سام هاريس

منذ نشر كتابي الاول (نهاية الايمان The End of Faith), الذي عرضت فيه الحروب الثقافية في الولايات المتحدة بين العلمانيين الليبراليين والمسيحيين المحافظين, وفي اوربا بين المجتمع الملحد—الى حد كبير—والاعداد المتزايدة من المسلمين هناك, تلقيت عشرات الالاف من الرسائل الورقية والالكترونية من اناس في مختلف المناطق حول التواصل بين الايمان والشك. استطيع ان اقول بثقة ان هناك شبه اتفاق على ان حدود الاختلاف تقع في عمق هذه الانقسامات الثقافية, حيث يعتقد الجانبان ان العلم قاصر عن الاجابة على الاسئلة الاكثر اهمية في حياة الانسان, وكيف للشخص ان يدرك الهوة بين الحقائق والقيم وتأثيرها على رؤيته لكل قضية ذات اهمية اجتماعية—من القتال في الحروب الى تعليم الاطفال.
هذه القطيعية في تفكيرنا لها تاثير مختلف في كل طرف من الاطراف: فالمحافظون المتدينون يميلون للاعتقاد بان هناك اجابات صحيحة للاسئلة الخاصة بالمعنى والاخلاق, فقط لان الله يرى ذلك, ويقرون بان الاحداث العادية يمكن اكتشافها من خلال البحث بعقلانية لكن القيم يجب ان تاتي من صوت مقدس خفي. مما يميز الحقائق والقيم عند هذا التيار المحافظ  التمسك بالنصوص الدينية بحرفية, عدم الثقة في العلم, و تجاهل الاسباب الحقيقية لمعاناة الانسان والحيوان.

من الناحية الاخرى يميل العلمانيون الليبراليون الى تصور ان لا وجود لاجابة موضوعية على الاسئلة الاخلاقية. بينما قد تتوافق افكارنا المثالية عن الثقافة مع افكار جون ستيوارت ميل اكثر من أسامة بن لادن, يشك معظم العلمانيين في ان افكار ميل عن الحق والباطل والصواب والخطأ هي اقرب للحقيقة. التعددية السياسية, النسبية الاخلاقية, الاستقامة السياسية, التسامح حتى مع التعصب—هذه هي ابرز مميزات الفصل بين الحقائق والقيم عند هذا التيار المنفتح.

من المهم ان نعلم ان هذه التوجهات ليست على قدم المساواة من ناحية التمكين. فغالبا ما تترنح الديمقراطيات العلمانية امام خطاب متحمس لاتباع دين ضارب في القدم. ان وجود الدوغمائية المحافظة إلى جانب الليبرالية المتشككة في الولايات المتحدة—على سبيل المثال—ادى إلى فرض حظر للتمويل الاتحادي لابحاث الخلايا الجذعية بعد خوض سنوات من الجدل السياسي, وستستمر المعاناة حول قضايا مثل الاجهاض والزواج المثلي حيث ستمثل هذه القضايا الاساس في الجهود الرامية لتمرير قوانين مكافحة “الهرطقة الدينية” في الامم المتحدة (الذي من شانه ان يجعل من غير القانوني لمواطني الدول الاعضاء انتقاد الدين)؛ لقد قُيد الغرب بصراع اجيال مع الاسلام الراديكالي ومحاولة اعادة احياء نظام الخلافة من جديد في اوربا. ان معرفة معايير “خالق الكون” بالصواب والخطأ تلهم المحافظين المتدينين لفرض هذه الرؤية على الجتمع العام باي ثمن تقريباً؛ وعدم معرفة ما هو الصواب—او عدم معرفة ان اي شيء قد يكون صوابا بنحو قاطع—يؤدي بالغالب الى استسلام الليبراليين الى الحريات السياسية والمعايير الفكرية.

أذا ما ذهبنا لاستكشاف قبيلة جديدة بالامازون , فليس هنا من عالم على قيد الحياة سوف يفترض ان هذه القبيلة يجب ان تتمتع بالصحة البدنية الامثل و الرخاء المعيشي. بالاحرى, كنا لنطرح الاسئلة حول متوسط العمر لهذه القبيلة, نوعية الغذاء وكمية السعرات الحرارية التي يحتويها, عدد النساء اللائي يمتن اثناء الولادة, انتشار الامراض المعدية, وجود الثقافة المادية… إلخ, إن مثل هذه الاسئلة لها اجابات متوقعة تقريباً وهي بالضرورة تخبرنا ان نمط الحياة الشبيه بالعصر الحجري يستلزم بعض التنازلات. ان اخبار هذه النمط من الاقوام وتضحيتهم بابنائهم البكر لالهة وهمية يدفع العديد من (بل معظم) الانثروبولوجيين للقول ان هذه القبائل تمتلك معايير وقواعد اخلاقية مختلفة وكلها صالحة وغير قابلة للدحض كما هي المعايير الخاصة بنا. ومع ذلك, فعند الربط بين الاخلاق ورفاه الانسان يجب علينا ان نعترف إن هذه القبيلة تستوفي الشروط النفسية والاجتماعية شأنها شأن اي شعب في التاريخ البشري. ان نظرتنا للصحة النفسية والاجتماعية تكشف بغرابة عن كيل بمكيالين نابع من عدم معرفتنا—او تظاهرنا بعدم المعرفة—لاي شيء على الاطلاق حول ازدهار الانسان.

