عَبَر البشر وأسلافهم إثيوبيا منذ عهود سحيقة، ولذلك تتميز إثيوبيا بالتنوع الجيني والثقافي واللغوي الغني، الأمر الذي يجعل دراستها سبيلاً لفهم التنوع والتباين في افريقيا. عُثر على الكثير من الأدلة الأحفورية الرئيسية لأصول الإنسان وتطوره في إثيوبيا الحديثة، سواء أكانت لأشباه البشر المبكرة أو لأقدم بقايا بشرية حديثة: مثل أمو Omo (منذ 195 ألف سنة مضت) والهموسابيان. ربما لهذه الأسباب وبسبب موقع إثيوبيا الجغرافي بين إفريقيا وأوراسيا، غالباً ما تُستخدم أثيوبيا في الدراسات الجينية كنقطة انطلاق للتوسع البشري الحديث.
عند ربط التنوع الجيني الحالي بسكان العصر الحجري المتوسط والمتأخر في إفريقيا، من المهم أن نأخذ بعين الاعتبار احتمال عدم استمرار وجود السكان على المدى الطويل في المنطقة وندرة المعلومات المتعلقة بإثيوبيا على مدى 200 ألف سنة مضت. على الرغم من أن الدراسات الأثرية التي تركز على آلاف السنين القليلة الماضية، وثّقت التطورات الإثيوبية المتعلقة بالزراعة المبكرة للأنواع المحلية مثل التيف (نبات عشبي ينتمي إلى الفصيلة النجيلية ويعد محصولاً رئيسياً في إثيوبيا وتستعمل حبوبه لإنتاج الطحين). والاينسيت (Ensete) والقهوة. كما كشفت أيضاً عن بعض التأثيرات الثقافية من الخارج، مثل زراعة القمح والشعير، والتي نشأت في الهلال الخصيب ووصلت إثيوبيا على الأرجح عبر مصر خلال سلسلة الرحلات التجارية الموثّقة الأولى. دليل آخر على التنوع التاريخي للشعب الإثيوبي يأتي من الدراسات اللغوية. يعتبر انتشار العائلتين اللغويتين الرئيسيتين اللتين يتم التحدث بهما في إثيوبيا اليوم – الأفرو آسيوية والنيلية – نتيجة الأحداث الثقافية والديموغرافية في الماضي.
كما أن وجود ثلاثة فروع أفرو آسيوية متنوعة (أوموتية، وسامية، وكوشية) يجعل القرن الأفريقي أحد المصادر المحتملة لهذه العائلة، على الرغم من أن الفرع الإثيوبي-السامي من المحتمل أن يكون قد نشأ في مرحلة لاحقة في الشرق الأوسط. اللغات النيلية، المتمثلة في إثيوبيا بفروع شرق السودان وكوناما وكومان، هي أكثر انتشاراً في السودان، وربما يكون وجودها في إثيوبيا نتيجة لعمليات ديموغرافية حديثة. بالمثل، تشير الدراسات الجينية إلى أن مكونًا رئيسيًا في الآونة الأخيرة نشأ من أصل إثيوبي خارج إفريقيا: على سبيل المثال، نصف الأنماط الفردانية لـلمتقدّرات (mtDNA: هو الحمض النووي الموجود في بيوت الطاقة في الخلية والذي يورث من الأمهات) وأكثر من خُمس من الأنماط الفردانية من كروسوموم Y الموجودة في إثيوبيا تنتمي إلى سلالات تم نسبها، على أساس معايير علم الجغرافيا، إلى أصل غير أفريقي وليس إلى أصل أفريقي من جنوب الصحراء الكبرى. هذه الأحداث التاريخية المختلطة هي نفسها موضع اهتمام المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا واللغويين وكذلك علماء الوراثة.
