في مطلع القرن العشرين، لاحظ عالم النفس الإنجليزي تشارلز سبيرمان أن أداء الأطفال في المهام الذهنية التي يقدمها لهم (خارج ما يدرسونه في المدرسة) كان مترابطاً احصائياً. اسم سبيرمان يرد علينا أيضاً عندما نقرأ عن الترابط الاحصائي، إذ أن هناك معامل للترابط الاحصائي بإسمه (والذي يختلف عن معامل الترابط الاحصائي الآخر لبيرسون). عرف سبيرمان ذلك المفهوم بالذكاء العام مفترضاً أن الاختبارات الذهنية ستأتي بنتائج مرتفعة جميعها لدى الأشخاص الذين لديهم ذكاء عام مرتفع. وقد عرف هذا المعامل بعده بـ (g) وسنسميه في هذا المقال بالمعامل جيم.
يعتمد احتساب المعامل جيم على ترتيب المواد او المهام الادراكية بجدول ثم احتساب الترابط الاحصائي بين كل مهمتين على حدة وفي النهاية جمع كل ذلك بمعامل ترابط واحد سيمثل الترابط العام بين جميع تلك النسب وهذا المعامل هو الذي سيسمى المعامل جيم أو المعامل العام. والمبدأ رغم كونه شائع في اختبارات الذكاء لكنه مبدأ احصائي عام له تطبيقات أخرى.
أول نقد ظهر لمعامل جيم كان من السير جودفري تومسون (Godfrey Thomson) الذي تحدى المبدأ احصائياً ومنطقياً بأن المجاميع المختلفة من الاختبارات قد تكون متداخلة وبالتالي فإن عامل الترابط يظهر أو في حال عدم ظهور عامل الترابط العام جيم فإن المجاميع قد تكون في علاقة أكثر تعقيداً من أن ترصد بالترابط الاحصائي وفي الحالتين فلا يمكن التمييز رياضياً بين التداخل بين المجاميع والترابط الاحصائي بينها[1]. إن ذلك قد يبطل مبدأ الذكاء العام بسبب أن الخلل يكمن في قصورنا عن فهم المهام المحددة المختلفة للذكاء والفصل بينها وبالتالي فإن ما نراه من ترابط بين المهام الادراكية يرجع الى التداخل بينها والى اننا نرصد الأمر نفسه بعدة اختبارات. أو برؤية أخرى ممكنة، هو أننا نستخدم ذات المهام لنفس المشاكل التي نواجهها في العالم وبالتالي فليس هناك معامل للذكاء العام بل يبدو الأمر بهذه الطريقة فقط[2].
لم يصدر نقد لما قدمه تومسون، ولا رد منطقي على الحجة المحكمة التي قدمها. مع ذلك، فإن كثيراً من الأبحاث دأبت على احترام مبدأ معامل جيم واعتماده ففي النهاية هو قد لا يمتلك الصلابة المنطقية لكنه يعبر عن أمر ملحوظ ويعتبر أحد الأشكال المتوفرة للتعبير عن قدرات الانسان الذهنية بشكل ظاهري وبغض النظر عن المكنون البيولوجي والتفصيلي لتلك المقدرات.
أول ما يتبادر للذهن من نقد للمعامل جيم هو: ماذا لو كان هناك شخص يمتلك قدرات ذهنية متباينة؟ لن يكون هناك ترابطات إحصائية كبيرة بين نتائج القدرات الذهنية المختلفة له وبالتالي فسيحصل على نتيجة منخفضة رغم قوة بعض قدراته الذهنية. هل هناك دليل على عدم وجود شخص كهذا؟ هل هناك دليل على أن جميع ذوي القدرات الذهنية المميزة لديهم معامل جيم واضح؟ لا دليل على الحالتين.[3]
ومن المعترضين على سبيرمان أيضاً عالم النفس الأمريكي جوي بول جيلفورد (Joy Paul Guilford) الذي أسس لمبدأ عرف بتركيب الفكر (Structure-of-intellect) والذي يتميز عن الفكرة العامة للذكاء بكونه متعدد الأبعاد، وبالتالي فلا يمكن التعبير عن هذه الابعاد المختلفة بقيمة رقمية واحدة. جاء جيلفورد ايضاً بمجموعة من الاختبارات الذهنية لأفراد من القوة الجوية للولايات المتحدة وأثبت بأن عامل جيم لديهم كان صفراً! غير أن عالم النفس الأمريكي المؤيد للعامل جيم ارثر جينسن فند ذلك وفنده آخرون عبر اظهار أخطاء في الحسابات. ومع ذلك فما يزال هناك بعض التأييد لفكرة جيلفورد (نفس المصدر لبحث جينسن).
