Podcast: Play in new window | Download
يتذكر صديقي مقالاً حول القضية التي نناقشها، لكنه لا يذكر أين وجد المقال، ومَنْ الكاتب، ولا حتى الموقع. هو أيضاً لا يذكر المقال جيداً، بل يذكر جزءاً مهماً ورد فيه فقط. يتجه فوراً لبحث جوجل على هاتفه ويبحث عن المقال، ثم يريه لي. هكذا يحدث معي أيضاً ومعنا كلنا، ننسى اسم الألبوم والاغنية والمطرب لكننا نتذكر قطعة من كلمات الأغنية فنبحث عنها ونجدها مرة ثانية. لدينا قوائم تساعدنا للوصول إلى ما نريد فوراً، روابط مخزونة في المتصفح، وفيديوهات قمنا بالإعجاب بها. وفي أحسن الأحوال، هناك دفتر ملاحظات الكتروني أيضاً يضم بعض الروابط الهامة جداً.
في أول المحاضرات بدراستي لهندسة البرمجيات عرفت أن الذاكرة الحاسوبية تعمل عبر المؤشرات، الكثير من العناوين والمؤشرات لعناوين أخرى ثم لعناوين أخرى حتى يصل الحاسوب بسرعة فائقة للبيانات المطلوبة. لكن تدريجياً أصبحنا نشعر أننا نعمل بنفس الطريقة، وأننا لكي نعلم شيئاً أحياناً فإننا لا نحتاج لإن نعلمه كلياً، بل نحتاج مؤشراً إلى موقعه على الانترنت لكي نشاركه لمن نريد.
شخصياً كنت من جيل انتقل فيه من الاستخدام الاعتيادي للحاسوب دون انترنت، ثم مع اتصال انترنت بطيء جداً ومن ثم نحو ثورة الانترنت السريع والهواتف المحمولة، وأثناء ذلك تغير عملي ودراستي ومررت بأحوال عديدة في الحياة، لكنني كنت أشعر أن ذاكرتي أصبحت اسوء. لقد حان الوقت لطرح السؤال على البحوث العلمية المتوفرة: هل يساهم البحث على الإنترنت خصوصاً وثورة المعلومات عموماً في تغيير نمط ذاكرتنا؟
دراسة الباحثة بيتسي سبارو (Betsy Sparrow) من جامعة كولومبيا تتضمن الإجابة المثالية حول سؤالنا، عنوان الدراسة هو “آثار جوجل على ذاكرتنا: العواقب الادراكية لامتلاك المعلومات على أطراف اصابعنا” وهي تعني بذلك امتلاك المعلومات من خلال البحث السريع على الانترنت.
تتكون الدراسة من أربعة تجارب حول أنماط تذكر المعلومات وتأثير البحث عليها. في التجربة الثانية من الدراسة عرضت على المشاركين مجموعة من المعلومات مع إمكانية أن يبحثوا عنها لاحقاً، والفئة الثانية دون إمكانية البحث عنها لاحقاً. وقد لوحظ أن استعادة المعلومات وتذكرها في الفئة التي تم إخبار المشاركين بأنهم سيستطيعون البحث عنها كانت اسوء. المخيف في الأمر ما ذكرته الباحثة في الدراسة وهو أن المشاركين لن يستطيعوا استعادة المعلومات بنفس الكفاءة بغض النظر عما إذا كانوا يعلمون أو لا يعلمون أنهم سيتم امتحانهم بها لاحقاً! أي أن ذلك قد يؤثر على نمط الدراسة للامتحانات بشكل كبير.
في لقاءها مع قناة بي بي اس (PBS) تقول سبارو: “عندما لا يعلم الأشخاص شيئاً، فإنهم يفكرون بالحاسوب أولاً كمكان لإيجاد المعلومات، وعندما يعتقد الأشخاص بأن لديهم الامكانية للوصول الى المعلومات لاحقاً، فهم لا يتذكرون المعلومات جيداً مثلما لو كانوا يتصورون أنهم لن يصلوا إلى المعلومات. في الحالة الأولى فهم يقومون بتعيين موضع المعلومات خارجياً بدل من تعيينها داخلياً.” وتضيف سبارو “يميل الأشخاص الى إعطاء أولوية لمكان إيجاد الشيء بدلاً من الشيء ذاته”.