ومع ذلك، نادراً ما شملت هذه الدراسات الجينية الإثيوبيين أنفسهم؛ هم غائبون عن المجموعات المستخدمة في الدراسة، مثل مشروع تنوع الجينوم البشري (HGDP ) ومشروع هاب ماب الدولي (Hap Map) . لذلك، اقتصر فهمنا لأنماط التنوع على مستوى الجينوم في إفريقيا على السكان من وسط وغرب إفريقيا. الأمر الذي أدى إلى عدم اكتمال الصورة للتنوع الجيني في اثيوبيا، مما يؤثر على دراسة أصولنا كنوع وفي تعقب انتشارنا خارج افريقيا.
لذلك، قامت إحدى الدراسات بالتنميط الجيني ل 235 شخصاً من اثيوبيا ومن بلدين مجاورين لها (السودان والصومال). تضمنت العينات ممثلين لمجموعة المناطق الجغرافية وجميع المجموعات اللغوية الأربع (سامية، كوشية، أوموتية، ونيلية). وبالنسبة للدراسات المقارنة، قاموا بدمج البيانات الإثيوبية مع البيانات التي نشرها كل من مشروعي الجينوم البشري والهاب ماب، بالإضافة إلى دراسات أكثر تركيزًا قاموا بالتنميط الجيني ل 24عينة سودانية و23 عينة صومالية.
عند مقارنة العينات التي تعود لأصل افريقي مع نظيراتها التي لا تعود له، وعند تحديد الأنماط الفردانية (Haplotype) الافريقية وغير الافريقية لكل فرد اثيوبي، تبيّن أن النمط الفرداني غير الافريقي الذي يتضمن الأليل SLC24A5 الذي يرتبط بصبغة الجلد الفاتح في أوروبا والذي تدفق إلى افريقيا منذ حوالي 3000 سنة. ووُجد أنه أكثر تشابهاً مع الساكنين في بلاد الشام أكثر منه في الجزيرة العربية. لكن الطريق الرئيسي للتوسع والانتشار خارج افريقيا بقي غامضاً. (لفهم التفاصيل حول الانماط الفردانية وغيرها من المصطلحات الجينية راجع مقال كیف یعمل فحص السلالة – العلوم الحقيقية)
أما النتائج الأخرى كانت كما يلي:
يبرز الإثيوبيون الساميون الكوشيون كمجموعة تتميز بنمط فرداني غير أفريقي بنسبة (40٪ – 50٪). بينما تظهر عند الإثيوبيون النيليون والأوموتيون القليل من الأنماط الفردانية غير الأفريقية أو قد لا تظهر على الإطلاق. ومن اللافت للنظر أن سكان شمال إفريقيا يتشاركون بشكل كبير مع السكان غير الأفارقة بنسبة (80٪) مقارنة بالإثيوبيين (40٪ – 50٪).
أما فيما يتعلق بالأحداث الديموغرافية القديمة، كان هناك حاجة إلى فصل الأنماط الفردانية الأفريقية القديمة المحتملة عن تلك التي نشأت من الأحدث. قُسمت الجينومات إلى افريقية وغير افريقية وحُسبت المسافة الجينية بين الاثيوبيين الساميين وسكان بلاد الشام وشمال افريقيا وشبه الجزيرة العربية وذلك بطرقيتين: تحليل الجينوم بأكمله وتحليل النمط الفرداني غيرالافريقي فقط. في تحليل الجينوم الكامل، يبدو أن السكان الساميين الإثيوبيين والكوشيين هم الأقرب إلى اليمنيين وعند تحليل المكون غير الأفريقي فقط، يكونون أقرب إلى المصريين والسكان الذين يسكنون بلاد الشام. اُكتشفت هذه النتيجة بشكل أكبر من خلال حساب الحد الأدنى للاختلاف بين الأفارقة وغير الأفارقة لكامل الجينوم الخاص بهم، وللمكون غير الأفريقي فقط. تتوافق هذه النتائج مع نتائج التحليلات التي أظهرت أن المصريين أقرب من اليمنيين إلى الإثيوبيين في مكونهم غير الأفريقي. التفسير المحتمل لهذه النتيجة هو أنه كان هناك تدفق للجينات إلى إثيوبيا من بلاد الشام ومصر، على الرغم من أنه لا يمكن القول فيما إذا كان تدفق الجينات كان عرضياً أم مستمراً.
