كتاب صغير الحجم ولكنه جميل في موضوعه وهام جداً ، من تأليف مجدي عبد الحافظ وهو أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بجامعة حلوان ، وهو يشرح وجود فكرة تطور الكائنات الحية لدى مجموعة من الفلاسفة المسلمين ، وهم :
1 _ إخوان الصفا (القرن الرابع الهجري).
2 _ مسكويه (ت932 هـ).
3_ البيروني (ت440 هـ).
4 _ ابن خلدون (ت808 هـ).
الدراسة تعتمد على نقل أقوال كل فيلسوف وتحليلها وذكر ما لها وما عليها وهي مكونة من تصدير يذكر فيه حقيقة يجب إن لا تغيب عنا أبداً وهي :
“ولا يجعلنا هذا أن نتصور أن نظرية التطور التي وضعها داروين في التطور قد قال بها العرب بقدها وقديدها قبله ؛ فداروين العالم الذي بذل من الجهد في الكشف العلمي والملاحظة والتدقيق لأكثر من عشرين عاماً ليصنع نظرية علمية لها أسس منهجية في ضوء العلم الحديث ، قد توفرت له من العلوم الحديثة في عصره ما لم يتوفر لغيره من القرون السابقة عليه. والحديث عن أفكار للتطور لدى فلاسفة الإسلام ينبغي أن يحصرنا داخل أطار علوم عصرهم حتى لا نُحمَّل أفكارهم بما لا نطيق ، أو نقوّلهم ما لم يقولوا. ومن هنا تبرز أهمية أن نقرأ إنتاجهم الفكري حول الموضوع في سياق عصورهم التاريخية التي عاشوها.” ص10
أما الان فسنستعرض فصول الكتاب الواحد تلو الأخر وهي كالأتي :
الفصل الأول : يمثل مقدمة تاريخية لنظرية التطور ، يذكر فيه أسماء وأراء الفلاسفة اليونان المشابهة لنظرية التطور مثل : أنكسمندروس و أنبادوقليس. وكذلك يذكر من قال بالتطور قبل دارون بفترة وجيزة مثل : جورج كييفيه ، جيفري سان هيلير ولامارك.
أما الفصول الاربعة الأخير فهي خاصة بالفلاسفة المسلمين وأفكارهم وسنستعرضها كالأتي :
1 _ اخوان الصفا : وهم مجموعة من الفلاسفة المجهولين فلا أحد يعرف هويتهم بشكل قاطع ، عاشوا في القرن الثالث أو الرابع الهجري ، وظهروا في أنحاء مختلفة من العراق ، وقد تمت بينهم مراسلات وجمعت بعنوان “رسائل اخوان الصفا”. وقد شرحوا فكرة التطور في هذه الرسائل وسأقتصر على أيراد مقتطفين صغيرين لأوضح فكرتهم }ومن أراد الاستزادة فليعد إلى الكتاب أو مقدمة إسماعيل مظهر على ترجمة كتاب اصل الأنواع _ تشارلز دارون ، أو فليبحث على الانترنيت{.
والمقطعين هما :
أ _ “تبتدئ (الكائنات) من أنقص الحالات وأدونها إلى أتمها وأفضلها ، ويكون ذلك في مر الأزمان والأوقات.” ص40
ب _ “آخر مرتبة النبات متصلة بأول مرتبة الحيوانية ، وآخر مرتبة الحيوانية متصل بأول مرتبة الإنسانية ، وآخر مرتبة الإنسانية متصل بأول مرتبة الملائكة.” ص45
وهناك مقتطفات أكثر تعالج موضوع ترتيب الكائنات في الفصل المخصص لأخوان الصفا وقد أسهب المؤلف في نقلها وشرحها ، ولكننا نكتفي بهذا القدر لضيق المجال.
2 _ مسكويه : وهو مؤرخ وفيلسوف مهتم بالأخلاق ، وقد شرح أفكاره المتعلقة بالتطور في كتابيه “تهذيب الأخلاق” و “الفوز الأصغر”.
