«انظرْ لهذه الكتلة من الهلام، وزنها ثلاثة أرطال وبإمكانك حملها بين راحتي يدك، ومع ذلك فيمكنها أنْ تتأمل اتساع الفضاء بين النجوم، وباستطاعتها أنْ تُفكِّر في معنى اللانهاية، بل ويُمكنها أنْ تتأمل ذاتها وهى تُفكِّر في معنى اللانهاية. »

فيلايانور إس راماشاندران

ما هو الوعي؟ وما القيمة التَّكيفية له؟ متى تَطوَّر وأي الحيوانات تمتلكه؟ وهل يختلف بين الحيوانات في الدرجة أو النَّوع أم كلاهما؟

منذ أنْ نَشَرَ تشارلز دراوين كتابه في أصل الأنواع عام ١٨٥٩، أصبحت نظرية التَّطوُّر الركيزة الأساسية والعمود الفقري والنَّظرية الموحِّدة الكبرى لعلم الأحياء. وبالرغم من تطور علم الأعصاب وعلم النفس، والعلوم المعرفية بشكل عام، فلم يتم دراسة إحدى أهم سماتنا البيولوجية، ألا وهى الوعي، في ضوء نظرية التَّطوُّر. حيث تأتي، في المقابل، نظريات الوعي من الدين والفلسفة.

يحتوي الدماغ على حوالي ٨٦ مليار خلية عصبية، وتمتلك الخلية الواحدة ما بين ١٠٠٠ – ١٥٠٠٠ تشابك عصبي، أي نقاط التقاء بين الخلايا العصبية. وبالتالي، فيحتوي الدماغ على أكثر من تريليون من التشابكات العصبية. ينبثق الوعي من العمليات العصبية والتفاعلات بين هذه الخلايا. ولكن قبل أنْ نتطرق إلى الحديث عن الأساس العصبي للوعي في جزء لاحق، سوف نناقش في هذا الجزء ماهية الوعي وكيف يُمكننا أنْ نضع حداً بين الحيوانات الواعية واللاوعية مع التركيز على نظرية التَّعلُّم الترابطي اللامحدود. 

نظرية التطور

لعل أحد عيوب نظرية التَّطوُّر هو بساطتها الخادعة، ولذلك نجد الأشخاص الذين لديهم معرفة عابرة بها يعتقدون أنهم يفهمونها تمام الفهم، بل وقد يصل الهذيان بهم إلى الادعاء بتفنيد نظرية التطور. إنَّ الفرضيات الأساسية للنظرية بسيطة بالفعل وتشمل: 

أولاً، كان هناك سلف وحيد، أو عدد قليل جداً من الأسلاف المشتركة لجميع الكائنات الحية، وهو الافتراض الذي وضع حجر الأساس له جان بابتيست لامارك، ثم فحصه ودرسه دراوين بمنهجية. وهذا هو الأساس لمبدأ الانحدار مع التعديل، فجميع الكائنات الحية انحدرت مع تعديلاتٍ، من أسلاف عاشت منذ أمدٍ بعيد.

ثانياً، الاختلافات الوراثية التي تجعل الكائنات الحية أكثر تكيفاً مع بيئتها عن أقرانها في المجتمع، تترك خلفها ذرية أكثر. وهذا هو مبدأ الانتقاء الطبيعي، الذي يعتبر أحد الركائز الأساسية في نظرية داروين، والذي يُمكن من خلاله تفسير تطور أكثر الأعضاء المعقدة مثل العين.

 لخص جون ماينارد سميث، وهو أحد علماء الأحياء والجينات البارزين بالقرن العشرين، رؤية داروين باقتراحه أربع عمليات أساسية تكمن وراء التَّطوربالانتقاء الطبيعي: 

  • التَّضاعف: يُنتِج الكائن اثنين أو أكثر من الكائنات الأخرى.

  • التَّنوع: ليست جميع الكائنات متطابقة.

  • الوراثة: فالكائن (أ) عادة ما ينتِج نسلاً شبيهاً له (أ)، ولكن نادراً ما يَنتِج (ب).

  • التَّنافُس: تؤثر بعض الاختلافات الوراثية على نجاح الكائنات في التَّضاعف والتكاثر عن الآخرين.

