بقلم: د. سامي البدري. يشكك الكثيرون بمصداقية علم النفس ومدارسه العلاجية ويفترضون انه ربما علما كاذبا. نستعرض في هذه المقالة الأدلة المتوفرة على فعالية طرق العلاج النفسي الكلامي ونناقش بشكل مواز مشكلة مصداقية علم النفس وهل هو علم راسخ بين العلوم أم لا.

إن ما يمكن عده حقيقة علمية لا شك فيها هي تلك الحقيقة التي يمكن إخضاعها للتجربة التي مهما كررتها ستعطي نتيجة مطابقة. وبذلك فإن الكيمياء والفيزياء، على سبيل المثال، هما علمان لا شك في حقيقتهما. فكلما جمعنا ذرتي هيدروجين مع ذرة أوكسجين سوف ينتج مركب ماء.

لكن حين يتعلق الأمر بعلم النفس، فأنت لو عرضت مجموعة من البشر لعوامل متشابهة، فلن ينتج عن أفراد تلك المجموعة استجابات متطابقة، فكل واحد منهم سوف يصيغ استجابته وفق قناعاته وتجاربه السابقة، ومهما حاولت ان تجمع في تجربتك بشر متشابهين، وتوحد الظروف الخارجية للتجربة، فسوف يظل الأفراد مميزون في استجاباتهم التي يصوغونها بحرية. وهكذا لن تجد بسهولة قانوناً واحداً يمكن أن تستنتجه من تجربة ثم تطبقه على كل البشر، فالبشر ليسوا آلات متطابقة مسيرة، لكنهم أفراد مخيرون وأحرار.

لذلك لا داع لتسخيف ذلك الشك الذي بدأنا به المقال من أن هنالك شك في حقيقة علم النفس ومدارسه العلاجية، ومن غير المفيد أن نعترض عليه بعنجهية، فمادة علم النفس هي الإنسان بكل تعقيداته وتناقضاته، والذي يصعب اختزاله لمادة يسهل إخضاعها للتجربة العلمية.

ذلك لا يعني أننا لن نستطيع بتاتاً إثبات بعض القواعد العلمية لدراستنا السلوك البشري وانفعالاته، على شرط ان نعترف ان ذلك العلم لن يكون مشابها لغيره من العلوم البحتة. فما هي خصائص علم النفس إذن وكيف يختلف عن بقية العلوم؟

سوف نستعرض في هذه المقالة الطرق العلاجية الكلامية المعترف بها حاليا، والتي أثبتت فعاليتها، ثم نعود لموضوع مصداقية علم النفس و مقارنته ببقية العلوم لننهي المقال بذلك.

 

طرق العلاج النفسي الكلامي

هناك اليوم حوالي ٤٠٠ طريقة علاج نفسي كلامي، لا يملك اغلبها الدليل العلمي الكافي على فعاليته[1].

لنبدأ أولا باستعراض دراستين طريفتين من فترة منتصف القرن العشرين تبحثان عن دليل علمي إحصائي يثبت ان العلاج النفسي الكلامي فعال.

الأولى لجويل باريس[2]  والثانية لهانز ستريب[3]. أوضحت كلتا الدراستين بأنه ليس لدينا دليلا على أن المعالج النفسي الكلامي الخبير هو افضل من اي معالج نفسي، أو طبيب نفسي، او باحث اجتماعي، او حتى طالب في الطب مهما كانت طريقة تدريبهم وقناعاتهم وخبرتهم.

لم تقل الدراستان أن العلاج الكلامي غير مفيد، بل قالتا انك مهما كانت النظرية التي تدربت عليها وصرت خبيرا بها، فذلك سوف يبدو كتفصيل غير مهم في فعالية العلاج الكلامي.

تكررت نفس تلك الملاحظة في بحوث جيروم فرانك الذي لقب برائد الدراسات المقارنة في العلاج النفسي الكلامي، والذي اهتم بإيجاد العوامل المشتركة في كل الطرق العلاجية الكلامية والتي تجعلها تعطي اثرا ايجابيا.

