يبدأ الكتاب في تساؤل: ماذا لو كانت أدمغتنا في قارورة؟ لماذا نعتقد أن هناك عالم وأننا نشعر بكل ما يحيط بنا؟ ماذا لو كنا مجرد كائنات داخل محاكاة وأن هذا الدماغ موضوع داخل قارورة وموصل بشكل جيد بمقابس للشعور بمشاعر مختلفة. نحن نعلم مثلاً أن هناك هلوسات وأن من الممكن أن نرى أشياءاً غير حقيقية، فماذا لو كان الواقع بأكمله أكثر من مجرد هلوسة وكنا في محاكاة. يقترح ديكارت كما يسرد دينيت بديلاً أقدم لفكرة المحاكاة وهو أن هناك مارد خارق يوفر لنا تلك التجربة الذهنية، ماذا إذن لو كان هناك مارد؟ باختصار، فإن الحل القصير لتلك الافتراضات هو أن صعوبة تشكيل تلك المحاكاة بكل تلك التفاصيل سيعادل تعقيد الواقع، الحاسوب القادر على ذلك يجب أن يكون بتلك الضخامة ليوفر كل تلك التجربة لكل أولئك البشر. هكذا تنتهي مقدمة الكتاب وهي لا تقتصر على ذلك المثال والتساؤل لوحده بالتأكيد.
في الفصل الأول يطرح دينيت تساؤلاً آخر، ما الفرق بين الحب والزلزال؟ وهنا تتضح مشكلة في دراسة وعي البشر، الزلزال لا يتأثر بنظرتنا له، في حين أن الحب يتأثر. يضرب دينيت مثلاً بنفسه بأنه في عمره وبتعقيده الفكري فهو غير قادر على أن يهوي في الحب مرة أخرى. تلك قضية، أما القضية الثانية فهي تفرد التجربة الإدراكية وتعقيدها الشديد. يصف دينيت جلوسه في مكان ما حيث تنساب أشعة الشمس على الأشجار وتتخلل الأوراق وكيف يشعر هو شخصياً تجاه ذلك بشكل لن يشعر به شخص آخر، وكذلك الحال مع الموسيقى وأشكال أخرى من الإدراك. كيف يختزل هذا بإشارات كهربائية وكيميائية في الدماغ؟ يترك دينيت سؤالاً آخر هنا ليوضح فيه تعقيد الوعي والطابع الشخصي فيه. لو استبدلنا متذوقي النبيذ بآلات تمتلك أدوات التحسس ذاتها التي يمتلكها متذوقو النبيذ من البشر فهل سنحصل على نفس النتيجة؟
يتطرق دينيت في الفصل الأول إلى ثنائية العقل والدماغ وإلى تعرض الفلاسفة والمفكرين من قبل إلى ذات هذه الأسئلة ليفكروا كيف أن كل هذه التجربة المعقدة تأتي من هذا الجسد ويفترضوا أن العقل باختصار منفصل عن الدماغ كعضو. دينيت ليس ثنائياً في نظرته بالتأكيد، لكنه يرى ذلك التحدي في الربط بين هذين المفهومين وهو يواجه بكتابه هذا التحدي ليوضح ذلك الربط.
ظاهراتية الشخص الثالث
ينتقل دينيت إلى نقطة البداية لمواجهة تحديات شرح الوعي وقضايا أخرى مثل الجانب الشخصي البحت، وقضية الثنائية. يبتدئ دينيت بما يعرف بالظاهراتية أو النظرية الظاهراتية في علم النفس وهي دراسة التجربة الشخصية وتعرف بالانجليزية بـ phenomenology. ربما حين نحاول خوض حوار علمي تقليدي مع أصحاب مدرسة التحليل النفسي فإننا سنصطدم بعدم وجود الكثير من المشتركات حيث يتمحور كل ما يقولونه حول التجربة الشخصية، غير أن دينيت يرى أن هذه نقطة جيدة لمواجهة التحديات السابقة. الظاهراتية بشكلها التقليدي تعتد تحديداً بما يقوله عنصر الدراسة أو الشخص الذي يخضع للدراسة وتجربته، وتعطيه السلطة الكاملة. يقترح دينيت هنا تعديلاً طفيفاً وهو ما يسميه بظاهراتية الآخر أو ظاهراتية الشخص الثالث. وهو هنا يقر أيضاً بتلقي جميع أوصاف التجربة الشخصية لشخص آخر كما يقولها أو يكتبها أو يفهمها، غير أنه يترك مهمة دراسة التجربة الشخصية لشخص آخر ولا يعطي السلطة لصاحبها لدراستها في تقرير أن ما يقوله دقيق أو صائب بعكس الظاهراتية التي تفترض الدقة فيما يقوله الشخص عن نفسه. لا تهمل ظاهراتية الآخر أي بعد من أبعاد التجربة الشخصية للفرد، غير أنها لا تفترض صوابها بالضرورة.
