تستيقظ صباحاً، تلتفت من حولك، تنظر إلى خزانتك القديمة، حاسوبك، قميصك المفضل، وهاتفك الذي يرقد بجانبك. تنهض، تنظر في المرآة، تغسل وجهك، تتناول فطورك المعتاد، تنظر لوجه أمك الذي يشع حناناً وسعادة، لا شيء غريب ولا تتوقع أن يحدث شيئاً غريباً. ولكن هل تسائلت في يومٍ ما عن إمكانية أن تبدو كل هذه الأشياء ” المألوفة ” غريبة؟ تستيقظ فتبدو الاشياء غير مألوفة، لا خزانتك، لا حاسوبك، لا قميصك، ولا حتى أمك، لن تشعر بذلك الدفء والحنان، وربما لن تشعر بوجودك. دماغك لن يحتمل ذلك وسيعمل على إيجاد حلول ثانوية، فالدماغ يكره المجهول ولذلك سيقول ” إن كل هذه الأشياء هي نسخ ليست حقيقة، وما هو حقيقي قد اختفى “. إن هذا ليس خيالاً علمياً بل هو حالة طبية تعرف بمتلازمة كابغراس (Capgras’ Syndrome).
وصِفت هذه المتلازمة عام 1923 من قبل عالم النفس الفرنسي جوزيف كابغراس (Joseph Capgras) بعد أن لاحظها في سيدة تدعى ” السيدة أم ” التي اعتقدت أن اشخاصاً محتالون قد تقمصوا شخصية زوجها. وقد أُعتبرت هذه المتلازمة مرضاً نفسياً بحتاً يصاحب حالات نفسية مختلفة كانفصام الشخصية (Schizophrenia) أو الاضطراب ثنائي القطب (Bipolar Disorder) ولكن بعد ذلك لوحظت هذه المتلازمة في أمراض عصبية أخرى كالزهايمر (Alzheimer)، في بعض الحوادث التي تصيب الرأس، وفي بعض الحالات التي تتعلق بتناول الأدوية، لذلك فإن تفسير هذه المتلازمة وسبب حدوثها يختلف تبعاً لنوع الحالة.
جميعنا نكوّن صورة داخلية عن العالم المحيط بنا، منزلنا، أهلنا، حيواناتنا الأليفة وكل شيء محيط بنا وهذه الصورة لا تُخزن في ذاكرتنا كالصور الاعتيادية بل تتطلب تفاعلاً معيناً، أي قليلاً من المشاعر. ولذلك فإن نظرتنا لوالدينا لا تشتمل فقط على التعرف على هيئتهما ولكن تتطلب ” الفةً ” أيضاً، ونفس الشيء ينطبق على الأشياء المحيطة بنا التي أصبحت مألوفة بالنسبة لنا والفة هذه الأشياء لن نشعر بها الا عندما نفقدها أو يتغير المحيط.
جانيت (Janet) طالبة عمرها 24 سنة دخلت إلى غرفتها لتجد رجلاً غريباً مطروحاً على سريرها، سألته عن هويته وعن كيفية دخوله لشقتها ولكنه مازحها، شعرت جانيت بداخلها أن هذا الرجل غريب جداً على الرغم من شبهه بزوجها بل هو نسخة منه حتى بملابسه وتصرفاته ولكن هذا الشعور الداخلي غير موجود، الشعور الذي اعتادت عليه خلال الثلاث سنين التي مضت. شعرت جانيت أن هناك شخصاً ما استبدل زوجها بنسخة له وأن زوجها الحقيقي في مكان آخر، لذلك حاولت الاتصال بالشرطة لكي يتخلصوا من هذا الرجل، ولكنه منعها من ذلك، لم تجد جانيت تفسيراً، ولذلك ذهبت إلى طبيبتها النفسية، وبعد أن حكت لها ما حدث وجدت طبيبتها أن جانيت لم تأخذ دوائها لمعالجة انفصام الشخصية، بعد فترة تكرر نفس الحادث لتدخل هذه المرة إلى المستشفى لكي تأخذ دوائها.