وقد أوجز تلك العوامل بالتالي[4]:

  1. العلاقة المبنية على التعاطف والخالية من الأحكام المسبقة
  2. العلاقة المبنية على الثقة
  3. بنية للعلاج وحدود واضحة تمنح إطارا رسميا للعلاقة
  4. زرع الامل
  5. منطق نظري للعلاج
  6. عملية علاجية يمكن التعرف عليها

وفي إحدى دراسات جيروم فرانك[5] نجد انه يستعرض تاريخ العلاجات النفسية الكلامية بطريقة تدعو للتأمل فيقول اننا في فترة العصور الوسطى، حين غلب على البشر الإيمان بالأرواح والاشباح، لاقت طريقة التنويم المغناطيسي نجاحا وشيوعا. ثم في فترة القرن التاسع عشر، حين سادت القيم الابوية المتسلطة والكبت الجنسي، ظهر التحليل النفسي الذي فرض بعنجهية نظريته بلا حاجة الى تقديم أدلة، وقدمت تلك النظرية رأيها بكل شيء. وعندما نشأت أمريكا المادية النفعية، ظهرت النظريات السلوكية المبسطة والمسطحة، لكن العملية. ثم في فترة الحروب العالمية في أوربا وتهديد الموت والفناء ظهر العلاج الوجودي. وفي فترة ما بعد الحرب، وشيوع نمط العيش المعتمد على الفردانية، ظهر العلاج بالمجموعة. وما أن انتبهنا إلى أن العالم بالغ في تقديس القيم المادية، حتى صارت مدارس علم النفس تنادي بالرجوع إلى حكمة الشرق وخصوصا التأمل.

وبعد ذلك الاستعراض التاريخي الذكي والسريع لنشأة مدارس علم النفس وطرقه العلاجية الكلامية، يوحي جيروم فرانك لنا بأن في الاخير فان كل هذه الطرق العلاجية متشابهة في فعاليتها ووظيفتها رغم الاختلافات الظاهرة، فهي فقط تصطبغ بثقافة العصر السائد أثناء نشوؤها.

بيتر فوناجي والدليل على فعالية العلاجات النفسية

ترك لنا جيروم فرانك إرثا مهما وبناءا، استطاع بعده بعض علماء النفس أن يكملوا المشوار وربما أهمهم بيتر فوناجي، الذي تخصص في التحري عن أدلة تثبت فعالية طرق العلاج النفسي. وقد جمع استنتاجاته وخبراته في كتاب بعنوان “أي العلاجات النفسية فعال؟ ولأي شيء؟”[6] خلاصته أن هنالك دليل علمي بأن العلاج المعرفي السلوكي فعال لبعض اضطرابات القلق مثل القلق العام، اضطراب الذعر، الفوبيا الاجتماعية، وكذلك لداء الوسواس القهري واضطراب ما بعد الصدمة واضطرابات المزاج، ومتلازمة التعب المزمن، وبعض الاضطرابات النفسية التي تصيب الأطفال مثل التبول اللاإرادي، وان العلاج التحليلي الديناميكي والعلاج البين ـ شخصي فعالان في علاج الشخصية الحدية وبعض أنواع الاكتئاب.

أفول التحليل النفسي

كما نرى، بينما أثبت العلاج المعرفي السلوكي فعاليته في علاج الكثير من الاضطرابات النفسية، اقتصر التحليل النفسي على علاج جزء يسير من تلك الاضطرابات. أضف إلى ذلك أن العلاج المعرفي السلوكي يقتصر على عدد محدد من الجلسات، وغير مكلف مقارنة بالتحليل النفسي، الذي يعد  طريقة علاجية طويلة الأمد ومكلفة.

لن نستغرب بعد ذلك لو عرفنا أن وزارة الصحة البريطانية، أو ما يسمى بخدمات الصحة الوطنية في بريطانيا، والتي تؤمن علاجا مجانا للمواطن، قامت بتشجيع وحدات العلاج المعرفي السلوكي وتوجيه المرضى إليها، بينما قامت بتفكيك وحدات العلاج النفسي التي تستخدم التحليل النفسي وطالبتها بأن تحدد اطار واضح، مثلا تحديد عدد معين من الجلسات[7].

فتشجع ممارسو التحليل النفسي على أن يكونوا عمليين أكثر، وان يحددوا أهدافا واضحة لطريقتهم العلاجية وأهدافا يمكن قياسها، فبزغت طرق مختصرة مبنية على بعض مبادىء التحليل النفسي.

