قبل الخوض في جدل حول فعالية العلاج النفسي، أود أن أعرض بعض الإحصائيات والأفكار المتناقضة من مقال هارييت هول ” إعادة التفكير في العلاج النفسي”، المنشور في المجلد 28، العدد1، من مجلة Skeptic.

ربما لم يحظَ أي تخصص في العلوم الاجتماعية بمثل هذا المديح الكبير والنقد المبالغ فيه كما تخصص العلاج النفسي، ونحن العاملون في هذا المجال ندرك الصعوبات التي أشارت إليها هول وغيرها، وفي نفس الوقت رأينا التغييرات الإيجابية في حياة المرضى الذين خضعوا إلى علاج نفسي مناسب وفي كثير من الحالات تمّ إنقاذ حياتهم.

اليوم أنا وجميع المتشككين ندرك حجم ما فاتنا من العمل المميز للراحلة هارييت هول والذي وضحت فيه أنه لا توجد تقارير موضوعية حول فعالية العلاج النفسي أو معايير للمقارنة أو حتى طريقة لمعرفة ما إذا كان فعالًا أم لا كونه لا يستند إلى أساس علمي متين أو معايير موحدة لاختيار العلاج أو المعالج النفسي.

تتفق جميع المصادر التي استشهدت بها هول وغيرها على حقيقة أنه لا يزال أمامنا الكثير لنتعلمه عن النفس البشرية ولنفهمه عن طبيعة العلاقة بين العقل والعلاج النفسي، ومع ذلك يتوجب علينا قراءة وفهم البيانات والتحليلات التي تثبت فعالية العلاج النفسي. نعرض هنا مثال الحجج الداعمة التي فصلها كتاب ” الأدلة حول فعالية العلاج النفسي” لبروس ومبلود وزاك إيميل وأيضًا كتاب “علاقات العلاج النفسي الناجحة” لومبولد وجون نوروكس، بعد عقود من التحليل الإحصائي والاستنتاجات المستخلصة من عدد هائل من دراسات العلاج النفسي، وأنه يمكن للبشر الشفاء من الناحية الاجتماعية، إضافة لذلك قدموا بدائل مقنعة لنهج العلاج التقليدي الذي يركز عادة على مكونات العلاج الخاصة باضطراب معين لتحديد أكثرها فعالية.

وهذه الفكرة كانت نقطة ضعف في بحث هول، لأنها ركزت على الاختلافات بين العلاجات وليس بين المعالجين وهو مبدأ النهج التقليدي سواء في الطب النفسي أو في الطب بشكل عام وفيه تم تجاهل دور المعالج، رغم أنه العامل الأهم في نجاح العلاج؛ فمهارة المعالج ومرونته في تطبيق العلاجات أكثر أهمية من سنوات دراسته وتطوره المهني، ولا يمكن لأي تدريب تلقاه المعالج أن يؤدي إلى نتائج مُرضية إلا ذا غيّر أسلوبه العلاجي استجابة لنتائج كل جلسة.

الجوانب السيئة للعلاج النفسي

ما كانت هول محقة فيه هو أن نتائج العلاج النفسي لم تتحسن بصورة ملحوظة على مدى سنوات، فمثلًا الدراسة التي أجراها عالم النفس هانز آيزك عام 1952 ليثبت زيف فعالية العلاج النفسي لم يشكك فيها أحد حتى العام 1977 بعد أن وجدوا أن حجم تأثير العلاج النفسي أعلى بنحو 0.8 مرة من متوسط الحالات التي لم تخضع لعلاج وعلى مدار الخمسين عامًا الماضية ظلّ هذا الحجم ثابتًا بالرغم من انتشار العديد من نماذج التشخيص والعلاج.

وكانت هول دقيقة حين قالت أن المعلومات التي توصلت إليها مئات من دراسات العلاج النفسي متناقضة، ولم تكن صائبة عندما قالت أنه لا توجد أرقام معيارية نستند إليها؛ فاليوم بعد عقود من التحليلات الإحصائية يوجد ما يثبت ما هو فعال أو غير فعال في العلاج النفسي.

