حوار حول العقل بين فيلسوف وعالم عبر زمانين ، في الريف الهولندي، يقف رجل طويل مسن، مرتديًا سترة رياضية مارونية اللون، مع ظهر منحني قليلاً نحو الامام، فبالإضافة لطوله، يمتاز بانه كث الحاجبين. يوجه كلماته ذات اللهجة الانكليزية لرجل في منتصف العمر ذو شعر بني طويل ومجعد وعينان ثاقبتان مرتديًا عباءة باحثين سوداء ويتكلم بلغة انكليزية مكسرة فاضحة أصوله الفرنسية. لا يبدوا ان للاختلافات في اسلوب الكلام والملابس غير المتناسقة اهمية لهما لكي يستمرا بالحديث حيث يحدق ذو الحاجبين نحو الباحث باهتمام. بلا ريب هناك شيء ما في هذا اللقاء- تقاطع في الزمان والمكان والاسلوب.

ذو الحاجبين: أخيرًا التقيت الرجل الذي يشك في كل شيء.

الباحث: (بدون تردد) في هذه اللحظة، لا اقبل شيئا على انه حق مالم اعرف يقينا انه كذلك. انا مشهور بهذا الجملة!

 

ذو الحاجبين: هل هناك شيء انت متأكد منه؟ (بصوت مبحوح) علاوة على شهرتك؟

 

الباحث: (متجاوزًا الملاحظة الساخرة) لا يمكنني ان اكون واثقًا من شهرتي. في الواقع، لا يمكنني ان اتأكد من وجود العالم اصلًا، لربما كان كل هذا حلم او هلوسة. ولا يمكنني ان اكون واثقًا من وجود جسمي، شكله، امتداده وماديته، لربما انني اخدع نفسي بهذا ايضا. لكن ماذا اكون، عندما افترض وجود شخص ذا قوة عظمى، واذا سُمِح لي بقول هذا، مضلل خبيث يحاول متعمدًا خداعي بكل الطرق؟ كيف لي ان اعرف بوجود هذه الروح الشريرة ان احاسيسي حول العالم الخارجي، من النظر والشعور والشم بطريقة معينة، ليست اوهام ناتجة من شعوذته لتضليلي؟ لذلك يبدوا لي اني لن استطيع معرفة اي حقيقة حول العالم. على الاطلاق ، rien du tout، علي ان اشك بكل شيء.

 

ذو الحاجبين: ماذا سيبقى بعد ان بددت افكارك كل شيء؟

 

الباحث: اها، لكني اشك فقط حتى أبرهن وبيقين مطلق ان هناك حقيقة واحدة لا يمكن انكارها: أنا موجود!  وبما ان هناك شيء يقوم بالأدراك والتفكير. فبناءً على ذلك انا لست سوى شيء مفكر; أي عقل او فكر او فهم او منطق. أنا افكر اذا انا موجود.

 

ذو الحاجبين: نعم، في زماني،  يتعلم الاطفال في المدارس كل شيء عن جملتك المشهورة هذه    “أنا افكر اذا انا موجود. الرابط الوحيد بينك وبين كل شيء في الكون يتم من خلال احاسيسك الواعية وافكارك. وكل ما عداهما، وجود جسدك، او اجساد الاخرين، الحيوانات، الاشجار والسماوات يجب ان تُستَنتج. أعطيت لنفسي الحرية بأن اعدل عبارتك لتصبح “انا واعي، اذا انا موجود.” أعتبر البعض هذا الفعل انتقاصًا من عبارتك، الاشهر في الفكر الغربي.

 

الباحث: (متوردًا بالسرور لكن بدون ان يجفل عن غروره) نعم، نعم، لست متفاجئًا ، بل وحتى اني استطيع اثبات ضرورة وجود الله.  

 

ذو الحاجبين: (باقتضاب) لا تهتم- هذا الاثبات لن يؤدي الى الكثير. (ثم بسخرية مهينة) لكن اخبرني عن افكارك حول العلاقة بين هذه الانا، النفس و الفكر مع الجسد الذي يسكنه.