ومما قاله في هذا المجال :
“فأما اتصال الموجودات التي نقول أن الحكمة سارية فيها حتى إذا أوجدتها وأظهرت التدبير المتقن من قبل الواحد الحق في جميعها ، حتى اتصل آخر كل نوع بأول نوع آخر ، فسار كالسلك الواحد الذي ينظم خرزاً كثيراً على تأليف صحيح ، وحتى جاء من الجميع عقد واحد فهو الذي ننبه عليه بالدلالة بمعونة الله.” ص72 و 273.
وهنا نرى بأن مسكويه يشبّه اتصال الموجودات بعضها ببعض كاتصال حبات العقد مع بعضها.
ويطول كلامه عن النباتات والحيوانات ، حيث يقسم مسكويه النبات إلى ثلاثة أقسام هي: الأولى ، الوسطى والآخرة. ويرى بأن أخر مرتبة النبات مستعدة للأنتقال الى اول مرتبة الحيوان ، فهي في اخر افق النبات مثل النخيل ، ويذكر بخصوص النخيل القول الاتي :
“لم يبق بينه وبين الحيوان الا مرتبة واحدة ، وهي الانقلاع من الارض والسعي الى الغذاء.” ص 77.
وكذلك يقسم الحيوانات الى خمسة اقسام ويرى بأن اول افق الحيوان متصل بأخر افق النبات ، واخر افق الحيوان متصل بأفق الانسان.
3 _ البيروني : عالم ومؤرخ مشهور ، ذو عقل موسوعي ، فهو عالم بالفلك ، الجيولوجيا ، العلوم الرياضية ، الفلسفة والجغرافية ، هذا بالاضافة الى الميكانيكا والتنجيم والعقائد ، من اشهر كتبه “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل او مرزولة”.
ان ما يجعل البيروني حالة خاصة ومختلفة عن بقية الفلاسفة الذين قالوا بالتطور هو ان كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة) عبارة عن دراسة وشرح موضوعي لكل أساطير ، تاريخ وافكار الهند ، فليس بالضرورة ان تكون فكرة التطور الواردة في كتابه هي مما يتبناه البيروني نفسه.
أن ابرز ما يشد انتباهنا عند قراءة الفصل الخاص بالبيروني هو ضبابية وعدم وضوح فكرة التطور لديه ، فعلى عكس بقية الفلاسفة مثل اخوان الصفا او مسكويه ، الذين قاموا بشرح الارتباط بين الكائنات الحية وشرحوا فكرة أن الجماد يملك قابلية التحول الى نبات ، وان النبات له القابلية على التحول الى حيوان …الخ. نجد ان البيروني يتحدث عن فكرة التقمص او التناسخ وهذه الفكرة تقول بأن “النفس لكي تصل الى الموجود الانساني يجب عليها ان تمر برحلة طويلة مليئة بالمشاق ، حيث تمر من خلال العالم الحي المعروف بأسم (تيرياجلوكا) وتبدأ هذه الرحلة من ادنى درجة في العالم النباتي حتى تصل الى اعلاها في العالم المحسوس.” (الكلام لمؤلف الكتاب مع بعض التصرف) ص 106.
وكما رأينا فأن فكرة التناسخ بعيدة كل البعد عن نظرية التطور ، فهي وصف أسطوري متعلق بالنفس الإنسانية .
وقد شرح المؤلف الكثير من عادات وأفكار أهل الهند واستعرض ما نقله البيروني عنهم.
نعود الان إلى ما قلنا انفاً ، فكرة التطور عند البيروني تكاد تكون غير موجودة ، واغلب الظن ان السبب الذي حدا بالكاتب إلى اعتبار البيروني ممن قالوا او عرفوا فكرة التطور هو وجود نصوص لدى البيروني تشي بمفهوم ، الانتخاب الطبيعي ، وجود قانون صارم في الطبيعة وترتيب الكائنات بصورة مبسطة.
