دراسة أخرى حول الوخز بالإبر تزعم وجود نتائج إيجابيّة، بيد أنّها ابتَلَت بعيوبٍ منهجيّةٍ ونتائجٍ مثيرةٍ للشك
تظهر دراسةٌ جديدةٌ حول الوخز بالإبر تزعم أن الوخز بالإبر يؤدي عمله في شيء معين. فتأتي الصحافة لتتناول الموضوع بسذاجة. فيهتف له مؤيّدو القضيّة من فوق أسطح منازلهم بحفاوة، معلنين بأنّهم قد توصّلوا الى الدليل أخيراً. ولكن بعد ذلك يلفت المشكّكون الانتباه تجاه العيوب الكامنة في الدراسة وأنّها في الواقع لا تثبت شيئاً. ولسوء الحظ فقد أدّت هذه الحكاية الى أن يتغلغل الوخز بالإبر نحو الطب ببطء، لكون أغلب الأشخاص لا يعيرون اهتماماً كافياً لقراءة التداعيات الخطيرة لذلك.
لذا دعونا نكمل الحكاية حول دراسةٍ أخرى تتعلّق بالوخز بالإبر، وهذه الحكاية حول الذبحة الصدريّة الحادّة المستقرّة، أي ذلك الألم الذي يحدث في القلب نتيجة قلّة التغذية الدمويّة. وهذه أهمّ الاستنتاجات:
“وجدت التجارب السريريّة العشوائيّة، والتي تضمّنت 404 مريضاً يعانون من الذبحة الصدريّة الحادّة المستقرّة، أنَّ الوخز بالإبر في مناطق الوخز الواقعة على خطوط الطاقة[1] (meridians) المتأثّرة بالمرض قد قلّل بكثير من وتيرة نوبات الذبحة الصدريّة مقارنةً بكلٍّ من الحالات التي تمّ فيها الوخز بالإبر في مناطق الوخز الواقعة على خطوط الطاقة غير المتأثّرة بالمرض، وبالوخز المزيّف، وكذلك عند عدم الوخز أيضاً.”
ظاهريّاً يبدو الأمر معقولاً. فحجم النتائج ليس ضخماً ولكنّه ليس ضئيلاً في الوقت ذاته. وهنالك ضوابط رقابة مناسبة، وكذلك قيل بأنَّهُ قد تمَّ تعتيم [2] الأمر عليهم. فكانت جميع النتائج مهمّة إحصائيّاً:
“إنَّ متوسّط التغيّرات في وتيرة نوبات الذبحة الصدريّة متباينٌ بشكلٍ كبير بين مجاميع المرضى الأربعة وعلى مدى 16 أسبوعاً: حيث لوحظ أن أكبر نقصان في نوبات الذبحة الصدريّة كان في مجموعة المرضى ذوي خطوط الطاقة المتأثرة بالمرض مقارنةً بالمجموعة غير المتأثّرة به (الفرق 4.07، 95% تدخّل تاجي، 2.43 – 5.71، النتائج الزوجيّة أقل من 0.001)، وعند المقارنة مع مجموعة المرضى الذين تمَّ تعريضهم للوخز المزيّف كان (الفرق 5.18، 95% تدخّل تاجي، 3.54 – 6.81، النتائج الزوجيّة أقل من 0.001)، وعند المقارنة مع مجموعة المرضى الذين لم يتمَّ وخزهم (لائحة الانتظار) كان (الفرق 5.63 نوبات، 95% تدخّل تاجي، 3.99 – 7.27، النتائج الزوجيّة أقل من 0.001).”
