في مرات عديدة عندما نناقش صحفياً حول المساهمة في ايجاد فقرة علمية في مجلة أو جريدة نراه يصف صفحة هي في خياله لطيفة المحتوى لا تضر ولا تنفع تتكلم عن روبوت تم اختراعه في اليابان أو عن علاج نهائي حاسم للسرطان وفي الطرف الآخر وصفات للعناية بالبشرة ولا مانع من وجود مقال حول نوع من الأطعمة ربما حتى. هذه الصفحة يمكنك أن تجدها في معظم الصحف العربية تحت عناوين مثل “علوم وتكنولوجيا”.
وبمناسبة التكنولوجيا نذكر كلنا مقطع فيديو يظهر فيه مقاتلون من الدولة الإسلامية وهم يستخدمون جهازاً قاموا بصناعته للتحكم بالسيارة دون أن يقودها الانتحاري إلى حتفه وحتف المساكين من الأبرياء. لا تمانع الدولة الإسلامية وأي تنظيم متطرف أيضاً من استخدام أي تكنولوجيا أخرى والاستفادة منها إلى أقصى حد. إنها “علوم وتكنولوجيا” متصالحة ايديولوجياً مع الجميع. أرنب وديع يمكنك أن تحمله، خبر طريف يمكنك أن تقرأه وأنت تبتسم وكأنك تقرأ نكتة بينما تتحدث عن اليابان كعالم آخر.
نعم يفضل كثيرون أن تكون اليابان عالماً آخر وأن يكون العلم والتكنلوجيا صفحة طرائف، بما أنها متصالحة مع ايديولوجياتهم. هذا ما أثبتته مئة سنة من التكنولوجيا والفكر، المصالحة الشاملة بين التكنولوجيا والتطرف. أما بقية العلوم فيفضل أن تتظاهر بالجهل التام عن العالم وأن تصفه بالجمال والروعة والكمال، أن تعرض الطبيعة وتتغاضى عن علم النفس، أن تعرض حلقاتٍ عن الافتراس وتتغاضى عن نظرية التطور، الاصدار المدجن آيديولوجياً من العلم لا تدعمه فقط الجهات الموجهة دينياً، بل تروج له جهات أخرى لا تظهر توجهاتها وجهات علمية الطابع تجهل أو تتجاهل واقع وجود هذا الاصدار المدجن من العلم فتدأب على نشر المزيد مما يماثله للجمهور بهدف كسب الشعبية.
مؤسسة إعلامية إماراتية اشترت صفحة فيسبوك بمليوني معجب ولها موقع تديره هيئة تصرف عليها الحكومة الإماراتية، لا تجد في الموقع عند البحث عن كلمة تطور سوى خبراً أو خبرين من بين مئات الأخبار والمقالات بينما تجد مقالات عن “تطور” المكتب، التطور التكنولوجي أو تطور الخلايا الشمسية. بالتأكيد لن يزعجكم تطور الخلايا الشمسية ولن يداهم كهوف فلسفاتكم.
هؤلاء مثال فقط، وهناك من ينشر حول التطور والوعي البشري وعلم الأعصاب لكنه ينشر ما يفوق ذلك من أخبار سطحية لا تعطي للجمهور سوى تلك الفكرة التافهة عن العلم.
لو أردنا أن نصنف الصحافة العلمية إلى درجات بحسب سطحيتها وعمقها لأنطلقنا من تصنيف يضع في ذروته ما يقض مضاجع فلسفة الإنسان وينشر الاضطراب في مياهها الراكدة لتستدعي التفكير من جديد عبر المعطيات التي تكتسبها من الحقائق العلمية دون خجل أو خوف من أي خطوط حمراء. هذا ما يجب أن تكون عليه كافة مسارات الصحافة العلمية. لكن ألا يجب أن تضم غيره؟ ما الضرر من الأخبار حول السرطان أو الأخبار حول اختراع روبوت في اليابان؟
في الواقع هناك أضرار عديدة، فالصورة المشوشة عن العلم تجرده من غايته ومحتواه وتضعف مفعوله في محاربة الخرافة والدجل والزيف. العلم المدجن ايديولوجياً هو ذلك الشئ الجميل الذي نستمتع به كما نستمتع بفيلم، إنه لا يشكل محل النصل أو حتى الهامش من فلسفتنا حول العالم. هذا ما يريدونه من العلم ومن صحافة العلم.
منشور كمقدمة للعدد الثامن من مجلة العلوم الحقيقية.