرف الصقر في هذا النموذج بأنه الفرد الأكثر ميلاً للقتال، فيما يعرف الحمامة بأنه الفرد الأقل ميلاً للقتال. وقد لوحظ أن الصقور يزدادون في المجاميع التي يقتل فيها الغذاء بشكل عام. (6) الآن لنفكر بتوجيه السؤال نحو البشر. هل نتقاتل على الطعام؟
حتى قرون متأخرة لم يكن الطعام متوفراً مثلما هو اليوم بالنسبة للبشر، ففي الوقت الذي يعد فيه من يحصل على الخبز فقط شخصاً يعاني من مجاعة في عصرنا هذا، كان هذا الأمر اكثر شيوعاً في حقب أقدم من تاريخ البشر. هل يؤدي الحرمان من الغذاء لدى البشر إلى زيادة سلوك العنف والاقتتال؟ بالطبع لا يُمكن اجراء تجربة مثل التجارب أعلاه على البشر حيث لا يمكن وضع البشر في ظروف مختبرية.
لا يُمكن أن ندع البشر يتقاتلون وأن نحرمهم من مصادر الغذاء لنختبر سلوك العنف مع قلة الطعام لديهم. لكن ربما يُمكن أن نطرح أسئلة أخرى في مقال قادم بهذا الصدد، كيف يرتبط الجوع بالعنف لدى البشر؟ ماذا تقول الدراسات بخصوص الاضراب عن الطعام مثلاً؟ ومن جانب آخر هل يلخص الجوع أحد أبرز سلوكيات العنف لدى الحيوانات وهو الافتراس، أم أنه نابع من غريزة أخرى مستقلة بذاتها؟ في مقال أو مقالات أخرى سنناقش هذه القضايا..
المراجع:
- Adam M. Stocker & Robert Huber, Fighting Strategies in Crayfish Orconectes rusticus (Decapoda, Cambaridae) Differ with Hunger State and the Presence of Food Cues, Ethology, 2001
- Patrik Nosil, Food Fights in house cricket, Acheta domesticus, and the effects of body size and hunger level, Canadian journal oh Zoology, 2002
- Joun M. Zook& David B. Adams, Competitive fighting in the rat, journal of Comparative and Physiological Psychology, 1975
- Sami Al-Maliki& Paul F. Brain, Effects of food deprivation on fighting behaviour in standard opponent tests by male and female “TO” Strain albino mice, Animal Behaviour, 1979
- Charles Janson, aggressive competition and individual food consumption in wild brown capuchin monkeys (Cebus apella), Behav Ecol sociobiol, 1985
- Alasdair I. Houston& John M. McNamara, Fighting for food: a dynamic version of Hawk-Dove game, Evolutionary Ecology, 1988