من هنا يبدأ تعقيد نظرية التَّطوُّر من خلال استكشاف هذه العمليات ومحاولة فك تلك الأحجيات. فهناك العديد من الطرق التي يحدث بها التَّكاثر والتَّضاعف، والكثير من الأنواع للاختلافات الموروثة. حيث أضحى من المسلم به الآن أنَّ الاختلافات الوراثية في الحمض النووي (DNA) ليست هي الوحيدة المسؤولة عن التَّغير التَّطوري، فلدينا أيضاً الاختلافات الوراثية في التعبير الجيني، السلوك، والثقافة. وجميعهم على قدم المساواة في الأهمية. وكذلك، فمن المعروف أنَّ هناك أهداف ومستويات متعددة من الانتقاء، مثل انتقاء داخل الأفراد، وبين الأفراد، وبين السلالات.

كيف إذن ينبغي أنْ نمضي في التحليل التَّطوُّري للوعي؟ يُمكننا أنْ نبدأ من خلال تَتبُّع التَّغير التَّطوري على المستوى الجزيئي والجيني، والمستوي الفسيولوجي والتنموي، السلوكي، والثقافي. ومع ذلك، بما أنَّ الكائنات الحية تَتَكيَّف مع الظروف المتغيرة في العالم الخارجي وفي جينومها الخاص عن طريق تغيير سلوكها ووظائف أعضائها، فإنَّ التَّكيفات الثقافية والسلوكية كثيراً ما تسبق التغيرات الجينية، وتُشكِّل الظروف التي يتم فيها انتقاء الاختلافات. 

يتبنى عدد متزايد من علماء الأحياء هذا النهج التكاملي في التفكير التطوري، والذي يدمج بين تأثيرات الاختلاف في الحمض النووي، والاختلافات السلوكية والتنموية والثقافية بما فيهم أصحاب نظرية التعلم الترابطي اللامحدود (Unlimited Associative Learning)  موضوع نقاش هذا المقال.

التحولات التَّطورية

كيف يجب أن نُفكِّر في التحول التَّطوُّري من الكائنات غير الواعية إلى الكائنات الواعية؟ في البداية، هناك عدة طرق مفيدة لتقسيم العالم الحي والتفكير في التَّحولات التطورية بين أشكال الحياة. يُميِّز علماء البيئة بين أنماط الحياة مثل الأرضية والمائية والجوية، ويدرسون  التحولات من الماء إلى الأرض أو من الأرض إلى الهواء. في المقابل، اتَّبعَ عالما الأحياء جون ماينارد سميث وإيورز سزاثماري طريقةً أخرى لوصف التَّحولات التطورية الرئيسية من حيث التَّغيرات النوعية في طريقة تخزين المعلومات ومعالجتها ونقلها. ومن أمثلة هذه التحولات هو الانتقال من الكائنات أحادية الخلايا إلى متعددة الخلايا، والتحول من التواصل غير اللغوي إلى التواصل من خلال اللغة الرمزية.

يقترح الفيلسوف دانييل دينيت طريقة أخرى للتفكير بشأن أنماط الحياة المختلفة. حيث يقترح أربعة مستويات هرمية للانتقاء، يُطلِق عليها «برج الإنتاج والاختبار»:

المستوى الأول: الكائنات الحية التي تتكيف من خلال الانتقاء الطبيعي، مثل البكتيريا والنباتات.

المستوى الثاني: الكائنات الحية التي بالإضافة إلى الانتقاء خلال التاريخ التَّطوُّري، تتعلم أيضاً من خلال التجربة والخطأ، مثل القواقع والفئران.

المستوى الثالث: الكائنات الحية التي يُمكنها تخيل الأفعال واختيارها، مثل الفيلة والقردة.

المستوى الرابع: يعتلي البشر قمة الهرم، فبالإضافة إلى ما سبق، يمتلكون أيضاً قدرة إضافية للتمثيل الرمزي والانتقاء الثقافي. 

لا تذكر أياً من تلك التقسيمات  الوعي صراحةً. وبالرغم من ذلك، فيمثل الوعي الركيزة الأساسية لهرم أرسطو للأرواح. حيث ميَّز أرسطو بين ثلاثة أنواع من «الأرواح» (تم إعادة صياغتها بمصطلحات تطورية):

  • الأرواح المُتغذِّية والمنتِجة: الكائنات غير الواعية مثل النباتات.

  • الأرواح الحساسة: الكائنات الواعية ذات الرغبات والشهوات.

  • الأرواح العقلانية: البشر الذين لديهم قيم رمزية مجردة.