حسناً، إذاً لماذا لا يقنعني هذا الكلام؟ من المؤكّد أن دراسةً سريريّةً واحدةً لن تكون مقنعةً أبداً بحدّ ذاتها، ولكن يوجد وراء ذلك الكثير من الأسباب للتشكيك بهذه الدراسة. بدايةً، تزعم الدراسة ظاهريّاً أن الوخز بالإبر في خطوط الطاقة “الصحيحة” فعّالٌ أكثر من الوخز في خطوط الطاقة “غير الصحيحة”. وهنا، أنا استخدم علامات الاقتباس لغرض التهكّم، لأن أكثر من قرنٍ من الزمان على العلوم الطبيّة قادنا الى الاستنتاج الراسخ تماماً والذي يقول أن لا وجود لخطوط الطاقة. حيث ليس لها أي أساس في علم التشريح، أو الفسلجة، أو علم الاحياء، أو في الواقع حتى. فهي مبنيّةٌ بالكامل على مفاهيم ما قبل العلوم والمتعلّقة بطاقة الحياة. لذا فمن المناسب أن ننظر بعين الشكّ لأيّ دراسةٍ تدّعي فجأةً حقيقة وجود تلك الخطوط، تماماً مثلما أشكك بأيِّ دراسةٍ تدّعي أنَّ الأخلاط الأربعة [3] (Four humors) أو نظريّة الميازما [4] maismas حقائق.
لدينا أيضاً آلاف الدراسات السريريّة التي تُجمِعُ الأغلبيّة الساحقة منها على عدم وجود أي اختلاف في التأثير عند القيام بالوخز بالإبر في مختلف المواضع. أما الدراسات القليلة التي تُظهر اختلافاً فهي عبارةٌ عن قيمٍ متطرّفة. بالإضافة الى ذلك، فما يُهم ليس عدد الدراسات، بل نوعيّتها. فأفضل الدراسات من ناحية النوعيّة تميل الى عدم إظهار أي اختلاف، حيث يبدو الأمر كما لو أنّك ترى اختلافاً فقط حينما يكون هنالك عيبٌ كبيرٌ واحدٌ أو أكثر في الدراسة. إذاً ماذا يمكن اعتبار ذلك؟
أحد العيوب الكبرى التي لا بدّ من قراءة الدراسة بتعمّقٍ لإيجادها هو أن طرق علاج “الوخز بالإبر” تتضمّن تحفيزاً كهربائيا. حيث أن التحفيز الكهربائي بحدّ ذاته يعتبر علاجاً، وذلك من خلال التأثيرات الفسلجيّة الخاصّة به. “العلاج بالوخز الكهربائي” ببساطة عبارةٌ عن طريقة للخلط بين نوعين مختلفين من التدخّلات، بحيث ليس بالإمكان الفصل بينهما. وبتلك الطريقة لن يكون لدينا أي فكرة عن أيٍّ من المكوّنين هو الذي يملك ذلك التأثير. وبالرغم من ذلك، فإنَّ التاريخ هنا هو الفيصل، حيث أنَّ العديد من الدراسات التي تدّعي فعّاليّة الوخز بالإبر، هي في الواقع تُزيّف الأمر من خلال القيام بالتحفيز الكهربائي بخفاءٍ على أنّه وخزٌ بالإبر.
زِد على ذلك أنَّ الدراسة كانت معتّمةً جزئيّاً، حيث أن القائمين على الوخز بالإبر كانوا مدركين لحقيقة الأمر. فقد كانوا يعرفون فيما إذا كانوا في مجوعةٍ يتمُّ علاجها أم لا. وهذا خللٌ خطير، حيث تُظهر دراساتٌ سابقة أن التفاعل مع من يقوم بالوخز بالإبر هو في الواقع العامل الأكثر أهمّيةً في تحديد استجابة الشخص. وما يزيد الطين بلّة هو عدم وجود محاولات لقياس نجاح التعتيم على المريض. لذا فهنالك احتمالٌ كبيرٌ أن يكون القائم بالوخز بالإبر قد أثّر على الأشخاص، وأن هذا هو ما كان مسؤولاً بالكامل عن التأثير الذي تمّت ملاحظته.
وما يدعم هذا الاستنتاج هو حقيقة وجود فرقٍ طفيفٍ جدّاً بين مجموعتي المرضى ذوي الوخز المزيّف والذين لم يتمَّ وخزهم. وهذه وصمة عارٍ في وجه النتائج المعتادة في مثل تلك التجارب. ففي التجارب السابقة للوخز بالإبر والتي تبحث عن النتائج غير الموضوعيّة، كان يوجد دائماً فرقٌ في المقارنة المعتّمة بين مجموعة المرضى الذين تم إعطاؤهم نوعاً من الوخز (الحقيقي، أو المزيّف، أو المحفَّز) وبين مجموعة المرضى الذين لم يتمَّ وخزهم. وبالنسبة لي، فإنَّ عدم وجود فرقٍ واضحٍ في هذه الدراسة يشير وبقوّة الى أنَّ مجموعة المرضى ذوي الوخز المزيّف لم تكُن معتّمةً وذلك من خلال تفاعلهم مع القائم بالوخز بالإبر.