 

الباحث: اتكلم كطبيب، الذي هو فيلسوف طبيعي…

 

ذو الحاجبين: نعم، أي ما اُسميه بعالم …

 

الباحث: (بنكد) اتوسل اليك، هل استطيع ان اكمل فكرتي بدون مقاطعة؟

أتحدث كمثل هذا الدارس، وجدت ان كل اجساد وعقول الحيوانات والبشر تتكون من اشياء مادية لها حجم ووزن وتستطيع توليد قوة. اسمي هذه المادة الجسدية  “res extensa ” . وكما يُشغل جريان الماء تماثيل الالهة المتحركة والحوريات والابطال في احواض قاعات الملك في فيرساي، تجري الارواح الحيوانية من خلال الشرايين وتجاويف المخ وقنيات الاعصاب في كل الكائنات لتجعلها تتحرك، تحفر، تمضغ وتحرك اعينها، وبهذه الطريقة يمكننا ان نفسر الافعال ميكانيكيا. وجدت من خلال اجرائي تشريح لأدمغة واجساد الحيوانات ان تصرفاتها تنتج من خلال جسيمات مميزة بأشكالها واحجامها وحركاتها. وهذا ينطبق على الانسان ايضا، حيث يمكن تفسيره بالتفكير بالأجساد والعقول كما لو كانت الات. لكني ارفض، كما يفعل الليبرتيون (مذهب الاباحية)، امتلاك الحيوانات عقولًا تشبه عقول الرجال.

 

ذو الحاجبين: (مقاطعًا) والنساء ايضا، كما اعتقد! [ينظر ديكارت وهو الباحث في هذا الحوار نظرة تمييزية بين الرجل والمرأة في مفهومه الميتافيزيقي للجسد والعقل فالعقل لدى المرأة ليس كما لدى الرجل كما أنها كائن عاطفي الى حد كبير راجع موسوعة ستانفورد للفلسفة حول رأي ديكارت بالمرأة في سياق ثنائيته].

الباحث: (بسخط) على اي حال، يختلف البشر بامتلاكهم للغة حقيقية، لا مجرد تعابير بسيطة او صرخات تحذيرية كما الحيوانات. وبالعكس من الحيوانات، لدى البشر روح خالدة. مفهومي عن مادة التفكير “res cogitans” يشرح كل هذا. ان مادة التفكير هذه، مسؤولة عن التحدث والتخيل والاحساس والتذكر والتفكير. مادتان تشرحان كل شيء، فكل شيء حولنا هو اما ان يكون جسديا او عقليًا. إنها فكرة رائعة جدا اذا سمحت لي بوصفها كذلك!

 

ذو الحاجبين: لكن دعني اخبرك، في زماني استطاعوا صنع وسائل ميكانيكية، او الات تستطيع ان تفسر وتميز وتحسب وتتذكر بناءً على شيء يدعى الخوارزمية، والتي هي طرائق رياضية او عمليات تقوم بتجزئة اي مهمة الى خطوات صغيرة، موصوفة بشكل جيد ومفصلة بالكامل. فبعد ادخال بيانات ما، ثم امر محدد ك “اجمع هذين الرقمين” او “ما اكبر مدينة في أوربا؟”  تقوم الخوارزمية بأخذ البيانات المدخلة وتحويلها باستخدام لغة مكونة من اصفار واحاد (0 و 1) لمخرجات بعد ان تقوم بمجموعة غير معدودة من هذه الخطوات الاولية الصغيرة التي ستنتج منها اجابة مجموع الرقمين او ربما قد تجيب ببساطة ب “لندن”. فانت لا تحتاج الى مادة تفكير لكي تعطي الة القدرة على الجمع او الاستنتاج.

 

الباحث: (بشيء من الدهشة) هذه الآلات عجيبة، تشبه الشطرنج الالي الذي سمعت ان السلطان التركي يحتفظ به في قصره. لكن، قل لي ايها الانكليزي، هل تستطيع الات محاكاة الدماغ البشري هذه الكلام؟

 

ذو الحاجبين: نعم، تستطيع ان تتكلم معها، ويمكنها ان تجيبك بصوت خاص، ذا نبرة ميكانيكية. فلقد تفوق بناؤنا في عمل هذه الات الرائعة حيث يصنعونها من الزجاج والنحاس والرمل وبأحجام صغيرة جدا لتلائم كف اليد. الاهم من هذا، ان وجود مثل هذه الات المتحدثة  يعني ان ثنائيتك للعقل والجسد خاطئة. فنحن لا نحتاج الى مادة التفكير الاثيرية خاصتك لتفسير كيفية التكلم والاستنتاج. فلدينا الخوارزميات التي تستطيع تمييز صورة ولعب الشطرنج وتوجيه العربات والتعلم من التجربة والبحث عن سلع في الاسواق العالمية وحساب كم تدينُ للملكة من ضرائب وحل الالغاز المنطقية. فالإنسان ما هو الا الة معقدة يتكون من لا شيء سوى المادة، او كما تطلق عليها res extensa .