نحو مقاربة تطورية للوعي

كيف يُمكننا إذن أنْ نضع نظرية تطورية للوعي عندما يكون لدينا الكثير من الخلاف حول ماهية الوعي وأي الكائنات الحية واعية؟ تقترح سيمونا جينسبيرج وإيفا جابلونكا مقاربة تطورية لفهم الوعي. تَتَضمن طريقتهما أولاً، جمع قائمة بالقدرات التي يتفق معظم الباحثين على أنها كافية لامتلاك الكائن الحي حد أدنى من الوعي. حيث سيمتلك مثل هذا الكائن قدرة على الإدراك والشعور والتفكير من منظوره الخاص. ثانياً، بالرغم من أنَّ هذه القائمة المتفق عليها سوف تكون خطوة مهمة للأمام، فإنَّ التَّعرف على كل خاصية وقدرة بالكائن الحي قد تكون صعبة. علاوة على أن القائمة لا تخبرنا بكيفية تفاعل هذه القدرات مع بعضها لتكوين كائن واعٍ. لذا، إذا تمكنَّا من إيجاد خاصية واحدة، لنطلِق عليها مؤشِّر تطوري للوعي، والتي تخبرنا بأنَّ الكائن الحي قد طور جميع القدرات في القائمة، فسوف نكون في وضعٍ أفضل.

ثالثاً، سوف يُمكننا إيجاد مثل هذا المؤشر التَّحولي الوحيد من التعرف على أبسط كائن متطور وواعٍ، ثم إعادة بناء العمليات والتراكيب التي تكمن وراءها، ومعرفة كيفية تفاعلها. بل وإذا استطعنا تَتَبُّع تطور المؤشر وبالتالي تطور الوعي، حينها سنكتشف متى وكيف نشأت الكينونة الواعية إلى الوجود.

ايفا جابلونكا (Eva Jablonka) وسيمونا جينسبرغ (Simona Ginsburg)

ايفا جابلونكا (Eva Jablonka) وسيمونا جينسبرغ (Simona Ginsburg)

التَّعلُّم الترابطي اللامحدود 

كان الوعي ولا يزال تحدياً صعباً في كل من العلوم والفلسفة. يُمكِن تعريف الوعي بأنَّه إدراك المرء لنفسه والعالم من حوله. طرح جوناثان بيرش، إلى جانب سيمونا جينسبيرج وإيفا جابلونكا، إطاراً جديداً في محاولة لتفسير الأصول التطورية للوعي. تشير النظرية، التي يُطلَق عليها التَّعلُّم الترابطي اللامحدود، إلى أنَّ شكلاً فريداً من أشكال التعلم يُشكِّل عنصراً أساسياً لفهم كيفية تطور الوعي. حيث يعمل التعلم الترابطي غير المحدود كمؤشر تحولي يساعد في تحديد متى انتقلت الحياة من الكائنات غير الواعية إلى الكائنات الواعية. تَسْتَخِدم نظرية التعلم الترابطي اللامحدود قياساً مشابهاً لمفهوم الوراثة اللامحدودة، والذي يُقبل على نطاق واسع في علم الأحياء التَّطوُّري باعتباره مؤشراً على توقيت نشوء الحياة. فعلى نحوٍ مماثل للكيفية التي تميز بها الوراثة اللامحدودة قدرة الحياة على التطور عبر أجيال لا حصر لها، يميز التعلم الترابطي اللامحدود قدرة النِّظام على التَّعلم والتكيف من خلال مجموعة لانهائية تقريباً من التجارب أثناء حياته. يجادل المؤلفون بأنَّ القدرة على ربط المؤثرات المختلفة بالأفعال والنتائج بطرق مرنة ومبتكرة، تشكل مفتاحاً للوعي.

عناصر التَّعلم الترابطي اللامحدود ودورها في الوعي

يتضمن التعلم الترابطي اللامحدود خمس سمات تَعلُّمِية أساسية والتي تُميِّز في مجملها الكائنات الواعية عن تلك غير الواعية. وهذه السمات مترابطة فيما بينها وتُعدُّ أساساً للسلوكيات والحالات العقلية المعقدة التي تشير إلى تجربة ذاتية:

  • المُوثِّرات المركبة: القدرة على التعلم عن الأشياء التي تنطوي على إشارات حسية متعددة (مثلاً، حشرة صفراء طنانة ذات رائحة).