وما يقبع تحت هذا الاستنتاج هو حقيقة أن النتيجة كانت بالكامل غير موضوعيّةٍ – حيث كانت عبارة عن تقاريرٍ حول الذبحة الصدريّة. ولم تكن هنالك اجراءاتٌ فسلجيّةٌ موضوعية للرجوع إليها ببساطة لتسجيل الأعراض.
إذاً مرّةً أخرى، لدينا نتيجة غير موضوعيّة تماماً، مع نقصٍ في التعتيم، ولا يوجد تقييمٌ لمدى التعتيم، بالإضافة لنتائجٍ مشكوكٍ فيها (عدم وجود فرق في النتائج بين الوخز المزيّف بالإبر وعدم الوخز). علاوةً على ذلك، فقد تمَّ تعكير صفو النتائج من خلال استخدام التحفيز الكهربائي.
وأخيراً، يوجد سببٌ منطقيٌّ للتشكيك في الدراسة، إن شئت ذلك – حيث ذكر إدزارد أرنست [5] (Edzard Ernst)، أن جميع المؤلّفين صينيّون منتسبون لمدارس الوخز بالإبر أو ما يعرف بالطب الصيني التقليدي. ومن المنطقي هنا أن نأخذ قاعدة الانحياز بنظر الاعتبار عند تقييم دراسةٍ من هذا النوع، حيث من الممكن أن يكون الانحياز الثقافي والسياسي قويّاً. ولكن ليس علينا التخمين بخصوص هذا الموضوع، لأنّنا نملك دليلاً دامغاً.
ففي عام 1998، نشر فيكرز (Vickers) وآخرون مراجعةً لدراسات الوخز بالإبر في مختلف البلدان ووجدوا أنَّه:
“ليس هنالك أيُّ تجربةٍ منشورةٍ في الصين أو روسيا / الإتّحاد السوفييتي سابقاً وجدت أنَّ العلاج الاختباري غير فعّال.”
هذا صحيح – فـ 100% من دراسات الوخز بالإبر المنشورة في الصين كانت إيجابيّة. هذه النتيجة كلّها غير ممكنةٍ إحصائيّاً حتى بالنسبة لعلاجٍ يعمل بشكلٍ واضح. وهذا دليلٌ قويٌّ على الانحياز، الذي من الممكن أن يكون مزيجاً ما بين انحياز الباحث وانحياز الناشر. وحتّى لا تظنَّ بأنَّ هذه النتيجة بعمر 21 عاماً ولذا فمن المحتمل ألا تكون صالحةً لمدّةٍ أطول، فقد وجدت دراسةٌ محدّثة في عام 2014 مرة أخرى أنَّ:
“هذه المراجعة قد وجدت 847 تجربة سريريّةً عشوائيّةً موثّقةً بالتقارير حول الوخز بالإبر في المجلّات الصينيّة. 99.8% منها كانت نتائج إيجابيّة.”
حتّى أن هنالك دليلاً يفسّر جزئيّاً هذه النتائج المثيرة للشك. حيث وجدت المراجعات أنَّ المعايير المنهجيّةً كانت منخفضةً في الدراسات الصينيّة حول الوخز بالإبر، مقارنةً بالغرب:
“جودة المنهجيّة العلميّة كانت أقل من المعايير العالميّة وهنالك ورقةٌ بحثيّةٌ واحدةٌ فقط حول تجربةٍ عشوائيّةٍ مسيطرٍ عليها (Randomized Controlled Trial RCT) كانت قد وصفت العمليّة التقنيّة للتجربة. وهنالك تقاريرٌ أقل حول التأثير على جودة التجربة العشوائية المسيطر عليها (RCT)، مثل مؤهّلات القائم على الوخز بالإبر وخلفيّته الدراسيّة (3.06%)، ردود الفعل السلبيّة (4.23%)، طريقة التعتيم (5.98%) وإجراءات ما بعد التجربة (14.43%).”
