بقلم: إليزابيث بريستون- نوابيل ماجازين – ترجمة: علي الخطيب
قد تغير نماذج السلوك الفردية مسار الدراسات العلمية، لكن حل هذه المسألة في جعبة الباحثين.
حقوق الصورة:Dominique Filippi
بدأ كريستيان روتز منذ عدة سنوات تساؤله فيما إذا كان يوفي غِربانه حقها أم لا. وروتز عالم أحياء في جامعة سانت أندروز في اسكتلندا، وكان لدى فريقه مجموعة من غربان كاليدونيا الجديدة البريّة، وكانوا يعرّضونها لأحجيات صعبة مبنية من مواد طبيعية قبل إطلاقها إلى البريّة مجدداً.
عُرض على هذه الطيور جذع شجرة مثقّب في أحد الاختبارات، وقد حوت بعض هذه الثقوب طعاماً مخفياً، وكان من الممكن للطير أن يُخرج الطعام منها عن طريق ثني ساق نباتي على صورة خطّاف [ليخرج الطعام به من الثقب]. وفي حال لم يحاول الطير فعل ذلك خلال ٩٠ دقيقة، أخرجه الفريق من مجموعة البيانات.
يقول روتز إنه سرعان ما أدرك بأنه لم يكن يدرس في الحقيقة مهارات غربان كاليدونيا الجديدة، بل كان يدرس مهارات مجموعة جزئية منها سارعت إلى الاقتراب من جذع غريب لم تره من قبل، وربما حدث ذلك لأنها كانت أكثر شجاعة أو تهوّراً.
وعلى هذا غير الفريق سياسته، إذ بدأ يمنح الطيور الأكثر تردداً وقتاً إضافيّاً يمتد ليوم أو اثنين كي تعتاد على البيئة المحيطة الجديدة حولها، وبعدها يجربون اختبار الأحجية ذاك مجدداً.
يقول روتز: «تبين أن العديد من الطيور التي أعيد اختبارها بدأت تشارك فجأة؛ فقد كانت بحاجة للقليل من الوقت الإضافي فحسب».
يدرك العلماء يوماً بعد يوم أن الحيوانات لها شخصيات متفردة كما البشر. إذ تختلف ميولها وعاداتها وتجارب حياتها، وربما هذا يؤثر على كيفية أدائها في تجربة ما.
وهذا يعني كما يقول بعض الباحثين أن الكثير من الدراسات المنشورة التي تبحث سلوك الحيوانات قد تكون منحازة.
فالدراسات التي تزعم بأنها تكشف شيئاً ما عن نوع بكامله -أن السلاحف البحرية الخضراء تهاجر مسافة معينة مثلاً، أو أن طائر الشرشور يستجيب لتغريد طائر منافس بكيفية معينة- ربما هي تكشف أكثر عن حيوانات فرادى أُسرت أو رُبيت بأسلوب معين، أو عن حيوانات تشترك بسِمات وراثية معينة.
وهذه مشكلة تواجه الباحثين الذين يسعون لفهم كيفية إدراك الحيوانات لبيئاتها واكتسابها معارف جديدة وكيف تحيا حياتها.
يقول روتز: «العينات التي نأخذها تكون في العموم الغالب منحازة انحيازاً شديداً. وهذا شيء يحدث في مجالنا منذ زمن طويل جداً».
وفي عام ٢٠٢٠ طرح روتز مع زميله ميشيل ويبستر من الجامعة نفسها طريقة لمعالجة المشكلة، وأطلقوا عليها اسم «سترانج» وهي إطار من المبادئ [الكلمة مكونة من الحروف الأولى لكل مبدأ باللغة الإنجليزية].
الشخصيات ليست حكراً على البشر
لماذا «سترانج»؟ اقترحت دراسة في مجلة العلوم السلوكية وعلوم الدماغ عام ٢٠١٠ أن الأشخاص المدروسين في معظم أبحاث علم النفس المنشورة غير اعتياديين. فقد اُختيروا من مجتمعات غربية ومتعلمة وصناعية وغنية وديموقراطية. وهي «من بين أقل المجموعات تمثيلاً للسكان مما يمكن اختياره للوصول إلى تعميمات تصح على البشر». فقد يصل الباحثون إلى نتائج غير دقيقة عن العقل البشري عامة [كما يظنون]، في حين أنهم قد درسوا في الواقع عقول طلاب جامعيين من جامعة مينيسوتا مثلاً.