تحدثت هول عن الأشخاص المؤيدين لعلاج دون آخر وأصابت بالقول أنهم يدافعون عنه بناء على نجاحهم في تطبيقها؛ فكل التجارب السريرية التي قارنت بين العلاجات توصلت إلى أن كل العلاجات فعالة بنفس القدر، فما يهم فعلًا هو طريقة تطبيق العلاج وليس العلاج بحد ذاته؛ يمكن لمعالج أن يساعد المرضى في التغلب على صعوباتهم وينجح في ذلك بأسلوبين مختلفين لكن كلا الأسلوبين فعال ومترابط ومقنع، فجميع العلاجات تسهم بنحو 0-1% من نجاح العلاج وهو ما يثبت خطأ المدافعين عن علاج دون آخر وبدون أن يقدموا دليلًا حقيقيًا على ذلك، ومعظم المعالجين النفسيين لا يملكون دليلًا يثبت صحة ما يفعلونه، وهذا النقص في الأدلة يدفعنا للحكم على أقوالهم بأنها مجرد انطباعات وردود فعل شخصية. وفي ظل غياب التقييم الفعلي والموثوق لأعمالهم سيكون من الصعب إيجاد منهج تعليمي أو دليل يمكنهم من تحسين مهارتهم.

فيما مضى، كان المعالجون يدونون الملاحظات الخاصة بمرضاهم ويقيمونها بعد كل جلسة، واليوم يتم ذلك باستخدام منصات عبر الانترنت مما يتيح لهم مراجعة بيانات المرضى ومقارنتها مع نتائج زملاءهم حول العالم والاستفادة منها ويطلق على هذا الأسلوب بـ” العلاج المرتكز على التغذية الراجعة (FIT)”، ورغم سهولة الوصول لهذه المنصات إلا أنها ما زالت قليلة الاستخدام من قبل المعالجين حول العالم، وتمت التوصية بهذه المنصات من قبل المركز الدولي للتميز السريري(ICCE) الذي جمع لعقود من الزمن بيانات المعالجين من جميع أنحاء العالم ما يعني أنه يحوي أدلة تدعم أقوال هول عن العلاج النفسي. هناك بيانات توثق معدلات انسحاب المرضى من العلاج النفسي قبل الخضوع لتجربة سريرية فعلية وهي تتراوح بين 20-22% للأفراد البالغين وبين 40-60% بيم الأطفال والمراهقين على الرغم من أن هذا العلاج مستند إلى (FIT) وهذا مع الأسف يعني وجود معدلات انسحاب أعلى في العلاج النفسي غير المستند إلى الـ(FIT).

حديث هول عن عدم معرفتنا بأضرار العلاج النفسي غير صحيح؛ فاليوم توجد العديد من النقاشات والتحليلات حول ما قد ينجح أو لا ينجح في العلاج النفسي، فمثلًا كشفت إحدى الدراسات أن نسبة الأشخاص الذين تسوء حالتهم خلال فترة العلاج النفسي تتراوح بين 5-10%.

من المؤسف القول أن متوسط عدد المعالجين النفسيين الذين يقيمون فعالية نتائجهم يكونون في مرحلة مبكرة من مسيرتهم المهنية، فلا توجد أي دراسات تؤكد تحسن المعالجين بعد 50 ساعة من التدريب، وأن بعض المساعدين المهنيين الذين خضعوا لتدريب مدته 6 أسابيع يمكنهم مضاهاة علماء النفس الحاصلين على درجة الدكتوراه والتي تعادل 5 سنوات من التدريب. هذه المعلومات تدعم رأي هول بضرورة تقييم نتائج كل معالج للتأكد من فعاليتها مقارنة مع الآخرين، مع احتمالية حدوث خلط بين طريقة المعالج وليس هو نفسه. لدينا دراسات أخرى بيّنت أنه من الممكن للطلاب تقديم نتائج أفضل أو تساوي نتائج معلميهم، هذه الحقيقة يمكن رؤيتها في مناقشة ويتكوفسكي مع فيكرام إتش باتيل حيث جاء في دليله “لا وجود لطبيب نفسي مرجعي” خاصة في البلدان التي تفتقر للتدريبات والتحليلات الخاصة بالعلاج النفسي.