لنتخيل ان هنالك اثنين فقط من البشر على وجه الارض “ادم” و “حواء”, ولنسال السؤال التالي: كيف لهذين الشخصين ان يصلا الى اكبر قدر ممكن من الرفاه المعيشي؟ هل هنالك اجابات خاطئة لهذا السؤال؟ ببساطة: نعم، هناك اجابات خاطئة—منها انه بامكانهما ان يسحقا بعضهما بواسطة صخرة كبيرة—بينما هناك طرق لحسم هذا الصراع لمصلحتهما المشتركة دون شك, كالبحث عن غذاء وبناء مأوى وحماية انفسهم من الحيوانات المفترسة. اذا كان ادم وحواء يمتلكون من النشاط والقدرة ما يكفيهم لابتكار واستغلال التكنلوجيا, الفن, والطب لاستكشاف العالم وانجاب اجيال المستقبل للبشرية. هل هناك مسارات جيدة واخرى سيئة في هذا الامر؟ نعم بالتأكيد. في الحقيقة توجد بحكم التعريف مسارات تؤدي لأوطأ بؤس وأكبر قدر ممكن من الانجاز لهذين الشخصين، آخذين بنظر الاعتبار تركيب ادمغتهم وحقيقة البيئة التي يعيشون بها وقوانين الطبيعة. والحقائق الموجودة هنا هي الحقائق الخاصة بالفيزياء, الكيمياء, والبيولوجيا حيث تُحمل على انها الخبرة المكتسبة لشخصين فقط في الوجود.

كما أدّعي في كتابي (المشهد الاخلاقي: كيف يمكن للعلم تحديد القيم الانسانية The Moral Landscape: How Science Can Determine Human Values)، فحتى لو كان هناك الف طريقة مختلفة لهذين الشخصين كي يعيشا برخاء وازدهار فسيكون هناك العديد من الطرق التي لا تؤدي بهما للرخاء. وان الفرق بين التمتع بذروة السعادة البشرية وبين العيش بتعاسة لا تطاق يمكن ترجمته إلى حقائق تكون قابلة للفهم علميا. إذن لماذا يتحول الفرق بين الاجابات الخاطئة والصحيحة بصورة مفاجئة عندما نتحول من شخصين إلى 6.7 مليار شخص في هذه التجربة؟ [تجدر الاشارة ان سكان الارض اعتبارا من اكتوبر في العام 2011 تخطوا حاجز السبع مليارات نسمة.]

حين نطرح على انفسنا اسئلة مثل “كم نحن على استعداد للتضحية بانفسنا او اطفالنا من اجل مساعدة الاخرين؟” سوف نكون أمام صعوبات اخلاقية حقيقية. نحن بطبيعتنا لسنا ملائكة، ولمعرفة حقيقة تفكيرنا الاخلاقي يجب ان يطبق على حالات نكون بها على المحك في خيارنا بين حرصنا على انفسنا أو اقربائنا وبين الاحساس باننا سنكون افضل حالاً بالتزامنا بمساعدة الاخرين, وحتى الان يجب ان تشير كلمة “أفضل” إلى تغيرات ايجابية في تجربة المخلوقات الحية.

هنالك العديد من الاجابات للسؤال “كيف يجب ان يعيش الانسان بالقرن الحادي والعشرين؟” ومعظمها خاطئة بالتأكيد. أن الفهم العقلاني للعيش الرغيد للانسان سيمكن العديد من المليارات منا فرصة العيش بسلام، تجمعنا نفس الاهداف الاجتماعية, السياسية, الاقتصادية, والبيئية. إن علم رخاء وازدهار الانسان قد يبدو امر بعيد المنال, لكن لتحقيق ذلك علينا اولا ان نعترف بالتمايز الثقافي الموجود بالواقع.

رابط المقال الاصلي :
http://www.samharris.org/site/full_text/can-there-be-a-science-of-good-and-evil