إن أهم هذه المبادئ الذي ارتأى ممارسو التحليل النفسي المعاصرين أن يعتمدوه كنواة لنظريتهم وانطلاقة لعلاجهم، هو مفهوم التعلق، وذلك لأن التعلق يمكن قياسه ودراسته مختبريا.

يمكن حصر خدمات العلاج النفسي المبنية على التحليل النفسي المعترف بها من قبل وزارة الصحة البريطانية بالخدمات الستة التالية7.

العلاج البين-شخصي، العلاج السيكو ديناميكي البين-شخصي، العلاج الديناميكي البين-شخصي، العلاج المعرفي التحليلي، العلاج المبني على التعقل، العلاج المبني على التحويل.

على نحو مشابه قامت الجمهورية الفرنسية بسن المادة ٥٢ من قانون عام ٢٠٠٤ الذي يعرف المعالج النفسي، ويشترط سجلا وطنيا يكون هذا المعالج قد سجل فيه، وان يكون يملك شهادة في علم النفس، ووضع شروط محددة يجب توفرها لدى كل من المحلل النفسي أو الطبيب من أجل أن يتم الاعتراف بهم كمعالج نفسي. كما نرى ان القانون الفرنسي يفرق بين المعالج النفسي والمحلل النفسي، وهي خطوة اتخذت بعد الانتباه الى فشل مدرسة التحليل النفسي بتقديم أدلة علمية على ادعاءاتها.

العلاج الكلامي والمشبك العصبي الواحد

أن هذا العنوان الفرعي هو عنوان بحث قدمه الطبيب النفسي أريك كاندل[8] الحائز على نوبل في الطب، حيث خصص هذا العالم أغلب بحوثه لتفنيد ما يسمى بالثنائية الديكاريتة ومحاولة إثبات أن مكان العقل هو في الدماغ وبان العلاج النفسي يغير من بنية الدماغ عضويا.

انتبه كاندل ان مفتاح فهم كيفية تكون الشخصية، وفعالية العلاجات النفسي، والسبب في نشوء الاضطرابات النفسية يكمن في فهم مبدأ التعلم. فصار يحاول تعريف التعلم بيولوجيا، وركز على أبسط أنواع التعلم مثل التحسس والتعود ودرسها في كائنات بسيطة ليجد أن تعلم خبرات جديدة دوما ما يصاحبه تغير في التعبير الجيني، وبالتالي تغير في إفراز النواقل العصبية ومستقبلاتها، واخيرا تغير في بنية الجهاز العصبي. وقدم عام ١٩٩٨ مقالته الشهيرة بعنوان الإطار الفكري الجديد للطب النفسي[9] والتي وضع فيها خمسة نقاط تلخص أفكاره لكن ما يهمنا اليوم في مقالتنا هي النقطة الخامسة التي تقول: “إذا كان العلاج الكلامي فعالا فمن المحتمل انه يعمل ذلك من خلال التعلم وبالتالي من خلال تغيير التعبير الجيني، الذي سوف يغير الارتباطات العصبية، واخيرا يسبب تغيرات في بنية الدماغ”.

هل علم النفس وطرقه العلاجية حقائق علمية؟

يجد علماء النفس وأطباءه أنفسهم مجبرين على معالجة بعض قضايا تخصصهم بطريقة فلسفية. وواحدة من المسائل المهمة هنا والمتعلقة بموضوع مقالتنا هي هل ان الحقائق التي يناقشها علم النفس حقائق علمية مطلقة؟ أم أن هنالك بعض النسبية؟

أحد أطباء النفس الذين ناقشوا موضوع حقيقة العلوم النفسية هو الطبيب النفسي كينيث كندلر الذي تكلم في احدى مقالاته[10] عن “نكهات”، أو يمكن أن نقول درجات، لحقيقة العلوم تحدد درجة الحقائق من كونها نسبية أو مطلقة.

وقال أن هنالك ما أسماه بالنكهة الكيماوية للعلوم والنكهة الاحيائية للعلوم، وضع مقارنة من أربع نقاط بين تلك النكهتين، ليستنتج اخيرا ان العلوم النفسية هي أقرب للنكهة الاحيائية. لنستعرض ماذا يقول عن تلك النقاط أو الفروق الاربعة في درجة حقيقة علم الكيمياء والاحياء:

١. فيما يخص الكيمياء، هناك حد فاصل واضح وقاطع بين عناصر الجدول الدوري، بينما في الأحياء لا يوجد حد فاصل مشابه بين انواع الكائنات الحية.