في الوقت ذاته، قد يبالغ بعض المعالجين النفسيين الذين مارسوا المهنة لبضع سنوات في تقييم أنفسهم وأنهم في تحسن مستمر رغم عدم وجود دليل على ذلك، كما أنهم قد يتحيزون لأنفسهم كما في تأثير دونينج-كروجر أي أنهم يبالغون في تقييم قدراتهم، ففي النهاية حسب التحليلات الإحصائية هناك تباين كبير في فعالية العلاج النفسي بين الأطباء، والقليل منهم من يحقق نتائج مميزة مع مرضاهم بالمقارنة مع زملاءهم.

الجوانب الإيجابية للعلاج النفسي

وحتى لا تطغى الجوانب السلبية للعلاج النفسي على البحث، فيما يلي بعض الجوانب الإيجابية عنه.

منذ عهد آيزنك والمصادر المتنوعة التي استعانت بها هول في بحثها تم إثبات كون العلاج النفسي فعال وأن متوسط عدد المرضى الذين تابعوا علاجًا نفسيًا كان أفضل بنحو 80% من متوسط عدد الأشخاص الذين لم يخضعوا لواحد.

وحجم تأثير العلاج النفسي هذا يساوي في فعاليته فعالية عملية مجازة الشريان التاجي الجراحية، ويزيد بفعاليته إلى نحو أربع مرات عن فعالية استخدام الفلورايد لمنع تسوس الأسنان، ولكن كما ذكرنا مسبقًا بقي حجم هذا التأثير ذاته لمدة خمسين عاماً بصرف النظر عن المشكلة النفسية أو طريقة العلاج المتبعة.

إن الأدوات التي يستخدمها المعالجون النفسيون لا تؤتِ أُكلها إلا عندما يتقن المعالج استخدامها، إذًا ما مدى فعالية المعالجين النفسيين؟

هذا السؤال كان محور العديد من الدراسات الحقيقية حيث طُلب من الأطباء تقييم نتائجهم روتينيًا بعد كل جلسة وقارنوها مع النتائج السريرية العشوائية ولاحظوا مدى التقارب بينهم. ومن المهم هنا أن نسلط الضوء على كون الباحثين في التجارب السريرية العشوائية يتمتعون بمزايا لا يحظى بها المعالجون النفسيون في عملهم، ومنها:

  • يملكون قاعدة منتقاة من المرضى، بينما في العلاج النفسي فالأطباء يتعاملون مع مرضى قد يعانون من حالتين نفسيتين أو أكثر.
  • عدد الحالات التي يتم التعامل معها أقل.
  • نتائج الجلسات تتم متابعتها ومناقشتها بشكل مستمر مع كبار الخبراء في العلاج النفسي.

تستخدم هول والمعالجون النفسيون حول العالم منذ وقت طويل العلاج المرتكز على التغذية الراجعة، فهي منذ عام 1981 تراجع المرضى وبدأت تشعر بتحسن النتائج بعدما تبنت هذا العلاج لما يقارب 20 عامًا، حيث يحصل المعالجون في هذا النهج على ملاحظات روتينية كثيفة من كل مريض في بداية كل جلسة وتكون حول تأثير العلاج في أربع مجالات مختلفة من حياته، وهي:

  1. الرفاهية الفردية.
  2. العلاقات الشخصية القوية.
  3. التفاعلات مع المحيط الاجتماعي.
  4. الأداء العام.

ويطلق على هذا المقياس بمقياس النتائج أو ORS.

وفي نهاية كل جلسة يدون المعالج ملاحظات كاملة حول أربع عناصر أساسية لتجربة المريض معه، وهي:

  1. الشعور بأنه مفهوم ومسموع.
  2. الحديث عن المواضيع التي تعنيه حقًا.
  3. ملائمة النهج المستخدم له.
  4. تقييم الرضا العام للجلسة، للتأكد من عدم نسيان أي موضوع يهمه.

وهذا يطلق عليه مقياس تقييم الجلسة أو SRDS.

وبدمج نتائج التقييمين يضمن المعالج إعطاءه الأولوية لتفضيلات الشخص.

تظهر بعض الأبحاث أنه على مستوى الشخص هناك اختلاف في نتائج المعالجين النفسيين وعلاقتهم مع المرضى والتي تعتبر عاملًا مهمًا في تحسين هذه النتائج، فالبيانات التي تمّ جمعها على مدى 2.5 عامًا لما يقرب من 2000 مريضًا و91 معالجًا وثقت الاختلافات الكبيرة في إمكانيات الأطباء والبعض منهم كان أكثر كفاءة من غيره، والأسباب الكامنة وراء ذلك هو مقدار الوقت الذي كرسوه في بلوغ أهداف تتجاوز إمكانياتهم من أجل تحسين أداءهم.