وبعد عقد من الزمان استلهما من هذه المجموعات غير الاعتيادية ونشرا ورقة بحثية في مجلة نيتشر بعنوان «إلى أي مدى تتوافق الحيوانات التي تبحثها مع مبادئ سترانج؟»
وكان طرحهما هذا يقول بأن يأخذ زملائهم من باحثي السلوك بالاعتبار عدة عوامل تخص الحيوانات التي يدرسونها، وهي: الخلفية الاجتماعية للحيوانات [المجتمع الذي نشأ الحيوان فيه]، قابلية الوقوع بالأسر أو الاختيار الذاتي، تاريخ التربية [التربية التي تعرض لها]، التأقلم والتعوّد، التغير الطبيعي في الاستجابة، البنية الوراثية، الخبرة.
يقول ويبستر: «رحت أفكر في البداية بهذه الأنواع من الانحيازات عندما كنا نستخدم مصائد شبكية لسمك المِنَّوَة الصغير لجمعها من أجل التجارب [مصائد لها شكل أسطواني]».
إذ ظن -ثم تأكد في المختبر- بأن احتمال توجه السمك الشائك الأعلى نشاطاً نحو هذه المصائد كان أعلى.
ويُردف: «نحاول الآن استخدام شباك صيد بدلاً منها لإمساك تنوع أكبر من الأسماك». وذلك هو ما نقصده بقابلية الوقوع بالأسر.
ومن بين العوامل الأخرى التي قد تجعل الحيوان أكثر عرضة للإمساك من نظرائه إلى جانب مستوى نشاطه: الجرأة وقلة الخبرة أو أن الطعم يغريه أكثر ببساطة.
أظهر بحث آخر أن طيور الدراج الموجودة في مجموعات من خمس طيور كان أداؤها أفضل في تعلم مهمة (اكتشاف أي ثقب يحوي الطعام) من الطيور الموجودة في مجموعات من ثلاثة طيور، وهذه هي الخلفية الاجتماعية.
وقد كانت العناكب القافزة التي نشأت في الأََسر أقل اهتماماً بالفريسة من العناكب البريّة، وهذا هو تاريخ التربية. أما النحل فقد كان تعلمه أفضل في الصباح، وهذه هي التغيرات الطبيعية في الاستجابة.
يقول روتز: قد يكون من المستحيل إزالة الانحياز من مجموعة حيوانات الدراسة. ولكنه يريد مع ويبستر أن يشجعا الباحثين الآخرين على التفكير في العوامل المذكورة أعلاه في كل تجربة، وأن يتمتعوا بالشفافية في ذكر تأثير هذه العوامل على نتائج أبحاثهم.
تقول باحثة ما بعد الدكتوراه هولي روت غاتيريدج التي تدرس سلوك الكلاب في جامعة لينكولن في المملكة المتحدة: «كنا نفترض بأننا نستطيع إجراء التجربة بالطريقة التي نجري فيها تجارب الكيمياء، أي بالتحكم بمتغير وأن لا نغير أي شيء آخر».
ولكن الأبحاث مستمرة بكشف نماذج سلوكية فردية -يسميها بعض العلماء شخصية- لدى أنواع الحيوانات كلها، من القردة إلى السرطان الناسك.
وتردف القول: «كوننا لم نقدّر سابقاً فردانية وتمايز الحيوانات، فهذا لا يعني بأنها ليست كذلك».
إن إخفاق المخيلة البشرية أو التعاطف يشوه بعض التجارب الفذة، هذا ما أشارت إليه روت غاتيريدج ومؤلفين مشاركين معها في ورقة بحثية عام ٢٠٢٢ تركز على مسائل رعاية حياة الحيوانات.
فعلى سبيل المثال، شملت تجارب عالم النفس هاري هارلو في خمسينيات القرن الماضي صغار قرود المكاك الريسوسي مع أمهات مزيفات مصنوعات من الأسلاك. وقد قدم لنا ذلك كما زعموا تصورات عن كيفية تكوين الأطفال الرضع روابط التعلق.
وهنا يسأل الباحثون: إذا أخذنا بعين الاعتبار أن صغار القرود هذه قد أبعدت عن أمهاتها وأبقيت معزولة انعزالاً غير طبيعي، فهل يمكن تعميم هذه النتائج حقاً؟ أو أن النتائج التي خرج بها هارلو تنطبق على هذه الحيوانات التي عذبت تعذيباً خاصاً فحسب؟
البحث عن مزيد من المطبقين لإطار سترانج
يقول العالم البيئي السلوكي فولفغانغ جويمان من معهد ماكس بلانك للذكاء الحيوي، ورئيس تحرير مجلة إيثولوجي: «أعتقد أن جميع نماذج السلوك الفردي هذه نزعة جديدة تماماً في العلوم السلوكية».
