عند الحديث عن الفلسفة الوضعية، يجب أن نفرق بين حقبتين زمنيتين تطورت خلالهما هذه الفلسفة. فرغم أنها امتداد مباشر لفلسفة التنوير، الداعية إلى إعمال العقل ونبذ الخرافات، إلا أن هناك عددا من الفروق الجلية بين منطلقات واهتمامات الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر والفلسفة الوضعية في القرن العشرين، وبالأخص في مجالات الفلسفة والرياضيات والمنطق.
الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر
اعتمدت الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر، كما حددها أوغست كونت، على سمات بعينها، اتخذت من كلمة (positive) أساسا لها، أي الانطلاق من كل ما يركز على الواقع والدقة واليقين. توخى هذا الإطار المحدّد الذي وضعه كونت مجابهة احتكام المؤسسات والأفراد إلى الميتافيزيقا واللاهوت بحثا عن إجابات لا يمكن أن توفرها هذه الأخيرة، لأن القضايا التي تخوض فيها، في رأيه، تنتمي لمجال العلم والتجربة. وهذا ما عزز أهمية الملاحظة والقياس والتجربة، وجعلها الوسائل الأنسب التي تكفل الحصول على نظرة صحيحة عن العالم.
ولهذا، ليس غريبا أن نجد أن أوغست كونت يقسّم مراحل تطور الفكر البشري إلى ثلاث مراحل تنتهي بسيادة المرحلة العلمية كنظام فكري أخير يحكم فهمنا للظواهر الكونية. ففي حين أن المرحلة اللاهوتية والمرحلة الميتافيزيقية اتسمت بإرجاعها مصدر الظواهر الطبيعية إلى كائنات خارقة للطبيعة وقوى مجردة تتحكم فيها، تتجه المرحلة الوضعية نحو تحديد القوانين والمناهج التي تنظم كيفية تحصلنا على معرفة علمية دقيقة، مؤسسة على التجربة والبرهان العقلي، في كافة مجالات الفكر الإنساني، دون حاجة للخوض في الأسباب الخفية للظواهر، وإنما التركيز فقط على الكشف عن القوانين الفعلية التي تحكم نشاطها.
ولذلك تهتم الوضعية حتى بميادين الأخلاق والقانون والسياسة والدين، إذ إنها لا تعلو فوق منطق إعادة التمحيص والنقد، بل تحتاج أن تخضع للمنهج العلمي وأن تلتزم بنتائجه. فعلى سبيل المثال، نجد أن الدين التقليدي، حسب رؤية الفلسفة الوضعية في هذه الحقبة، سيعوّض بدين إنساني عقلاني يتخذ طقوسا ورموزا تتسق مع المنهج العلمي، ونفس الشيء ينطبق على باقي الميادين والفروع الفكرية. وقد عرفت أفكار أوغست كونت الثورية انتشارا مهما خلال القرن التاسع عشر، ومن بين الشخصيات التي تأثرت بها كل من هربرت سبنسر وتوماس هكسلي. لكن يبدو أن آثارها على الحركات الفكرية المعاصرة لا يكاد يلحظ، هذا إن وجد فعلا.
الفلسفة الوضعية في القرن العشرين
مع بداية القرن العشرين، ظهر تيار فكري جديد ضمن الفلسفة الوضعية كامتداد لوضعية القرن التاسع عشر، اتخذ لنفسه اسم الوضعية المنطقية، أو التجريبية المنطقية كما فضل أفرادها أن يطلق عليها. اعتمد هذا التيار الفكري الجديد بشكل أكبر على المنهج العقلي، ممثلا في الرياضيات والمنطق، كوسيلة لاستنباط الأحكام والقوانين في مجال العلوم.
انطلق مسار الفلسفة الوضعية الحديثة ابتداء من عشرينيات القرن الماضي، مع إنشاء دائرة فيينا التي ضمت موريتز شليك، و رودولف كارناب، وأوتو نوراث، وهربرت فيغل، إضافة إلى علماء رياضيات آخرين. بعدها، انتقل مركز الوضعية المنطقية إلى شيكاغو، مع كارناب و شارلز موريس، مستفيدة على إثر ذلك من منجزات الفلسفة البراغماتية الأمريكية، ومحاولة توحيد العلوم ضمن مناهج وصيغ دقيقة وعالمية، من خلال نشر مجلات “العلوم الموحدة” و”الموسوعة العالمية للعلوم الموحدة.” استمر تأثير هذه الصيغة من الفلسفة الوضعية إلى حدود الأربعينيات.
ويرجع الصعود المهم للفلسفة الوضعية المنطقية إلى ثلاث تيارات رئيسية: الأبحاث التي قام بها عدد من العلماء ( كارل بيرسون، و بيير دوهيم، و إرنست ماخ…) بخصوص البنية المنطقية للنظرية العلمية، و اقتراحهم إعادة بناء العلوم على أسس تجريبية وحسب؛ أبحاث برتراند راسل و ألفرد نورث وايتهيد الذين حاولا إقامة رياضيات على أسس منطقية بحتة في عملهم المشترك “أصول الرياضيات،” الذي مثل الإطار المنطقي للغة الوضعية المنطقية، إضافة إلى عمل لودفيغ فيتغنشتاين “رسالة منطقية فلسفية” الذي وضّح التداعيات الفلسفية للمنطق الجديد الذي حدده عمل راسل و وايتهيد؛ وفي الأخير، ساهمت الوضعية السياسية في أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في صياغة الوضعية المنطقية على شاكلة النقد الماركسي للأيديولوجيا.
منطلقات الفلسفة الوضعية
تعتبر الفلسفة الوضعية أن طبيعة الفلسفة، بما هي ميدان للبحث، ليست في كونها مذهبا يجسد الحكمة كما هو سائد عموما، ولكن في كونها نشاط وحركة تهدف إلى تحليل ما يقال حول الواقع خلال ممارسة التنظير. جوهر عملية التفلسف يتمثل، إذن، في صياغة افتراضات واضحة خالية من التعقيد، وليس في التوصل إلى مجموعة من الافتراضات التي تشير إلى حقائق علمية فوقية.
الفلسفة، باعتبارها نشاطا مميزا، هي بذلك مرادف للتحليل، إذ في حين تتجه الرياضيات والعلوم إلى التوصل إلى الاستنتاجات انطلاقا من الافتراضات الأولية ومن خلال جمع المعطيات، يتجه التحليل إلى الأساسات ويركز على الافتراضات عوض النتائج، محاولا رصد البنيات المنطقية التي تقوم عليها الأفكار المركبة.
تركز الفلسفة الوضعية كذلك على طبيعة اللغة. فما دام فهمنا للعالم وتفسيرنا له ينبني على عدد من الصياغات اللغوية التي تشكل وعينا وتحدد كيفية استجابتنا للعالم، يصبح عندها أي بحث فلسفي بحثا في اللغة التي نعبر بها عن أفكارنا، ويصير موضوع كل تساؤل فلسفي هو اللغة الهدف، بينما يتم اعتبار اللغة التي صيغ بها التساؤل الفلسفي اللغة الاصطلاحية.
المصدر:
“Positivism.” International Encyclopedia of the Social Sciences. . Encyclopedia.com. 4 Apr. 2017
موضوع رائع
ارجو أن يتم نشر بحث مرتبط بالفيلسوف غاستون باشلار يتعلق بفلسفة العلم لديه للاستفادة… ودمتم سالمين