في تلك الأثناء وجدت دراسةٌ في عام 2017 أنَّ فقط 8.7% من التجارب السريريّة حول الطب الصيني التقليدي (نصف تلك النسبة كانت دراسات حول الوخز بالإبر) التي تمَّ تسجيلها في موقع clinicaltrials.gov قد ذكرت نتائجها. لذا فهنالك دليلٌ على انحياز الناشر وضُعف المنهجيّة العلميّة. والدراسة الحاليّة خير مثالٍ على ما نراه عادةً – هنالك دائماً حيّز تذبذبٍ في المنهجيّة العلميّة لصالح القليل من الانحياز، وهذا كافٍ لتفسير النتائج.
وبعد عدة عقود من الزمن وآلاف الدراسات حول الوخز بالإبر، ليس هنالك ببساطة سببٌ منطقيٌّ لهذه العيوب المنهجيّة، والتي تمّت الإشارة لها من قَبلُ مراراً وتكراراً، ما لم تكن بالطبع مميّزاتٍ وليست عيوباً. حيث أنَّ الدراسات الدقيقة جدّاً حول الوخز بالإبر تميل إلى كونها سلبيّة، وتُظهر باستمرار عدم وجود أي تأثير لموضع الإبرة أو الثقب الذي تعمله. ولذا، فمُجمل الأدلّة لسريريّة تؤيّد وبقوّة التفسير القائل بأنَّ الوخز بالإبر عبارةٌ عن دواءٍ وهميٍّ مصطنع ذو تأثيرٍ علاجيٍّ فعليٍّ محدودٍ جداً.
إنَّ اختصار الطريق لتجاوز الدقة المنهجيّة هو إحدى الطرق المتّبعة لتصنيع أدلّةٍ إيجابيّة. وهنالك ضغطٌ سياسيٌّ وثقافيٌّ شديدين للترويج للطبّ الصيني التقليدي، إضافةً إلى كون الصين قد ابتَلَت بسوء السلوك العلمي والإحتيال الذي من شأنه أن يقلل من مقدار بلدانٍ بتلك الأهمّية.
إذاً في النهاية، لدينا دراسةٌ تمَّ الترويج لها على أنّها قالبةٌ للموازين بخصوص الوخز بالإبر، لكنّها في الواقع ليست سوى واحدةٍ من نفس تلك الدراسات الملأى بالعيوب وغير المقنعة تماماً.
الهامش
[1] خطوط الطاقة (meridians): مفهومٌ شائع في الطب الصيني التقليدي حول المسارات التي تنساب خلالها طاقة الحياة في الجسد والمسمّاة (كي).
[2] المقصود بالتعتيم هنا هو أن الأشخاص المؤدّين لعمليّة الوخز بالإبر والمرضى الذين تُجرى عليهم تلك العملية من المفترض أنّهم لا يعرفون فيما إذا كان الوخز يُجرى على خطوط الطاقة المزعومة أم لا.
[3] الأخلاط الأربعة (Four humors): نظام طبّي قديم استخدمه اليونانيّون والرومانيّون لتوضيح طرق عمل الجسم البشري. حيث افترض وجود اربعة سوائل أو اخلاط تؤثر على مزاج وصحّة الشخص في حالة زيادتها أو نقصانها. وهذه الأخلاط الاربعة هي الدم والعصارة الصفراء والعصارة السوداء والبلغم.
[4] نظريّة الميازما (miasmas): نظريّة قديمة تفترض أن الأمراض الوبائية كالكوليرا والطاعون كانت تحدث بسبب نوع من الهواء الفاسد المعروف بإسم هواء الليل والناتج عن تعفّن المواد العضويّة.
[5] إدزارد إرنست (Edzard Ernst): طبيب وباحث أكاديمي متخصص في دراسة الطب البديل والتكميلي. كان سابقًا أستاذًا للطب التكميلي بجامعة إكستر، وهو أول منصب أكاديمي من نوعه في العالم.
المصدر:
Steven Novella, “Study on Acupuncture for Angina“,sciencebasedmedicine.org, July 31, 2019