وعلى أساس مبدأ الذكاء العام فقد أسس عالم النفس البريطاني الأمريكي ريموند كاتيل مبدأ مشتق من النظرية الأم حيث قسم معامل جيم إلى قسمين أسماهما السائل والمتبلور (Liquid and Crystalized). يرمز السائل للمقدرة على حل المسائل التي يطلع عليها الانسان لأول مرة ويدخل في المهام المشمولة بذلك مهمة الفهم والتعلم وحل المشاكل. أما المتبلور فيشمل تطبيق ما تم تعلمه أساساً على مشاكل أخرى. يرى جينسن أن في هذا المبدأ اشكاليتين فهو إما ان يكون مهملاً للفروقات الثقافية أو ان يكون شديد التركيز عليها. يقول جينسن أن التباين الثقافي في مجموعة معينة سيرفع الاقتران بين المعامل جيم المتبلور والمعامل جيم السائل، كما يرى أن هناك تقارباً كبيراً في النتائج بين المعامل جيم السائل والمعامل جيم من المبدأ الأصلي لسبيرمان.
هوارد غاردنير (Howard Earl Gardner) من جهة أخرى وضع مقياساً سماه “الذكاءات السبع” أو مبدأ الذكاء المتعدد. وقد وضع فيه الذكاء الموسيقي، اللغوي، البصري، المنطقي-الرياضياتي، الجسدي-الحركي، الشخصي، بين-الأشخاص، الطبيعي، وأضاف آخرون لهذه الأصناف. وقد نقدت هذه الفرضية لضعف الدليل التجريبي[4]. أما حول صلتها بمعامل الذكاء العام فيقول جينسن أن أصناف الذكاء الواردة فيها محملة بذات القدرات الذهنية التي يتضمنها معامل جيم. وعدا ذلك فإن هناك إشكاليات أساسية في هذه الفرضية لاسيما في ضعف تعريف بعض المفاهيم او الاختلاف عليها مثل الذكاء الحركي او الجسدي.
أيضاً اقترح روبيرت شترينبيرغ (Robert Sternberg) أن للذكاء أبعاد مختلفة مستقلة عن المعامل جيم، وهي التحليلي، التطبيقي والابداعي وقد قدم وسائل لقياسها ونظريته تعد أكثر قوة من النظريات المذكورة آنفاً ذات الابعاد المتعددة او الأصناف المتعددة من الذكاء.
بثقة يقول جينسن أن جميع الباحثين في مجال الاختبارات الذهنية اليوم يتقبلون فكرة وجود ترابط احصائي موجب بين نتائج الاختبارات الذهنية المختلفة.
يبقى هناك قضية، ما العلاقة بين مقياس الذكاء (IQ) وبين معامل الذكاء العام؟ يعتبر اختبار (IQ) اختباراً ثابت البنود والاقسام والمعايير للذكاء وهو بذاته يتكون من مجموعة من الاختبارات. اما معامل الذكاء العام فهو مبدأ لاحتساب الترابط الاحصائي بين أي قيم مختلفة تعبر عن الذكاء. فيمكن أن يتم احتساب معامل الذكاء العام للقيم الناتجة من اختبارات آي كيو مثلاً. يمكن أن يعبر الاثنان عن الأمر نفسه، فيتم التعبير عن معامل الذكاء العام لنتائج فحص (IQ).
[1] Thomson, Godfrey H. “A hierarchy without a general factor.” British Journal of Psychology 8.3 (1916): 271.
[2] Lyndsay T Wilson (Nov 21, 2017). A Deeper Look at the G Factor. Retrieved Aug 14, 2021 from Explorable.com: https://explorable.com/g-factor
[3] Jensen, Arthur R. “The g factor: The science of mental ability.” Psicothema 11.2 (1999): 445-446.
[4] Gardner, Howard E. Frames of mind: The theory of multiple intelligences. Hachette Uk, 2011.