مقال: ستيفن نوفيلا. لقد بينت الأبحاث التشريحية العصبية منذ فترة طويلة أن هناك اختلافات إحصائية ليست بقليلة  بين أدمغة الذكور والإناث. بالإضافة إلى الاختلافات الوظيفية من حيث الذاكرة والإدراك.  ومع ذلك، فإن هذه الاختلافات إحصائية إلى حد كبير، وهي تعتمد على خليط خاص  من السمات المختلفة المتواجدة لدى كل احد منا. وهذا يعني أنه إذا نظرنا إلى سمات محددة (سواء كانت تشريحية أو وظيفية) فهناك اختلافات بين الذكور والإناث، ولكن لكل فرد منا نمط خاص به من الخصائص  الذكورية والانثوية. اي انه لا يوجد دماغ أنثوي نموذجي أو دماغ ذكري نموذجي.

تركز هذه الدراسة بشكل اساسي على الذكور والاناث من الجنسين فقط. اي انها لا تشمل من لا يعتقدون بهذا النوع من التصنيف. هناك دراسات بدأت بتطبيق ما تعلمناه عن ادمغة الذكور والاناث على الأشخاص غير ثنائي الجنس ( Non-binary)، ولكن هذا نوع آخر من البحوث لا اريد الخوض فيه حاليًا.

هناك العديد من الاسئلة التي يمكننا طرحه حول هذا البحث، فمع تحسن تقنياتنا لتصوير وتحليل الدماغ، هل تزداد الفروق بين الذكور والإناث وضوحًا أم تصبح أكثر ضبابية؟ إذا كانت هناك فروق عصبية حقيقية بناءً على الجنس البيولوجي، فإنه مع تحسن تقنياتنا يجب أن تتبين هذه الفروق علميًا، ويجب أن نحصل على صورة أكثر وضوحًا ودقة عنها. وهذا يبدو ما يحدث بالفعل.

قدمت دراسة حديثة  مثالاً رائعاً على الاتجاه الذي تتجه إليه هذه الأبحاث. هناك ثلاثة ميزات رئيسية لهذه الدراسة. الأولى هي استخدامها لتكنولوجيا التصوير بالرنين المغناطيسي ( MRI) لفحص البنية المجهرية للأدمغة الحية. تعتمد هذه التقنية  على التصوير بالرنين المغناطيسي الانتشاري، الذي يقيس سرعة حركة جزيئات الماء عبر الأنسجة المختلفة وفي اتجاهات متعددة لتمييز الأنسجة المختلفة في الدماغ وإنشاء صور مفصلة لها. كما تعكس هذه التقنية الاختلافات في البنية المجهرية للأنسجة وهي مفيدة بشكل خاص في تصوير أنسجة الدماغ، حيث أن الاتصالات بين خلايا الدماغ تخلق بنية نسيجية محددة جدًا. جميع تلك المحاور العصبية التي تسير في نفس الاتجاه تسمح بانتشار الماء باتجاه محدد.

في الواقع، تركز هذه الدراسة بشكل أساسي على المادة البيضاء في الدماغ – الجزء الذي تمر فيه جميع المحاور العصبية، مما يشكل الاتصالات. بالإضافة إلى ذلك، قامت الدراسة بوضع خرائط الانتشار على قالب دماغي معياري واحد، بحيث لا يعرف الذكاء الاصطناعي حجم الدماغ أو تفاصيل أخرى مثل سمك القشرة الدماغية. بهذه الطريقة، لم تستطع خوارزميات الذكاء الاصطناعي استخدام تلك التفاصيل لتحديد الجنس البيولوجي، وكان عليها الاعتماد فقط على نمط اتصالات المادة البيضاء.

التكنولوجيا المتقدمة الثانية التي اعتمدت عليها هذه الدراسة هي الذكاء الاصطناعي (AI). أعلم أن هناك الكثير من الضجيج المحيط بالتطورات الأخيرة في الذكاء الاصطناعي، لكن لا تدع هذا الضجيج يشتتك. خوارزميات الذكاء الاصطناعي قوية، وتعد فائدة متزايدة لأنواع عديدة من الأبحاث. هناك ثورة حقيقية في البحث العلمي بواسطة الذكاء الاصطناعي تحدث حاليًا، وهذه الدراسة مجرد مثال واحد على ذلك.