تعرف سبارو في اللقاء ذاته ما تسميه “الذاكرة التبادلية” (Transactive memory) وتقول أننا نميل لخزن المعلومات خارجياً للأشياء التي لا نعتقد بأننا خبراء بها أو أنها ليست أساسية بالنسبة الينا. وتشبه الأمر تاريخياً باعتماد البشر على معلومات أشخاص آخرين محيطين بهم، أشخاص في العمل أو المنزل نسألهم حول الأشياء عندما لا نعرفها، غير أننا لا نكون مهتمين بترميز المعلومات داخلياً في عقولنا.
هل هذا يعني أننا أقل ذكاءاً الآن؟ ليس بالضرورة، كما تجيب سبارو في لقاء آخر تجريه معها جامعتها، إذ تقول أن الأمر لا يرتبط بذكائنا بالضرورة.
نضيف لذلك، إن الاعتماد الأكبر على نتائج البحث قد يشير إلى قدرة أخرى متميزة في الذاكرة العاملة لدينا، الأمر ما يستنتجه الباحث جاكيك جويزدكا (Jacek Gwizdka) من جامعة تيكساس في بحثه المنشور عام 2017، إذ يخلص إلى أن الأشخاص الذين لهم معدل أعلى في الذاكرة العاملة يميلون إلى القيام بعمليات البحث على الانترنت بشكل أكثر كثافة. فلعلنا نستعيض عن التعيين الداخلي للمعلومات بالمزيد من التعيين الخارجي للمعلومات – الذي تشير إليه سبارو – مما يجعلنا نغطي نطاقاً أوسع من المعلومات.
ترى اليزابيث مارش (Elizabeth J.Marsh) الذاكرة التبادلية كميزة وتسميه التوسيع الرقمي للعقل، مُتطرِقة إلى الكثير من الأمثلة في توسيع الذاكرة بالاعتماد على زملاء العمل والى الكفاءة الناتجة عن ذلك من عمل المتخصصين سوية، وفي هذه الحالة فإن للأنترنت فوائد أكبر بكثير من زملاء العمل. لكنها في الوقت نفسه تلفت النظر إلى بعض ما يثير القلق، مثلاً، كيف ستتغير طريقتنا بالتعامل مع المعلومات بشكل عام، قراءة الصحف مثلاً تختلف عن قراءة المقالات على الانترنت. أيضاً، هل ستصبح قراءتنا للمعلومات أكثر سطحية؟ ومع كل المعلومات المضللة في الانترنت، كيف سيؤثر ذلك علينا؟
في النهاية لا نستطيع الحكم بشكل قطعي حول سلبية ما نفعله من توسيع لذاكرتنا نحو روابط خارجية أو حول سلبية الذاكرة التبادلية بشكل عام. كما لا يمكن أن نصفه بأنه ضعف في الذاكرة، فللأمر إيجابيات، وقد يبدو أننا نتكيف مع ثورة المعلومات بأن نوسع نطاق معلوماتنا بهذا الشكل. لكن ايضاً، فإن الدراسات لم تزل في مهدها لتغطية جميع جوانب الإدراك وتأثرها بثورة المعلومات، إذ لا يقتصر الأمر على الذاكرة.
المصادر:
- Sparrow, Betsy, Jenny Liu, and Daniel M. Wegner. “Google effects on memory: Cognitive consequences of having information at our fingertips.” science 333.6043 (2011): 776-778.
- Google’s Effects on Memory, PBS NEWSHOUR, 07/14/2011
- Memory Works Differently in the Age of Google, ColumbiaNews, YouTube, 15 Jul 2011
- Marsh, Elizabeth J., and Suparna Rajaram. “The digital expansion of the mind: Implications of internet usage for memory and cognition.” Journal of Applied Research in Memory and Cognition (2019).