بعد أخذ ذلك الموقع لدراسة الوعي، يتخذ دينيت خطوة أخرى، وهي بتقرير الاعتماد على لغة الشخص في دراسة تجربته. يستغرق دينيت صفحات في الكتاب لتبرير ذلك ولأخذ اللغة على أنها مخرج مقبول وممكن لدراسة التجربة الشخصية ويعطي أمثلة عن الحواسيب التي تنتج إشارات معينة أو مخرجات لغوية، رغم أن أمثلته قديمة مقارنة بما وصلت إليه الحواسيب مثل جات جي بي تي، أو عن أن الشخص المقابل قد لا يكون انساناً بل قد يكون كائناً آخر لكنه ينتج لغة تعبر عن تجربته ويمر في الكثير من النقاشات حول صلاحية استخدام اللغة لدراسة التجربة الشخصية.
تظهر التجربة الشخصية في النظر لرواية الأشخاص عن عوالمهم الحقيقية وحتى العوالم الخيالية التي يقرؤونها في الروايات في الفجوات التي قد يملؤونها بأنفسهم حول تفاصيل العوالم الخيالية مثلاً حين قراءة قصة شرلوك هولمز قد يفترض القراء تفاصيل إضافية عن المكان أو طبيعة الأشخاص. ومع ذلك لا يشكل هذا تحدياً بالنسبة لظاهراتية الشخص الآخر، فكل ما يقوله الشخص عن تجربته قابل للدراسة ويمكن جمعه وتفصيله وتقييمه.
يضرب دينيت مثالاً في قوم يسكنون في الغابة ويعبدون إلهاً يسمى فينومان وهو سيد الغابة. هنا سيكون الظاهراتيون (أو ظاهراتيي الشخص الآخر) هم بمثابة الأنثروبولوجيين الذين يدرسون علاقة هؤلاء القوم مع إلههم فينومان، وهم يختلفون عن الفينومانيين – وهي تسمية يوجدها دينيت – الذين هم بمثابة الكهنة لعبادة ذلك الإله. الانثروبولوجيين هنا لن ينفوا أي شيء يقوله الكهنة على الإطلاق، ولو لم يرض الكهنة بطريقة الدراسة تلك فقد يتساءل الأنثروبولوجيين – الظاهراتيين إن كان هناك نقص ما في الرواية التي يقومون بدراستها لكنهم لن يتدخلوا على الإطلاق في نقد تفاصيل عبادة فينومان أو التأثير على القوم أو الإملاء عليهم بأي شكل. بهذه الطريقة ومثل الدراسة الأنثروبولوجية في هذا المثال، فإن دراسة الوعي والتجربة الشخصية يجب أن تبقى محايدة في التعاطي مع ما يظهر في لغة من تتم دراسته.
قد تمر الدراسة بهذه الطريقة بأحلام، تهيؤات، هلوسات أو قصص خيالية، غير أن ذلك لا يمنع من اتخاذ تلك العناصر كعناصر للدراسة مثلما يدرس الأنثروبولوجيون مختلف أنواع الخرافات والآلهة والعادات للشعوب. لكن ماذا لو كان الشخص بذاته غير قادر على وصف تجربته؟ لا يهم هذا ايضاً، يمكن لظاهراتية الشخص الآخر الإقرار بما لا يمكن للشخص وصفه والتعبير عنه حتى وقت الدراسة على الأقل.
نموذج المسودات المتعددة
يتضمن الفصل الخامس من الكتاب نقاشاً يخوضه دينيت في تفنيد ما يعرف بالمسرح الكارتيزي وهو الفرضية التقليدية القديمة لشرح الوحي والتقديم لنظريته: نظرية المسودات المتعددة.