ما وضحته لنا الدراسات هو أننا كنا نبحث ولمدة خمسين عامًا في المكان الخطأ عن إجابات حول عدم تحسن نتائج العلاج النفسي، فقد ركزنا على العوامل المؤثرة داخل غرفة العلاج وليس خارجها بينما كان من المفترض أن نبحث فيما يقدمه المريض خلال الجلسة وما يقدمه المعالج قبل وبعد رؤيته للمريض.

حقيقةً يؤثر المريض والعوامل المحيطة به بنسبة 87% من نتائج العلاج النفسي، ويمكن اعتبار هذه العوامل غير علاجية مثل شخصية المريض وبيئته وأصدقائه وعائلته وعلاقاته الاجتماعية، ففي حين أن المريض يقضي ساعة واحدة من كل أسبوع مع معالجه، يقضي باقي الساعات ضمن هذه العوامل والتي تشكل 167 ساعة من أسبوعه. هل هذا يعني أننا لا نستطيع القيام بشيء حيال ذلك؟

بالطبع لا، إذ أن بإمكان المعالجين القيام بما يلي:

أ) التكيف مع هذه العوامل.

ب) الاستفادة منها فيما يخدم علاجهم.

أما نسبة الـ 13% المتبقية توزع بنسبة4-9%   للمعالج النفسي، و 4.9-8 للعلاقة بين المعالج والمريض، 4% للنتيجة المتوقعة من العلاج، في حين نسبة طريقة العلاج المتبعة هي بين 0-1%.

وهذا يفسر كيف تكون شخصية المعالج وكيفية تعامله مع المرضى هي الأساس في تحقيق نتائج إيجابية للعلاج بدون تأثير العوامل الأخرى.

إذن، كيف ينبغي علينا اختبار المعالج؟

حاليًا توجد حركة تدعى “الممارسة المتعمدة” يقودها باحثون ومعلمون وسياسيون ومشرفون بارزون في مجال العلاج النفسي هدفها هو ضمان انخراط الخريجين الجدد في ممارسة المهنة بشكل جدي ومستمر من خلال تحليل أداءهم خلال الجلسات وخاصة في المواقف الصعبة عاطفيًا وتقييم مهارتهم من الخبراء في المجال.

واستمدت هذه الحركة فكرتها من البحث المطول الذي أعده ك. أندرس إريكسون (والذي سمى نفسه الخبير في التجربة) وتناول فيه العوامل المؤثرة في اكتساب الخبرة في العديد من المجالات النشطة مثل الرياضة والطب والموسيقى والرياضيات والأعمال والبرمجة وغيرها، وعليه أجريت دراسة عام 2015 لفهم ما يميز المعالجين ذوي الكفاءة العالية عن المعالجين ذوي الأداء المتوسط وتبين أنهم يقضون نحو أكثر من 2.5 مرة من وقتهم في الدراسة المتعمدة، و14 مرة أكثر من المعالجين العاديين الأقل كفاءة.

يشجع الخبراء المعالجين والمشرفين والمعلمين وهيئات الترخيص على تغيير القواعد المتبعة في تدريب المعالجين النفسيين، ويمكن تحقيق ذلك من خلال قاعدتين الأولى هي التركيز على المريض وتدوين الملاحظات في كل جلسة مما يساهم في تعزيز ثقافة العلاج المرتكز على التغذية الراجعة، والثانية تدريب كل معالج من قبل مدرب يستخدم الممارسة المتعمدة. وهذا يضمن إمكانية مساءلة المعالجين ليس من قبل المرضى فقط وأيضًا من قبل شركات التأمين الصحي ومجال العلاج النفس قبل منح الحق بالممارسة والتدريب والاعتماد والترخيص المستمر للمعالجين.

باختصار، العلاج النفسي فعال. وللذين يرغبون في استكشاف المزيد عن نجاح العلاج النفسي والعوامل المؤثرة في ذلك، أوصي بشدة بقراءة كتاب Better Result: Using Deliberate Practice to Improve Therapeutic Effectiveness والدليل المرافق له.