  • المُوثِّرات الجديدة: يسمح التعلم الارتباطي اللامحدود للكائنات بربط المؤثرات الجديدة التي لم تواجهها من قبل بالاستجابات، وهى قدرة حاسمة للتكيف في البيئات المتغيرة.

  • الإشراط (التَّكيُّف) ثنائي الدرجة: يدعم التعلم الارتباطي اللامحدود تكوين سلاسل من الارتباطات. فعلى سبيل المثال، بعد تعلم أنَّ الصوت يتنبأ بالطعام، قد يتعلم الحيوان لاحقاً أنَّ الضوء يتنبأ بالصوت، مما يظهر معالجة معرفية أعمق.

  • الإشراط (التَّكيُّف) التَّتبعي: يشمل القدرة على ربط المؤثرات ببعضها البعض حتى عندما يكون هناك تأخير بينها. يسمح التعلم الترابطي اللامحدود للكائنات الحية، على عكس الارتباطات الفورية، بسد الفجوات الزمنية وتوسيع نطاق الخبرات التي يمكنهم التعلم منها.

  • الارتباطات المرنة: يُمكِّن التعلم الترابطي اللامحدود الكائنات الحية من تعديل وتكيف الارتباطات السابقة التي تعلمتها بناء على معطيات ومعلومات جديدة. فمثلاً، إذا أصبح أحد مصادر الطعام المفيدة في السابق خطراً، فإنَّ باستطاعة الكائن الحي القادر على التعلم الارتباطي اللامحدود تعديل سلوكه بسرعة. 

تشكل هذه السمات مجتمعة نظاماً متماسكاً يسمح للكائنات الحية باستكشاف بيئتها وفهمها بطريقة أكثر تعقيداً وانفتاحاً. ويقترح بيرش وزملاؤه أن امتلاك كل هذه القدرات يتطلب تراكيب معرفية وإدراكية مماثلة لتلك الموجودة في الكائنات الواعية.

التعلم الترابطي اللامحدود كمؤشر تحولي تطوري للوعي

يُعتبَر مفهوم «المؤشر التحولي» جوهر إطار عمل التعلم الترابطي اللامحدود. فالمؤشر التحولي ما هو إلا سمة تشير إلى تحول تطوري كبير. وفي حالة الوعي، يمثل التعلم الترابطي اللامحدود هذا المؤشر، دالاً على وجود نظام قادر على التجربة الذاتية. حيث يعقد المؤلفون مقارنة بين كيفية تمييز الوراثة اللامحدودة بصفتها مؤشراً للتحول إلى الحياة. فعلى نحو مماثل، يُميِّز التعلم الترابطي اللامحدود الانتقال إلى أنظمة واعية، حيث تبدأ الكائنات الحية في الاستجابة ليس فقط للمؤثرات، بل وأيضاً في تفسير وتقييم وتذكر تجاربها وخبراتها.

يتمثل أحد الجوانب الرئيسية لهذه الحجة في أنَّ التعلم الترابطي اللامحدود لا يساعد الكائنات الحية على البقاء فحسب، بل ويتطلب وجود أنظمة معرفية متكاملة تشبه آليات عمل الوعي. حيث أنَّ إمكانية الوصول للمعلومات الحسية، والقدرة على تركيز الانتباه، والقصدية، ونظام التقييم جميعها جزء من الحزمة التي تدعم التعلم الترابطي اللامحدود، وبالتالي الوعي.

التبعات التطورية والأبحاث المستقبلية

إنَّ وجود التعلم الترابطي اللامحدود في الأنواع المختلفة عبر المملكة الحيوانية له تداعيات تطورية كبيرة. فبناءً على الأدلة الحالية، يقترح بيرش وزملاؤه أنَّ التعلم الترابطي اللامحدود موجود غالباً في معظم الفقاريات، بعض رأسيات الأرجل (مثل الأخطبوط)، وبعض المفصليات (مثل النحل والذباب). يشير هذا التوزيع الواسع إلى أنَّ الوعي قد تطور عدة مرات عبر التاريخ، وفي كل مرة أدى إلى تطوير سلوكيات وقدرات تعلمية معقدة مرتبطة بالتعلم الترابطي اللامحدود.