 

الباحث: (بعجلة) لكن اين سيترك هذا الروح المقدسة، تلك الروح الخالدة التي وضعها الله في كل رجل وامرأة؟

 

ذو الحاجبين: أنا يا سيدي، لا تهمني هذه الفرضية.

 

الباحث: يا ايها الملحد عديم الأخلاق!

 

ذو الحاجبين: (متنازلًا) حسنًا، نحن نعرف اكثر. (ثم يتحول بسرعة لتقليل انزعاج رفيقه) لكن اخبرني عن افكارك بما يخص فائدة الغدة الصنوبرية؟

 

الباحث: حسنًا، ان طبيعة مشاعرنا أو تجاربنا متكاملة. فمثلا عندما انظر للبدر ليلًا فلا ارى صورتين مختلفتين واحدة لقرص براق واخرى للّون الاصفر، بل ان كل ما اراه هو قمر اصفر. وبالتأكيد لا يوجد عندي سوى ارادة واحدة. تعلمت من اجرائي تشريح الجثث ان كل شيء في الدماغ يأتي على شكل زوج، فهناك فصين داخل الجمجمة، وهما يتكونان من تراكيب اصغر مثل التجاويف الدماغية والتي توجد بشكل زوجي ايضا، وبشكل متطابق في اليمين واليسار. لذلك لا يمكن  لهذه التراكيب ان تكون الموضع الذي تؤثر عليه مادة التفكير. لكن هناك غدة صنوبرية واحدة، تماما في مركز كل دماغ، هنا تلتقي ال res extensa مع res cogitans”” (الجسد مع العقل). هنا مقعد الروح.

 

ذو الحاجبين: (بأعجاب)  هذا ذكاء منك ان تربط بين تركيب في الجسم مع وظيفة معينة، انا ايضًا، في ايام شبابي خرجت باستنتاج مماثل عن ترابط التركيب والوظيفة في جزيء الحياة (الدي ان اي) واصبحت مشهورا لهذا. لكن للأسف، عند النظر من خلال المايكروسكوب ستعلم ان مفهومك السابق عن التشريح (او التركيب) كان خاطئا.

 

الباحث: (مقاطعا) نعم، سمعت عن هذه الاداة العجيبة، تم اختراعها في مكان ليس بعيدًا عن المكان الذي اعيش فيه، لكني لا امتلك واحدة منها.

 

ذو الحاجبين: على اي حال، عندما تنظر من خلال المايكروسكوب ستجد ان هناك غدتان صنوبريتان، واحدة لكل فص، متداخلتان فيما بينهما. وعند فقدانك للغدة الصنوبرية، لا الحياة ولا الوعي سيغادران جسدك. فلا للغدة الصنوبرية ولا للسائل الذي يدور في تجاويف الدماغ دور في هذه الوظيفة.  في زماني، تعلمنا من الاطباء والعلماء ان المادة الرمادية في قشرة الدماغ هي مركز الادراك والذكاء والتفسير. والتي تحتوي على بلايين الاعضاء الصغيرة  جدا التي يطلق عليها تسمية الخلايا العصبية، حيث يولد فيها الاحساس الواعي لأي شخص. انا نفسي اعتقدت لمدة اني وجدت بصمة العقل الواعي في الدماغ. حيث اعتقدت ان نوع معين من الاهتزازات المتولدة من نشاط خلايا عصبية تقع عميقًا في لفائف الصفائح الدماغية هي اللون الارجواني الملكي! او بصمة العقل. لكن التجارب الاخيرة اقترحت ان هذه الاهتزازات مرتبطة بتأثير الانتباه لحدث معين، وليس للوعي بذلك الحدث. لذلك يبدوا ان فرضيتي الاهتزازية الجميلة خاطئة مثل افتراضك حول الغدة الصنوبرية.

 

الباحث: اذا كلانا كان على خطأ. ثم (بنبرة منتصر) لكن انتظر! كيف تستخرج وعي لا جسدي او احساس، من مادة ،من شيء فيزيائي؟ ينقص نظريتك شيء اساسي.