وبما يخص الاختلاط، كانت نتائج الاختلاط بين السكان تعتمد على تعرض حزم الجينات المتباينة وظيفياً في بيئات مختلفة إلى انتقاءً إيجابي أو سلبي، اعتمادًا على ما إذا كانت مساهمتها التكيفية مفيدة أو ضارة في البيئة الجديدة، أو ما إذا كانت تؤثر على العوامل الاجتماعية مثل الانتقاء الجنسي. تبين أن النسب المقدرة للأصول الافريقية وغير الافريقية عند السكان الإثيوبيين (ساميين وكوشيين) متساوية تقريباً، ولوحظ أن الجين SLC24A5 مساهم رئيسي في اختلافات التصبغ بين الأفارقة والأوروبيين ومرشح قوي للانتقاء الإيجابي في أوروبا. وهو أحد أكثر الجينات تمايزًا بين السكان الأفارقة والأوروبيين. ومن المحتمل أنه انتقل الى اثيوبيا نتيجة الهجرة المفترضة من بلاد الشام إلى إثيوبيا والتي تدعمها الأدلة اللغوية.
ولا ننسى الأدلة التاريخية كمملكة أكسوم القديمة التي تبنت الديانة المسيحية في وقت مبكر من القرن الرابع ونتيجة لذلك استمرت الاتصالات التاريخية بين إثيوبيا والشرق الأوسط. كما كانت الكنيسة الإثيوبية على اتصال منتظم مع الإسكندرية في مصر. تتجلى هذه الروابط طويلة الأمد بين المنطقتين في الآثار التي لا تزال واضحة في الثقافة الإثيوبية الحديثة، بالإضافة إلى الروابط الجينية.
تشير وفرة من الأدلة إلى أن غير الأفارقة الحديثين جميعهم ينحدرون في الغالب من مصدر أفريقي واحد نتيجة هجرة حدثت بين 50 و70 ألف سنة من البحر الأحمر إلى بلاد الشام، أو عبر مصبه إلى شبه الجزيرة العربية. يفترض أن المهاجرين قد تركوا بصماتهم الجينية في مصر إذا سلكوا الطريق الشمالي أو في إثيوبيا إذا سلكوا الطريق الجنوبي.
في النهاية، تعطي الأنماط الجينية الإثيوبية رؤى ثاقبة للأسئلة التطورية عبر عدة مراحل زمنية. ويمكن القول إن الإثيوبيين المعاصرين هم أفضل الممثلين الأحياء لأسلاف البشر.
الدراسة
Pagani, L., Kivisild, T., Tarekegn, A., Ekong, R., Plaster, C., Gallego Romero, I., Ayub, Q., Mehdi, S. Qasim, Thomas, Mark G., Luiselli, D., Bekele, E., Bradman, N., Balding, David J., & Tyler-Smith, C. (2012). Ethiopian Genetic Diversity Reveals Linguistic Stratification and Complex Influences on the Ethiopian Gene Pool. The American Journal of Human Genetics, 91(1), 83–96. https://doi.org/10.1016/j.ajhg.2012.05.015
الترجمه الدقيقه والمترابطه جعلت النص مشوقا واضحا..رؤى الشيخ ..مع كل فخامه الاسم اعطت مجلتكم سحرا خاصا
شكرا لك ایاد، ستسعد رؤى بتعليقك. مع ذلك فالمقال هو من اعداد رؤى وهو تلخيص للدراسة وليس مترجماً.
شكرا للتوضيح الذي ينتهي بنا في نفس الكأس..صحيح ان رؤى اينما صبت مواهبها ابدعت..اعداد او تلخيص او ترجمه
الشكر لكم ولمجلتكم ولرؤى