لا تقتصر هذه الحوادث على الازواج والاباء، فقد تمتد إلى الأبناء، قد تظن الأم أن طفلها قد أُستبدل بطفلٍ آخر وهذا ” الظن ” قد يسبب خطراً للطفل كما في حالة ماري (Mary). ماري سيدة في الأربعين من عمرها، متزنة، ذكية، وفي كل نواحي حياتها تبدو طبيعية إلا عندما تنظر إلى طفلتها سارة. تعتقد ماري أن طفلتها سارة قد حُجزت في دار رعاية للأطفال وأن الطفلة التي أمامها هي نسخة من سارة. ولذلك، وفي أحيانٍ كثيرة، رفضت ماري أن تأخذ سارة من المدرسة قائلةً ” أعطوني ابنتي الحقيقية، أعلم ما فعلتم بها “. وعلى الرغم من كل التأكيدات التي حصلت عليها من الأقرباء والمسؤولين على أن هذه البنت هي سارة، إلا أنها لم تقبل بها. مقدمةً تبريرات لظنها بقولها ” لقد اخذتموها قبل أن أكلمها” أو ” لقد رأيت سيارة تمر بجانبي وسارة جالسة في مقعد الراكب ولم اتمكن من الوصول إليها “. استمرت ماري على هذا الحال رغم الأدوية التي أخذتها ولكن لم تنفع معها وحرصاً على سلامة سارة، فقد أخذوها من أمها لتصبح تحت رعاية المجتمع. أن مثل هذه الحالات نادرة والحالات الأكثر شيوعاً هي التي تكون تجاه الزوج أو الزوجة أو تجاه الام. وكما قلنا سابقاً فإن هذه المتلازمة لا تقتصر على الأمراض النفسية أو على تناول الأدوية فقط كما رأينا في الحالتين السابقتين ولكن تحدث أيضاً عند التعرض لإصابة في الرأس كما في حالة احد الطلبة في جامعة كاليفورنيا، والذي لم يستطع التعرف على أمه. كذلك تمتد الحالة إلى المصابين بالزهايمر أو الخرف. كما حدث مع رجل في التاسعة والثمانين من عمره (لندعوه جاك)، وجد جاك نفسه تائهاً لا يستطيع التعرف على شقته على الرغم من تأكيد رجل الشرطة أن الشقة التي يقف أمامها هي شقته ولكن جاك أصر على رأيه قائلاً ” أعلم أن لدينا شقتين متشابهتان، واحدة ننام فيها ولكن …… ولكني لا أستطيع أن أجد الأخرى “، كان جاك مصاباً بالخرف وهذا تفسير حالته.
تكلمنا عن حالات مختلفة ولكننا لم نقدم تفسيراً لهذه المتلازمة. التفسيرات اختلفت في هذه المتلازمة فكيف يمكن أن نتعرف إلى الأب ولا نتعرف إلى الأم أو العكس ؟ كيف يمكن أن أتعرف إلى أحد أطفالي دون الاخر ؟ كل هذه الاسئلة طرحت والاجابة عنها اختلفت.
إن هذه المتلازمة يمكن تفسيرها من ناحية نفسية ومن ناحية عصبية.
الناحية النفسية
يقول المحللون النفسيون أن هذه المتلازمة تنتج من المشاعر السلبية المدفونة في ذات الشخص، أي أنك تحب شخصاً ما بكل سيئاته وحسناته ولكن بعد فترة ما تقول أن هذا الشخص قد تغير عن أول مرة عرفته بها ولذلك ستبحث عن تفسير يظهر سيئات هذا الشخص ولكي لا تشعر بالذنب فإنك ستقول أن هذا الشخص هو نسخة من الذي عرفته أول مرة. وبذلك ستلقي بكل شيء سلبي على هذه ” النسخة ” بأمان.
يُذكر أنه لا دليل يوجد على صحة هذه الفرضية.
الناحية العصبية
هناك مناطق معينة في الدماغ تكون مسؤولة عن التعرف إلى الشيء (شكله، أبعاده … الخ) وهذه المنطقة تدعى بالتلفيف المغزلي (Fusiform Gyrus)، بعد أن يتم التعرف على هذا الشيء، سترسل إشارة إلى الجهاز الحوفي (Limbic System) وهذا الجهاز هو المسؤول عن العواطف. ولذلك إذا حدث قطع ما في الطريق الذي يربط بين الجهازين، نتيجة لحادث على سبيل المثال، عندها سيتمكن المريض من التعرف على الشيء ولكن لن توجد استجابة عاطفية تجاهه ولذلك نراه يقول ” من أنت؟ أين زوجي (أمي، ابنتي) الحقيقية؟”. هذا التفسير قدمه الدكتور راماشندران (Ramachandran) ولكي يختبره، فإنه عمد على إجراء تجربة مع احد المصابين وذلك من خلال قياس استجابة الجلد الجلفانية خلال عرض صور لأشخاص مختلفين، يعرفهم ولا يعرفهم. أن استجابة الجلد الجلفانية تزداد عندما ننظر إلى شيء يؤدي إلى إثارة مشاعرنا، أي أننا سنبدأ بالتعرق حتى ولو بدرجة قليلة جداً ولكن ما توصل له الدكتور راماشندران كان غريباً عندما عرض صور والدة المريض عليه، إذ لم تظهر أي استجابة تجاهها وهذا ما أكد صحة كلامه.
هل هذا كل شيء ؟
ما زالت كثير من الاسئلة تدور حول هذه المتلازمة، فالتفسير النفسي الذي لا يرضي الجميع لأنه لا يعدو عن كونه فرضية، ومن الطرف الآخر فإن التفسير العصبي ليس له ذاك المستوى الواسع من القبول ولعدة أسباب. فالتفسير العصبي يفسر لنا الحالات الناتجة من الحوادث وأمراض الدماغ كالزهايمر ولكنه لا يعطينا جواباً عن سؤالنا، لماذا يتعرف الشخص إلى أبيه ولا يتعرف لأمه؟، لماذا لا يستطيع التعرف إلى جميع الأشياء؟، ولماذا تختلف أشكال هذه المتلازمة؟
في بعض الحالات لم يستطع المرضى التعرف على أثاثهم او شقتهم كما رأينا ولكن أشد مظاهر هذه المتلازمة تتمثل بعدم قدرة تعرف الشخص على نفسه! اذ انه يرى وجهه ولكنه يقول ” أن هذا الشخص محتال ” كما في حالة جوزيف او السيدة روزاموند.