في البداية، وقبل نظرية دينيت والنظريات الحديثة حول الوعي بشكل عام، كان رأي ديكارت هو السائد وهو أن هناك مسرح ما في الوعي. المسرح الديكارتي (Cartesian Theatre) هي النظرية التي يفندها دينيت في الفصل الخامس ويسدد لها ضربات أخرى في فصول قادمة أيضاً. ينص رأي ديكارت أن للدماغ نقطة معينة وهي الغدة الصنوبرية والتي تمثل بوابة لوعي الدماغ. تقع الغدة الصنوبرية في المنتصف بالفعل بحسب ديكارت وحجمها أصغر من حبة البازلاء. يفترض أننا ندرك الشيء حين نتحسسه كالحرارة أو الوخز حينما تلامس الإشارة الدماغية تلك النقطة.
غير أن مشاكل عديدة تواجه تلك الفرضية أولها هي التساؤل: هل حقاً هناك نقطة نهاية في الدماغ يمكن أن نحددها لكي نقول أننا بلغنا الوعي بشيء ما حينما وصل إلى تلك النقطة؟ كيف نحدد أن هناك مركز معين في الدماغ؟ كيف يحافظ هذا الرأي على صوابه حينما يواجه قضية وصول عدة إشارات للدماغ في ذات الوقت مثل السماع والرؤية؟
يقترح دينيت نموذج المسودات المتعددة (Multiple drafts model). يشبه ذلك عملية إصدار صحيفة، وتتضمن عملية الإصدار عادة مجموعة من المسودات التي تقدم وفي النهاية هناك مسودة ما قد تصدر. غير أن العملية التي يشير لها قد لا تتضمن أي إصدار نهائي كما لا يوجد محدد دماغي لاختيار مسودة معينة بالضرورة. مثلاً حين مشاهدة فيلم مدبلج، وما لم تكن حركة الشفاه مطابقة فإن الإصدار الخاص بالأذن سيفوز هنا وسيكون هو ما ندركه، لكن ماذا لو كانت الشفاه تقول “من اليمين لليسار” (from right to left) وكان الصوت يقول (from light to reft) في هذه الحالة إصدار العين سوف يفوز، سندرك أننا نسمع العبارة التي نفهمها from right to left. في أي نقطة زمنية سيكون هناك إصدارات متعددة وبمراحل متعددة من عملية التحرير الصحفي. تستمر الإصدارات بهذا الشكل ويتجنب نموذج المسودات المتعددة خطأ أن يفترض نقطة نهاية ما، إنه قطار يمضي بشكل مستمر.
دينيت يتحدى نموذجه وبشكل أساسي بتجربتين أولهما أن يرى أحدنا ضوءان أخضر وأحمر متتابعان على أن يكون الضوء الأخضر قد ظهر لفترة قصيرة جداً، فيفترض المشاهد أنه رأى الأحمر فقط. أما الحالة الثانية فهي برؤية مجموعة من الأشخاص في حفلتين بيومي الأحد والاثنين. يفترض الشخص هنا أنه رأى امرأة ترتدي القبعة يوم الأحد وفي الواقع فإنه ربما لم ير امرأة كهذه في أي من اليومين.
يسمي دينيت حالة الذاكرة المغلوطة تلك، حيث يتم إضافة احداث مثلاً، بالتجربة الأورويلية نسبة إلى جورج أورويل وكتابه 1984 حيث يظهر أن وزارة الحقيقة في النظام الشمولي الموصوف في الرواية تختزل التاريخ بقصة معينة تفرضها بحيث لا يستطيع الناس معرفة ما حدث بالفعل في الماضي. وعلى الطرف الآخر هناك التجربة الستالينية، لاسيما في المحاكمات الستالينية التي حصلت، وهنا فإن الذاكرة حقيقية غير أن الوعي، أي مجريات المحاكمات وما تم فرضه من حقائق فيها، هو وعي مزيف. لدينا إذن حالتان في اولاهما هناك وعي حقيقي وذاكرة مغلوطة والثانية هناك وعي مغلوط وذاكرة حقيقية.