 

ذو الحاجبين: (بأسلوب جذاب) أها ، هنا تكمن المشكلة. فانت محق بهذه النقطة، فان كانت الغدة الصنوبرية او انماط اهتزازية بتردد 40 هيرتز في طبقة الخامسة للخلايا الهرمية العصبية البارزة نحو الجزء الامامي من القشرة (لا تأبه لهذا، فلن تستطيع فهمه)، او شيء اكثر غرابة. لم يمكن لهذه الالية ان تنتج المشاعر، الإحساس بالذات، بينما لا يمكن لتلك الالية ذلك؟ يبدوا الامر اعتباطيا. بسبب عدم وجود مكان في الفيزياء يظهر فيه الوعي، لكن الدماغ، وهو شيء فيزيائي، فهو واع. كتب باحث الماني ظهر بعد زمنك بمدة قليلة: ” علاوة على ذلك، يجب ان نعترف انه لا يمكن تفسير الادراك وما يعتمد عليه وفق مصطلحات الميكانيك، اي من خلال الاشكال والحركات. فاذا تخيلنا ان هناك الة يعطيها تركيبها القدرة على التفكير والاحساس والقابلية على الادراك، فيمكننا ان نتخيل تكبير هذه الالة، مع الحفاظ على نفس نسبها، بحيث يمكن لأنسان ان يدخل فيها كما يدخل الى طاحونة. واعتمادًا على هذا الافتراض، عند فحص اجزائها الداخلية سنجد فقط اجزاء يحرك بعضها الاخر، ولن نجد ابد اي شيء يفسر الادراك.”يطلق الفلاسفة في زماني على هذه الجدلية ب المسألة الصعبة، التي ستبقى دائما غير قابلة للحل وفقا للعلم. لكنهم قللوا من قوة الفلسفة الطبيعية والعلم لمعرفة عمق وقياسات العالم وجعله شيء قابل للتفسير.

 

الباحث: يبدو ان عالمك يتعبد على مذبح العلم. أرجوا ان هذا العلم وفر لكل المواطنين الامن والسعادة. لكنك لحد الان لم تفسر الوعي، كيف تدخل الروح الجسد. ربما كنت مخطئا حول الحاجة الى مادة تفكير خاصة، ربما يمكن للآلات التفسير والحديث بدونها، لكن هل هذه الآلات تشعر بأي شيء عندما تقوم بالتفسير والحديث؟

 

ذو الحاجبين: (بجدية) يجب ان اعترف بجهلي. يوجد عندنا اليوم مفهوم يدعى المعلومات. يمكننا قياس كمية المعلومات التي تحويها رسالة مثل برقية او شيفرة المصابيح بين السفن وكيفية ارسال هذه المعلومات حول العالم. وحديثًا أخترع طبيب وفيلسوف طبيعي ايطالي ينحدر فكريا من غاليليو غاليلي الذي تألفه جيدا، شيء اسماه المعلومات المتكاملة – الفرق الذي يحدث فارقًا للدماغ، من منظوره الذاتي الخاص، يمكن ان يحل ما يبدو صعبًا وتعجيزيا في شرح كيفية ربط المادة بالإحساس، وكيف يمكن ان يتحول الماء في الدماغ الى نبيذ تجربة الوعي.

 

وبدون ان يفهم كثيرا من الجزء الاخير، لكنه أرتخى للاستعارة المجازية من العهد الجديد، استمر الباحث وذو الحاجبين بجدلهما العلمي وهما يتمشيان ببطء قبالة الريف الهولندي، حيث مسقط رأس الباحث، وبالتدريج يختفيان تمامًا من المنظر.

تجري هذه المحادثة التخيلية بين البيولوجي فرانسس كريك، مكتشف الجينات والخلايا العصبية وبين الفيلسوف والرياضي رينيه ديكارت مفسر الثنائية (وهي تعاليم ميتافيزيقية عن كون العقل والجسد سلطتين منفصلتين). الاجزاء المكتوبة بأحرف مائلة في كلام الباحث هي ترجمة حرفية لنصوص ديكارت. الاستشهاد المشهور حول الطاحونة يعود لكوتفريد ليبنز، الرياضي والعالم والمحامي والفيلسوف الذي اخترع الارقام الثنائية وشارك في اختراع التفاضل والتكامل. الاشارة الاخيرة حول نظرية المعلومات المتكاملة تعود الى جوليو تونوني.

المصدر: http://www.scientificamerican.com/article/2-natural-philosophers-discuss-the-mind/