والنصوص هي كالأتي :
أ _ “أن حياة العالم تخضع للزرع والنسل ، هذان التطوران يزدادان مع الوقت ، وهذه الزيادة غير محدودة بينما العالم محدوداً.” ص 99.
ويعلق المؤلف على هذا النص بأنه يعبر عن نظرية الانتخاب الطبيعي بوضوح تام يكاد يتطابق مع مفهوم هذه الفكرة في العصر الحديث.
ب _ “الطبيعة تتصرف بطريقة مشابهة (للطريقة التي ينهجها الانسان في الانتخاب الصناعي) ، حيث لا تُميز ؛ لأن فعلها هو نفسه في شتى الظروف. فهي تسمح لأوراق وثمار الأشجار بالهلاك ، مانعة بهذا التصرف تحقيق النتيجة الطبيعية في اقتصاد الطبيعة ، فهي تخلعها لكي تتيح مكاناً لغيرها.” ص99.
ويرى المؤلف أن هذا النص يعبر عن وجود قانون صارم لا يمكن ان تخرج الطبيعة عن إطاره.
ج _ البيروني يحدد الكائنات ب”الكائنات الروحية ، وهي في القمة ، الآدمية في الوسط والحيوانات في القاع.” ص 107.
وهذا تقسيم للمخلوقات كلها.
4 _ ابن خلدون : عالم الاجتماع المعروف وصاحب المقدمة المشهورة بأسمه ، درس العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه ، بالإضافة إلى علوم اللغة كالنحو ، الصرف والبلاغة ، كما انه اطلع على العلوم العقلية من منطق وفلسفة ، وبعض العلوم الطبيعية والرياضية ايضاً.
يعد ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع ، وكان يسميه “علم العمران” وقد ذكر أفكاره عن التطور في كتابه المقدمة.
يأخذنا المؤلف (مجدي عبد الحافظ) في جولة يتناول فيها شرح تطور المجتمعات لدى ابن خلدون وتوضيح فكرة “العصبية” ، كما انه يركز على موقع الدين من التطور لدى ابن خلدون ، وكل هذا يشرحه بصورة مطولة وافية ، ولكننا سنقتصر على الجانب البيولوجي من التطور لدى ابن خلدون.
في البداية يجب أن نوضح بأن فكرة التطور عند ابن خلدون تشمل كل شيء ، الناس ، الأمصار ، الأوقات والدول حيث يقول في هذا الصدد :
“ان أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما الاختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول.” ص 120.
وأما فيما يخص الجانب البيولوجي فهو يقول :
“نشاهد هذا العالم بما فيه من مخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام وربط الأسباب بالمسببات واتصال الأكوان بالأكوان واستحالة بعض الموجودات إلى بعض لا تنقضي عجائبه في ذلك ولا تنتهي غايته.” ص 133.
ويقول في تفسير معنى الاتصال :
“ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن أخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب لأن يصير أول أفق الذي بعده واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه انتهى فيه تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكرة والروية ، ترتفع إليه من عالم القردة الذي أجتمع فيه الحس والإدراك ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل ، وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده وهذا غاية شهودنا.” ص 133 و ص134.
من كل هذا نجد أن التطور عند ابن خلدون أكثر اتساعاً وعمقاً ممن سبقوه ، وخصوصاً فكرة الاستحالة بين الكائنات ، والسبب في ذلك يعود إلى إطلاعه عليها وتنميته لها ، فكثير من الباحثين يرجحون إطلاع ابن خلدون على كتابات اخوان الصفا بالتحديد ، ولكن هذا لا يقلل من قيمة أفكاره ابداً.