استخدم الباحثون ثلاثة نماذج رئيسية للذكاء الاصطناعي: الشبكات العصبية ثنائية الأبعاد، الشبكات العصبية  ثلاثية الأبعاد، و”المحوّل البصري” (Vision Transformer)، لتحليل آلاف من مسوحات الرنين المغناطيسي المجموعة من 471 ذكراً و560 أنثى من الأفراد الأصحاء (تتراوح أعمارهم بين 22 و37 عاماً). تم إعلام نماذج الذكاء الاصطناعي في البداية بالجنس البيولوجي للعينات، وتعلمت الأنماط الانتشارية المرتبطة بكل جنس. ثم تم إعطاؤها مسوحات غير محددة الجنس وطُلب منها التنبؤ بما إذا كانت تعود لرجل أو امرأة.

تمكنت جميع نماذج الذكاء الاصطناعي من التمييز بدقة بين ادمغة  الذكور والأناث بنسبة تتراوح بين 92٪ و98٪، وهي دقة ملحوظة. هذه ليست الدراسة الأولى التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لفحص الفروقات البيولوجية بين الجنسين في وظائف الدماغ، لكنها حتى الآن الأكثر دقة.

تختلف هذه الدراسة الحديثة أيضاً عن الدراسات القديمة (التي لم تستخدم الذكاء الاصطناعي) في أنها تستطيع التمييز بين ادمغة الذكور والأناث بشكل فردي. كانت الدراسات القديمة تتمكن فقط من تحديد الفروقات الإحصائية بين الجنسين. هذا يشبه القول بأن الرجال أطول من النساء في المتوسط، لكن معرفة طول الشخص لا تخبرك ما إذا كان ذكراً أم أنثى بيولوجياً. لكن الذكاء الاصطناعي يمكنه النظر في مجموعة من هذه الفروقات الإحصائية وتعلم كيفية إجراء تنبؤات دقيقة بشأن جنس الفرد.

ومع ذلك، فإن هذا البحث لا يخبرنا عن الأسباب النهائية لهذه الفروقات. لأن تطور الدماغ يتأثر بشكل كبير بالبيئة وتجارب التعلم للفرد، فإن الفروقات الواضحة في التشريح والوظائف يمكن أن تكون على سبيل المثال  نتيجة للتنشئة الاجتماعية، من المرجح أيضاً أن الفروقات الهرمونية تلعب دوراً كبيراً في تطور الدماغ. من الصعب تحديد التوازن النسبي بين التأثيرات البيولوجية والبيئية على بنية الدماغ، ومن المحتمل أن يختلف هذا التوازن بشكل كبير بين الأفراد.

ان تطوير خرائط وظيفية لأدمغة الذكور والإناث مفيد جداً للبحث المستقبلي. فقد ثبت منذ فترة طويلة، على سبيل المثال، أن العديد من الحالات العصبية والنفسية تختلف بين الذكور والإناث. الرجال على سبيل المثال أكثر عرضة للإصابة بالتوحد بينما النساء أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب. إذا كان لدينا خريطة مفصلة للفروقات الدماغية بين الذكور والإناث، يمكن أن تلقي الضوء ليس فقط على سبب اختلاف مخاطر هذه الحالات، ولكن أيضاً على طبيعة هذه الحالات نفسها.

يمكن استخدام هذه الأدوات نفسها أيضاً للتمييز بين الدماغ المصاب بالفصام والدماغ الطبيعي. ولكن بالطبع، علينا أولاً تحديد ما يبدو عليه الدماغ الطبيعي، وهذا يعني معرفة ما يبدو عليه الدماغ الذكوري النموذجي والدماغ الأنثوي النموذجي. سيكون من المثير أيضاً استخدام هذه التقنية لفحص الأفراد المتحولين جنسياً أو غير الثنائيين لفهم هذه الظاهرة بشكل أفضل.

بعبارة أخرى – يتجاوز هذا البحث السؤال الأساسي حول الفروقات الدماغية بين الجنسين. إنه مهم جداً للبحث في علم الأعصاب بشكل عام، ومن المرجح أن يساعد في فهمنا للعديد من الحالات العصبية.

المصدر : 

Steven Novella, Male and Female Brains are Different, Science-Based medicine, May 15, 2024

تم نشر المقال ضمن العدد 62 من مجلة العلوم الحقيقية وراجعته لغويا ريام عيسى