مثال آخر يجمع الحالتين. ترى امرأة لا ترتدي النظارات، ثم تتذكر لاحقاً أنها ترتدي النظارات. هنا تلوثت الذاكرة بشكل ما لتتضمن بعد فترة قصيرة جداً أثناء تسجيل الذكريات بأن هناك نظارات وهنا هذه تجربة أورويل في الذاكرة. أما في الحالة الستالينية، ترى المرأة من الأساس وهي ترتدي النظارات وتقوم بتسجيل ذلك في الذاكرة على هذا النحو لكنها في الحقيقية لم تكن ترتدي النظارات. ربما رأيت امرأة أخرى ترتدي النظارات وامتزجت الصورتان لكن في الحالتين فإن الوعي من الأساس كان مغلوطاً قبل تسجيل الذاكرة.
هذه الحالات مع الوعي والذاكرة تشكل تحدياً حقيقياً للمفهوم الكارتيزي، حيث يختزل الأمر بأي من الصورتين وصل قبل الآخر؟ لكن في الحقيقة ليس هناك من الأساس أي خط نهاية. ينقسم كثير من الباحثين والعلماء أيضاً في تفسير أخطاء الذاكرة والوعي ليقوموا باختيار احدى هاتين الفرضيتين. معظم الفصل الخامس يستغرق في توجيه الضربات للنظرة التقليدية للوعي الكارتيزي ولا تتضمن قراءتنا في الكتاب جميع ما ورد بهذا الاتجاه بل جزء يسير منه فقط.
يرى دينيت متفقاً مع الفيلسوف الأمريكي نيلسون غودمان (Nelson Goodman) أن الدماغ يقوم بإعادة تشكيل المحتوى – أو الحكم – بشكل رجعي من تلك المسودات التي يتم تحريرها بشكل مستمر من مصادر المعلومات المختلفة للعقل. غير أن دينيت يرى أن الدماغ لا يحتاج للقيام بذلك بشكل دائم، فهذا مضيعة للوقت وللجهد. الحكم موجود بشكل دائم حينما يحتاجه ويمكن للدماغ حينئذ أن يتفرغ لمهام أخرى.
كيف يعمل نموذج المسودات المتعددة إذن؟ حينما تنظر لجسم فإن المحفز البصري سيفعل مسارات مختلفة من الأحداث في قشرة الدماغ وتدريجياً تبدأ هذه بالمضي نحو المزيد من الدقة في تمييز ما يجري. تتكون قرارات وأحكام مختلفة في أجزاء مختلفة في الدماغ وتتفعل حالات مختلفة في مناطق مختلفة ايضاً. هناك ما يتعلق بالموقع، الشكل، ومن ثم يدرك الدماغ اللون، ومن بعد ذلك الحركة بما أنها تحتاج لبعض الوقت لتتجلى، وأخيراً يتم تمييز الجسم كنتيجة لكل ذلك. وحينما يأتي السؤال البسيط: أين يحدث ذلك التمييز؟ الإجابة لا مكان. هناك بعض الحالات الدماغية التي تموت، مسارات تنطفئ دون أثر، وأخرى قد تترك أثراً نتيجة قولنا شيئاً بموجبها، مسارات أخرى قد تترك مشاعر معينة. لكن ليس هناك أي مكان في الدماغ حيث تمر جميع هذه المسارات – او القطارات كما يصطلح دينيت – وتلقي بمحتوياتها.
هل لاحظت شعور أنك تقود السيارة لأميال عديدة ثم تنتبه أنك لم تشعر بالطريق ولم تدرك أين قدت وماذا فعلت وأنت تقود السيارة ولا تذكر أي شيء من ذلك؟ وكأن هناك شخصاً آخر كان يقود السيارة. ألم تكن واعياً فعلاً؟ كيف قدت إذن؟ مثال القيادة غير الواعية كما يرى دينيت هو مثال لحدوث الوعي مع فقدان الذاكرة بسرعة.
مثال آخر، هل لاحظت حينما تتوقف الساعة عن الدوران فجأة ويتوقف صوت تكات الساعة؟ لماذا لاحظت التوقف فقط؟ هل كنت واعياً بصوت الساعة طيلة هذا الوقت؟ هل كنت تركز عليه؟ لماذا وعيت به حينما توقف فقط؟ هذه الحالات تخذل النموذج الكارتيزي تماماً وتوضح أمثلة تلك القطارات المختلفة التي تسير دون أن نوقفها للحظة لنلاحظ ما فيها والتي هناك الكثير منها مما ينطلق ويتوقف دون لحظة لإدراكه.