يُقدِّم المؤلفون أيضاً تنبؤاتٍ وأفكارٍ للأبحاث المستقبلية. حيث يتوقعون أنْ تكشف الدراسات المستفيضة للإدراك الحيواني عن المزيد من الأنواع التي تمتلك التعلم الترابطي اللامحدود، مما يساعد العلماء على تحديد متى تطور الوعي. ثانياً، يعتقدون أنَّ التعلم الترابطي اللامحدود قد لعب دوراً حاسماً في توجيه الانفجار الكامبري، وهى فترة من التنوع التطوري السريع منذ حوالي ٥٤٠، من خلال منح الكائنات الحية المرونة التعليمية اللازمة للتكيف مع البيئات سريعة التغير.

بالإضافة إلى ذلك، فمن المرجح أنَّ التعلم الترابطي اللامحدود خَلَقَ تحديات تطورية جديدة، مثل التَّعلم المفرط، حيث قد تتفاعل الحيوانات بقوة شديدة مع بعض المؤثرات، مما يؤدي إلى إجهاد غير ضروري. مما لعب دوراً ربما في تطور آليات إدارة الإجهاد والقدرة على نسيان المعلومات غير المهمة جنباً إلى جنب مع التعلم الترابطي اللامحدود، وذلك لمساعدة الحيوانات على التعامل مع متطلبات الوعي.

تطور المعاناة

«وهكذا فإنَّ أسمى هدف في هذا العالم ألا وهو نشوء الحيوانات الراقية ليتحقق مباشرة من حرب الطبيعة ومن الجوع والموت.»

تشارلز داروين

يخبرنا سفر الجامعة بالعهد القديم بأنَّ «كثرة الحكمة تقترن بكثرة الغم، ومن يزداد عِلماً يزداد حزناً!»، بل وتقترن المعرفة بالمعاناة في الأساطير مثل أسطورة بروميثيوس في الميثولوجيا الإغريقية، الذي حكم عليه زيوس كبير الآلهة بالمعاناة إلى الأبد لأنه سرق نار الحكمة ووهبها للبشر. فما ثمن المعرفة من خلال المشاعر والعواطف التي فرضها التعلم الترابطي اللامحدود على الحيوانات؟

يُعتبَر التعلم الترابطي اللامحدود ابتكاراً ذو حدين، فبينما يُعدُّ تطوره ثورياً، إلا أنَّه أدخل مشاكل وتحديات جديدة للكائنات الحية. تنبع المشكلة الرئيسية من «التعلم المفرط»، حيث تُكوِّن الحيوانات ارتباطات قد تؤدي إلى إنذارات كاذبة. فالمدخلات الحسية ليست جميعها على قدم المساواة، فمنها المحايد، أو المفيد، أو الخطير اعتماداً على السياق. وبالتالي يزيد هذا التباين من احتمالية الإنذارات الكاذبة. فمثلاً، بالنسبة للأسماك، قد يشير مزيجاً من الاهتزازات والألوان إلى وجود مفترس، ولكن قد يكون كل مؤثر بمفرده سواءً الاهتزازات أو الألوان غير ضارٍ.  وبما أنَّ الهروب السريع الذي تثيره الاهتزازات أو الألوان أقل تكلفة من إصابة مميتة، فإنَّ الهروب أفضل حتى لو تبيَّن أنَّ الاهتزازات أو الألوان لا تشكل تهديداً في معظم الحالات. ومن المؤكد أنَّه من الأفضل أنْ نخطئ في جانب الحذر.

ولكن ما هو ثمن المبالغة في رد الفعل والحيطة والحذر؟ الثمن هو القلق والارتياب والعصاب. فالقلق والتوتر المزمنيْن مكلفان للغاية، ويؤديان ليس فقط إلى إهدار الوقت والجهد، بل وإلى زيادة احتمالية الإصابة بالأمراض المؤلمة. وبالرغم من ذلك، فإنَّ ميزان الكلفة والمنفعة يميل بلا شك إلى جانب المعرفة، فالحيوان الحكيم المتألِم أفضل حالاً من الأحمق المطمئن المحكوم عليه بالهلاك. 

 وسوف نناقش في الجزء القادم، نظرية مخطط الانتباه.

 

المصادر: 

إسماعيل مظهر، أصل الأنواع، دار التنوير للنشر

سفر الجامعة، العهد القديم

Ginsburg, S., & Jablonka, E. (2024). Picturing the mind: Consciousness through the lens of evolution1. MIT Press.

Birch, J., Ginsburg, S., & Jablonka, E. (2020). Unlimited Associative Learning and the origins of consciousness: A primer and some predictions. Biology & Philosophy, 35(56). https://doi.org/10.1007/s10539-020-09772-0