وقبل ان نترك فصل ابن خلدون يجب أن نشير إلى موضوع مهم ، وهو هل جاء ابن خلدون ]والفلاسفة الذين سبقوه[ بنظرية التطور قبل دارون؟ وهل يجب ان ينسب الفضل له أم لا؟
سنأخذ الإجابة من الكتاب نفسه حيث جاء فيه :
أ _ “لا يمكن الاستدلال على نظرية ما من بين السطور أو من بين ما قيل في موضوع أخر ، غير متعلقة بالنظرية ذاتها ، لذا تنتسب النظرية دائماً لمكتشفها ، والذي كرس في معالجتها وتوضيحها الكثير من الوقت والجهد بالإثبات العلمي الجاد.” ص 150.
ب _ أن نظرية التطور أو النشوء والارتقاء لدارون التي عالجها في مؤلفه الضخم “اصل الأنواع” ثم “تسلسل الإنسان” وغيرها من كتاباته التي كرسها للنظرية شارحاً لها وراداً على خصومها كفيلة عند قراءتها بأن تجعلنا نقول لا ، لم يكن لامارك ، ولا الفرد والاس ، ولا ابن خلدون ممن أسسوا النظرية لكنه سيظل بلا منازع داورن.” ص150.
وهذا يوضح أن المقتطفات المتناثرة في كتب هؤلاء الفلاسفة لا يمكن أن ترقى إلى مستوى ما جاء به دارون والجهد الذي بذله طوال سنين عديدة فأقوالهم قد لا تعدوا أن تكون مجرد ترتيب وتفضيل للكائنات.
ننتقل إلى الخلاصة العامة التي وضعها الكاتب لكتابه ، وفيها وضح الأسباب المرتبطة بكل مفكر والتي جعلته يقول بالتطور ، وهي في الأعم والأغلب ، أسباب ترتبط بتنقلهم وإطلاعهم على الثقافات والأفكار المختلفة وهذا بالضبط ما أدى إلى الاختلاف فيما بينهم في طريقة عرض فكرة التطور وفي النتائج المترتبة على اعتقادهم بالتطور.
ثم يخبرنا ]المؤلف[ بالسبب الذي دفعه لكتابة هذه الدراسة ، وهو محاولة ل”أعادة بناء وفهم التوافق الفعلي لأفكار علماء المسلمين في ضوء عصرهم لكي نوضح الرهانات الخاصة بطبقاتهم الاجتماعية في ذلك الحين.” ص 160.
وايضاً إنها “محاولة لتقييم الإسهام الثقافي لهؤلاء العلماء بالنسبة لعصورهم وعصرنا إذا ما كان هذا جائزاً ، وبالتالي لا نُحمل ما قالوه أكثر مما يحتمل ، ولا نقوم بلي عنق الحقيقة لتناسبنا.” ص 160.
وهو يعارض الدراسات التي تحاول تجميل الماضي والدعوة إلى العودة إليه أو جعل علماء المسلمين القدامى رواد كل نزعة علمية.
وفي نهاية المقال أحب ان أبين ان الكتاب يحتوي قصور كبير ، فهو لم يذكر جميع المفكرين والفلاسفة القدامى الذين قالوا بالتطور وقد أغفل هذا الجانب تماماً ، فالجاحظ في كتابه الحيوان ، صدر الدين الشيرازي في كتابه الإسفار الأربعة ، أبو عبد الله زكريا القزويني في كتابه عجائب المخلوقات و غرائب الموجودات وأبو العلاء المعري فهو القائل :
والذي حارت البرية فيه … حيوان مستحدث من جماد.
كل هؤلاء أشاروا إلى نفس الفكرة ، وان كان الكاتب قد تعمد عدم ذكرهم للاختصار أو لغرض أخر ، فكان يجب أن يذكر أسمائهم على الأقل بدون الحاجة إلى تخصيص فصول عنهم والإسهاب في شرحها.
وهذا الأمر يدعوا القيام بدراسة شاملة للموضوع تتضمن كل المفكرين ، ولكن يبقى هذا الكتاب ذو فائدة كبيرة وضروري في وقتنا الحاضر.