الوعي بالزمن
يخصص دينيت الفصل السادس لمناقشة إدراكنا للزمن. السؤال الأول الذي يطرحه دينيت يتمحور حول تجربة يتم فيها سؤال الشخص لترديد ما يسمعه من شريط مسجل. يستطيع الشخص كنتيجة أن يذكر بعضاً مما سمعه لكن ليس كل شيء رغم سماعه لكل شيء. بلا شك قام نظام السمع بمعالجة كل ما سمعه الشخص، لكن لماذا لم يذكر الشخص كل شيء؟ ألم يكن واعياً بكل شيء أم أن القليل مما وعاه الشخص تم تسجيله؟ ذات الأمر يتكرر في التجربة المرئية حينما تعرض أحرف عديدة على الشخص ثم تخفى ويطلب منه أن يقوم بذكر ما رآه. يذكر الأشخاص القليل من الأحرف فقط. لماذا؟ هل لهذه الأشياء علاقة بالوقت؟
عودة إلى تجربة الضوئين. وهنا يظهر شكلان بألوان مختلفة على شاشة. محفز أول يظهر لفترة 30 ملي ثانية بشكل دائرة، يتبعه شكل آخر بشكل حلقة يظهر لفترة أطول. يبلغ الأشخاص أنهم رأوا الجسم الثاني فقط. ألم يكن هناك وعي بالأول؟ وفق نموذج المسودات المتعددة، فإن الجسم الأول كان بموقع قصير وظيفياً ليتم الإبلاغ عنه. القطار الذي قام الجسم الأول بتفعيله اختفى ببساطة. كان الجسم الأول مسودة ولدت واختفت وتم استبدالها بإصدار آخر. نبقي هذه الأمثلة حول الزمن في عملية الإدراك وننتقل إلى مثال آخر يسرده دينيت.
المثال الآخر يتمحور حول معركة نيو اورليانز. كانت المملكة المتحدة قد وقعت هدنة لإنهاء الحرب مع الولايات في نهاية ديسمبر عام 1814 غير أن المعركة حدثت في يناير 1815. وصول الرسالة بإنهاء الحرب لجميع أنحاء الإمبراطورية لم يكن ممكناً. بعد 15 يوماً من توقيع الهدنة خسر مئات الجنود البريطانيين حياتهم وكان مجموع المصابين والقتلى والمفقودين يزيد على الألاف فقط لأن الرسالة قد تأخرت إذ اشتبك هؤلاء الجند في نيو أورليانز مع الأمريكان وخسروا خسارة فادحة. في الدماغ قد يحدث أمر مشابه، فليس هناك معيار للزمن مثل الذي نراه في الساعة، وهناك اختلاف بين تمثيل الخصائص كما نعرفه وبين كيفية حدوث ذلك في الدماغ. حين يقول أحدهم بجملة “هناك رجل واقف” فإننا سنمثل ذلك في أذهاننا بشكل ما ولن نحتاج لمقطع معين في الجملة لوصف قدميه وآخر لوصف رأسه. بذات الكيفية، ذكر كلمة “ومضة براقة جداً جداً من الضوء الأحمر” لا يحتاج إلى تجزئة زمنية لتمثيل ذلك في أذهاننا، وكذلك الفترات الزمنية والأحداث التي لها زمن معين، يمكن أن يكون لها بداية وقمة ونهاية لكن لا سبب لافتراض أن تلك البداية والقمة والنهاية ستتطابق مع ما سنمثله في أذهاننا.
ما يهم لدماغنا من حيث تمثيل الوقت، وكما هو الحال حين يكون هناك حدث يستدعي إيقاف أحد قطارات الأحداث، أو مسودات الوعي، للحصول على حكم فإننا هنا قد نحتاج إلى سلوك معين للتحكم يقتضي تلك الحاجة إلى تمثيل الزمن الحقيقي؛ جسم متحرك مثلاً نريد معرفة هل يتحرك من اليمين إلى اليسار أم العكس. يكفي في هذه الحالة أن نتأمل لأجزاء من الثانية أو لثواني (بحسب سرعة الجسم) لإدراك ذلك. وهكذا هناك حالات أخرى كأن يكون هناك وقت محدد للقيام بشيء معين، مثل عملية اطلاق سهم تجاه هدف متحرك.