وقد تبنت المجلة المذكورة رسمياً إطار «سترانج» في أوائل عام ٢٠٢١، وذلك بعد أن اقترحه روتز -وهو أحد المحررين فيها- لمجلس الإدارة.
ولم يرد جويمان وضع عقبات جديدة فوق ما يثقل كاهل العلماء حالياً. لذلك شجعت المجلة الباحثين فحسب على تضمين أبحاثهم بعض الجمل في أقسام طرق البحث ومناقشة نتائجه، بحيث يتوجهون فيها على حد تعبيره إلى الكيفية المحتملة التي تؤدي بها عوامل «سترانج» إلى انحياز نتائجهم (أو كيف فسروا هذه العوامل).
يقول: «نريد أن يفكر الباحثون إلى أي مدى تكون دراساتهم مُمثلة بالفعل».
كما تبنت عدة مجلات أخرى إطار سترانج، أضف أن روتز وويبستر يقيمون ورشات عمل وحلقات نقاش وندوات ومؤتمرات منذ نشر ورقتهم البحثية عام ٢٠٢٠.
يقول روتز: «تطور الأمر إلى شيء أكبر مما يمكن أن نسيّره في وقت فراغنا. ونحن متحمسون تجاهه حقاً، ولكننا لم نتصور أن ينطلق الأمر هذه الانطلاقة».
ويأمل روتز أن يؤدي انتشار تبني إطار سترانج إلى نتائج أكثر موثوقية عن سلوك الحيوانات. ومؤخراً نالت الدراسات المنتمية لعلوم أخرى والتي لا يمكن تكرارها الكثير من الاهتمام، وخاصة في علم النفس الإنساني.
يقول عالم النفس بريان نوسيك وهو المدير التنفيذي لمركز العلوم المفتوحة في شارلوتسفيل بولاية فرجينيا، ومؤلف مشارك في الورقة البحثية «قابلية التكرار والثبات وإعطاء نفس النتائج في علم النفس» عام ٢٠٢٢، والمنشورة في مجلة أنيوال ريفيو أوف سايكولوجي: يواجه باحثو الحيوان تحديات شبيهة بالتي يواجهها من يدرس السلوك الإنساني. «فلو كان هدفي قياس اهتمام الإنسان بركوب الأمواج وطبقت المسح في شاطئ كاليفورنيا، فإني على الأرجح لن أحصل على تقديرات يمكن تعميمها على البشرية جمعاء. فإن كُررتَ تجربتي ذاتها في آيوا، فقد لا تحصل على نتائج مطابقة لنتائجي».
أما المنهج المثالي على حد تعبير نوسيك هو أن تجمع عينة دراسة مُمثلة فعلاً، ولكن ذلك سيكون مكلفاً وصعباً. «أما البديل الآخر هو أن تقيس مدى انحياز طريقة أخذ العينة المحتمل وأن تكون واضحاً حيالها».
وهذا ما يأمل روتز أن يحققه بإطار سترانج. فإذا كان الباحثون أكثر شفافية ومراعاة للخواص الفردية للحيوانات المدروسة على حد قوله، فستكون قدرة الآخرين على تكرار عملهم أفضل. وكن على يقين بأن النتائج التي سيأخذونها من حيواناتهم المدروسة ذات معنى، وليست مجرد حالات خاصة بأنظمة تجريبية معينة. «ذلك هو الهدف النهائي».
وهو لا يعلم في تجربته على الغربان إذا كان إعطاء الطيور الأكثر خجلاً مزيداً من الوقت قد غير من النتائج الرئيسية. ولكن ذلك قد أعطاه بالفعل عينة بحجم أكبر، وهذا يعني نتائج متينة بدرجة أكبر إحصائياً. وعلى حد تعبيره: إذا صممت الدراسات تصميماً أفضل، فهذا يعني انخفاض عدد الحيوانات التي يجب التقاطها في البريّة أو اختبارها في المختبر للوصول إلى استنتاجات متينة. وفي العموم سيكون إطار سترانج مكسباً لرعاية الحيوان.
بمعنى آخر، ما سيكون مفيداً للعلم، سيكون مفيداً للحيوانات أيضاً. يقول جويمان: «فلن نراها روبوتات بل كائنات بشخصيات متفردة لها قيمة بذاتها».
(إليزابيث بريستون، نماذج السلوك الفردية لدى الحيوانات تهز أركان الدراسات العلمية، www.smithsonianmag.com، ٢١/أبريل/٢٠٢٣)