عندما نظر جوزيف في المرآة، رأى شخصاً غريباً لم يره من قبل. قرص نفسه، فقرص الرجل الذي في المرآة نفسه، شيء غريب ولكن جوزيف لا زال لا يشعر بهذا الرجل الذي في المرآة. “هل أبدو مختلفاً؟” سأل جوزيف الذين من حوله. “هل لا زلت الشخص نفسه؟”. ونفس الشيء حدث مع السيدة روزاموند، ولكنها ظنت أن المرأة المنعكسة على زجاج الشبابيك والمرايا قد أتت لتعذبها، لتسرق زوجها منها. لذلك عمد زوجها إلى تغطية جميع الأسطح العاكسة في المنزل لكي يمنعها من الغضب ومن مهاجمة نفسها. هاتان الحالتان تعطياننا نظرة إلى هويتنا وعن نظرتنا إلى أنفسنا وكيف تتكون هويتنا داخل أدمغتنا. ولكي نفسر هاتين الحالتين لا بد أن نربط الناحيتين النفسية والعصبية، ولقد رأينا كيف تصاحب هذه المتلازمة بعض المصابين بانفصام الشخصية. إن المصاب بانفصام الشخصية يعاني من خلل ما في القشرة ما قبل الجبهية (Prefrontal Cortex) وهذه المنطقة مسؤولة عن التحكم واتخاذ القرارات، منها الموافقة على الشيء أو منعه، ونعلم أن المصاب بانفصام الشخصية يعيش بعالمٍ صخب، عالم بشخصية متكسرة، بتخيلات وغيرها وأعتقد أن المصاب بالانفصام سيتخذ وضعية دفاعية ولذلك فإنه سيرسل إشارة إلى الجهاز الحوفي (Limbic System) يوقف فيها عمل اللوزة (Amygdala) واللوزة مسؤولة عن بعض الاستجابات العاطفية منها الخوف وغيرها ولذلك إذا توقف عملها فلن تنبعث أي مشاعر حالما يتم التعرف على الشخص، ولهذا نلاحظ أن هذه المتلازمة تظهر عندما يترك المرضى ادويتهم. في حالة الزهايمر تبدأ مراكز الذاكرة بالتضرر ونفسها اللوزة (Amygdala) تتضرر وهذا أيضاً يعطينا تفسيراً لسبب حدوث هذه المتلازمة في المرضى المصابين بالزهايمر.
لا تستغرب إذا علمت أن هذا المريض لو سمع صوت أمه فسيتعرف عليها بكل سهولة، فلو اتصلت به سيتعرف إلى صوتها ولكن حالما تظهر لن يتعرف لها، وهذا يبين لنا أن الطريق الذي يربط المناطق المختصة بالسمع بالمراكز العاطفية يختلف عن الطريق الذي يربط النظر بالعاطفة، وهنا نأتي إلى التساؤل “كيف نعالج هذه المتلازمة؟”.
المصابين نتيجة الحوادث غالباً ما يرجعون إلى حالتهم الطبيعية، كذلك بالنسبة لبعض المرضى النفسانيين وذلك من خلال أخذ الأدوية المناسبة، ولكن ما حال المرضى المصابين بالخرف أو الزهايمر؟ هنا الحالة صعبة وعليك أن تدخل إلى عالمهم، لا نقاش، لا تصحيح لما يعتقدونه وعليك أن توفر لهم الدعم. لن تستطيع تخيل صعوبة موقف تنسى فيه شخص تحبه وتعتقد أنه نسخة عن الحقيقي، أو أنك تنسى أين وضعت اشيائك، كل هذه الصعوبات وغيرها يواجهها هؤلاء المرضى وعلينا أن نتقبل حالتهم.
قد تبدو لك هذه المتلازمة مثيرة، ولكن عند أهلهم وبالنسبة لهم أمر صعب جداً والاصعب هو التكيف معه. وبالطبع بيّنت هذه المتلازمة كيف يبحث الدماغ عن تفسير لكل شيء.
اقرأ أكثر:
- Blakeslee, S., Ramachanan, V. S., Shah, N., & Tantor Media. (2013). Phantoms in the brain: Probing the mysteries of the human mind. Old Saybrook, CT: Tantor Media.
- Feinberg, T. E. (2002). Altered egos: How the brain creates the self. Oxford: Oxford University Press.
- Ananthaswamy, A., & Ruiz, R. (2015). The man who wasn’t there: Investigations into the strange new science of the self.