لكن كيف يتم تمثيل الزمن من الأساس في الدماغ؟ هل هناك علامات معينة أو ساعة؟ ليس بالضبط. يتخذ دينيت مثالاً آخر هنا يتمثل بالإشارة التي يستخدمها المخرجون حين يقومون بالعد ثم بضرب القطعة المكونة من قسمين بحيث يصدر صوت ويرى الممثلون أيضاً الإشارة وهي تأتي وتذهب. العملية بالنسبة للدماغ كما يصفها دينيت تشبه مقطع فيديو خالي من أي إشارات تدل على الزمن لكن هناك إشارات صوتية وصورية متفرقة مثل إشارة المخرج. يعطي دينيت مثالاً آخر لكيفية تعامل الدماغ مع الوقت، وهو لو أن محرر أفلام طلب منه تركيب صوت ياباني على مقطع فيديو، فهو سيستطيع بحكم دلائل الصوت فقط أن يقوم بذلك ولن تكون مهمة عسيرة عليه رغم أنه لا يجيد اليابانية. الطريقة بالنسبة للدماغ إذن هي بالاعتماد على جميع مصادر المعلومات المتوفرة من سمع وبصر وغيرها لإضفاء علامات مشابهة ولتقييم الأحكام المختلفة على الوقت وفقها.
الزمن بين ليبيت وتشرتشلاند
يستغرق دينيت جانباً في نقاشه حول الزمن بشرح ومناقشة تجربة بنيامين ليبيت (Benjamin Libet). تجربة ليبيت كانت بسيطة، تتضمن القيام بفعل ما بينما يجلس المشاركون أمام مؤقت حيث يذكرون الوقت الذي أدركوا فيه أنهم يريدون القيام بالحركة وفي ذات الوقت كانت هناك مقياس تخطيط كهربية الدماغ (EEG) وهو ما يفترض أن يقوم بقياس ما يحدث في الدماغ. كيف يمكن أن قياس ما يحدث في الدماغ؟ يذكر دينيت كيف أن ويلدر بينفيلد – رائد عمليات الدماغ اليقظة – كان قد اكتشف أن لمس مناطق معينة من الدماغ بالالكترودات كان يؤدي إلى إحساس معين بالوخز في الأطراف، وكأن الإشارة هنا معكوسة بدلاً من أن توجه من اليد إلى الدماغ.
مثال آخر يأخذنا به دينيت، قبل أن نذهب لتجربة ليبيت، هل تعتقد أن شخصاً ما يعيش داخل المدينة وبالقرب من مكان العمل يمكن أن يصل قبل زميل آخر له يعيش في أطراف المدينة مع الاخذ بنظر الاعتبار انهما يقودان بنفس السرعة؟ ما وجده ليبيت هنا هو أن الأشخاص المشاركين في تجربته أبلغوا عن وصول الإشارة القادمة من اليد (أي الشخص القادم من أطراف المدينة)، بعد الإشارة الظاهرة في الدماغ. سمى ليبيت ذلك الوقت بالاستعداد الكامن (readiness potential).
قبل شرح تلك الظاهرة، يشير دينيت إلى الضجة التي أحدثتها التجربة خصوصاً في الأوساط غير العلمية – الميتافيزيقا والعلم الزائف – وكذلك إشارة ليبيت نفسه إلى كون تلك الظاهرة تناقض النزعة المادية. اتجه الأمر إلى تفسيرات لا تتعلق بالوقت فحسب بل بالإرادة الحرة بالنظر إلى توقيت حدوث القرار في الدماغ وانعكاس ذلك على الواقع لأن ما يحدث كان بتفسير ليبيت وكأن القرار في الأساس نابع من نقطة لا يعيها المشاركون في التجربة أدت لاحقاً إلى قرار واعي.