٢. إن عناصر الجدول الدوري تكاد تكون نفسها منذ الأزل (مع استثناءات في بعض الظواهر كالتفاعلات النووية وبعض الظواهر الكونية)، بينما أنواع الكائنات الحية يمكن أن تتطور وتحدث وتنقرض.

٣. تعرّف عناصر الجدول الدوري برقم ذري واحد تعود له كل صفات العنصر، بينما لا يمكننا تعريف نوع من أنواع الكائنات الحية بصفة أساسية واحدة.

٤. في الكيمياء، نجد ان كل ذرات العنصر الواحد متطابقة، فلا يوجد فرق بين ذرتي هيدروجين مثلا، بينما يختلف أفراد النوع الواحد في الأحياء.

يستند كينيث كندلر على تلك النقاط الأربعة ليقول إن نوعية أو درجة أو حسب تعبيره “نكهة” الحقيقة تختلف بين العلوم، فهي في علم الكيمياء اقرب للمطلق والوضوح، بينما تتصف الحقيقة في الأحياء ببعض النسبية. ويضيف اننا في العلوم النفسية مجبرين على التعامل مع حقائق نسبية بدرجة كبيرة، فلن نجد قاعدة يمكن تطبيقها بنسبة ١٠٠ بالمئة، وعلينا قبول تلك المطاطية والنسبية في العلوم النفسية.

خلاصة

حاولنا تقديم ما يقوله العلم المستند الى الدليل حول العلاجات النفسية الكلامية في هذه المقالة، ولم نستطع ان نفعل ذلك بلا ان نتطرق لمواضيع فلسفية تتعلق بفلسفة العلوم ومعنى الحقيقة. إن إفلات علم النفس من قبضة العلوم المطلقة والاختزالية والبحتة يمكن عده ارتقاءً ومديحاً لهذا التخصص، وكيف لا وهو العلم الذي انبرى ليدرس الإنسان، بكل تناقضاته، الانسان الحر المخير بأن يصوغ استجاباته وفقا لقناعاته وتجاربه وتطلعاته. فصار على من يريد ان يمارس هذا التخصص أن يقف موقفا وسطا بين العلم من جهة، والفن والفلسفة من جهة أخرى، ليستحق أن يدعي، لو توفق في ذلك المسعى، بأنه يمارس واحد من أرقى التخصصات العلمية.

المراجع

[1] Guelfi JD, Rouillon F, Mallet L. Manuel de psychiatrie 4e Edition. Elsever Masson. 2021

[2] Paris J. Fall of an icon, psychoanalysis and academic psychiatry. University of Toronto Press. 2005

[3] Strupp HH. Psychotherapeutic technique, Profitionnal affiliation, and Experience level. Journal of consulting psychology. Vol. 19, No. 2, 1955

[4] Frank JD. Persuasion and healing, a comparative study of psychotherapy. ‎The Johns Hopkins University Press; 2nd edition (March 1, 1973)

[5] Frank JD. Common features of psychotherapy. Aust. N.Z. J. Psychiatry. (1972) 6: 34

[6] Fonagy P, Cottrell D, Philips J, Bevington D, Glaser D and Allison E. What worksnfor whom? A critical review of treatments for children and adolescents. The Guilford Press. 2014

[7] Yakeley J. Psychodynamic psychotherapy: developing the evidence base. Advances in Psychiatric Treatment. 2014;20(4):269-279. doi:10.1192/apt.bp.113.012054

[8] Kandel ER. Psychotherapy and the Single Synapse — The Impact of Psychiatric Thought on Neurobiologic Research. N Engl J Med 1979;301:1028-1037 DOI: 10.1056/NEJM197911083011904 VOL. 301 NO. 19

[9] Kandel ER. A new intellectual framework for psychiatry. Am J Psychiatry. 1998 Apr;155(4):457-69. doi: 10.1176/ajp.155.4.457. PMID: 9545989

[10] Kendler KS. The nature of psychiatric disorders. World Psychiatry. 2016 Feb;15(1):5-12. doi: 10.1002/wps.20292. PMID: 26833596; PMCID: PMC4780286.