القضية الأولى في تجربة ليبيت هي أن النتائج كانت قائمة بالدرجة الأساس على تقارير المشاركين في التجربة. يقر ليبيت أيضاً بذلك قائلاً أن ما يحدث هنا من تقارير للمشاركين حين يقولون أنهم شعروا بالوخز بأن ذلك يحدث في “المحيط العقلي” كما يصفه ليبيت وليس “على المستوى العصبي”. وهذا يستدعي العودة إلى ظاهراتية الشخص الثالث، فالمشاركون في التجربة ورغم قيمة تجربتهم الشخصية، غير أنها لا تعد ملزمة على هذا المستوى أي الإبلاغ عن أمر مثل وعيهم بالشيء وعن وعيهم به بدقة. لكن ليبيت لم يصل إلى ظاهراتية الشخص الثالث وقرر أن يخلص إلى أن الدماغ يؤرخ بشكل رجعي إلى نقطة بداية رد الاستجابة العصبية. أما دينيت فيرى أن تفسير ليبيت الأخير يلجأ إلى التجربة الستالينية، أي الوعي الخاطئ والذاكرة الصائبة. يرى آخرون نقدوا تجربة ليبيت أن إشارة الدماغ التي رصدها قد لا تعني على الإطلاق إشارة تحريك اليد بل قد تعني الانتباه إلى شيء ما ضمن التجربة.
قامت الفيلسوفة في علم الأعصاب باتريشيا تشرتشلاند بالتجربة بشكل آخر يتطلب إبلاغ الأشخاص بالصوت عن احساسهم. وجدت تشرتشلاند أن الزمن كان 375 ملي ثانية، أقل من زمن ليبيت 500 ملي ثانية. واقترحت أن الأشخاص يمكن أن يكونوا قد وصلوا إلى “الكفاية العصبية” (Neural adequacy) – وهو المصطلح الذي أوجده ليبيت لوصف الوقت المطلوب للإبلاغ عن وعيهم – في خلال وقت أقل 200 ملي ثانية مثلاً. إعتراض تشرتشلاند كان أحد أسبابه حول افتراض ليبيت بالتاريخ الرجعي الذي يقوم به الدماغ فضلاً عن إشارة ليبيت إلى الثنائية بين الدماغ والعقل وإلى الخلل في السببية، وما يراه دينيت هو أن تشرتشلاند مثل ليبيت كلاهما فشلا في الفصل بين الزمن وبين الزمن الذي يتم تمثيله في الدماغ وأن تفسير تشرتشلاند يُعزى إلى الفكرة الأورويلية حيث هناك خلل في الذاكرة لا في الوعي.
أحد الإصدارات المشابهة لهذه التجربة والذي يذكره دينيت هو ما قام به غري والتر (Grey Walter) (تجدر الإشارة إلى أن هناك تجارب كثيرة أخرى لكن دينيت يركز على هذه التجارب). قام والتر بزرع متحسسات تدرك اشارة الأشخاص بالضغط على زر معين بدلاً من أن يقولوا شيئاً وقبل أن يضغطوا بالفعل. الأشخاص في تجربة والتر كانوا يشاهدون شيئاً على الشاشة ولم يكونوا يختبرون هنا محفزاً على الجلد. حالما كان الأشخاص يريدون الضغط كانت الشاشة تتغير حيث يتم إدراك رغبتهم بالضغط وبالتالي فقد تم إقصاء الوقت المطلوب للأشخاص للابلاغ عن تجربتهم في هذه الحالة. اعترض المشاركون وتفاجئوا وقالوا أنهم كانوا يريدون الضغط لكن الصورة كانت تتغير وهكذا. أي أنه أضاف عامل جديد لتجربة المشاركين. وما الذي أظهرته التجربة؟ نذكر كلمات دينيت:
“حقيقة أن المنبه كان يتم تفسيره في التسلسل الشخصي بصفته إدراك لأحداث غير مترتبة (تتغير قبل الضغط على الزر) لا يظهر شيئاً حول متى في الزمن الحقيقي يحدث الوعي بقرار الضغط على الزر”.
باختصار، ليس هناك تسلسل وترتيب زمني للأحداث في الدماغ مثل الذي نتصوره في الواقع. في النهاية يعود دينيت إلى مثال معركة نيو أورليانز. ويعيد طرح السؤال: متى عرفت الإمبراطورية البريطانية بمعاهدة السلام؟ أخذ ذلك نطاقاً من الزمن لا يمكن تحديده بالأيام والساعات. هكذا يجيب دينيت.
الجزء الثاني: